تعود جذور العلاقات التونسية الليبية إلى مراحل غابرة في التاريخ وهو ما تجلى في مختلف الحقب سواء منها ما تعلق بالامتداد الجغرافي المفتوح بينهما أم بالنضال المشترك ضد المستعمر أم فيما تلاه من بناء البلدين بعد الاستقلال.
وتبين كل الشواهد التاريخية بين البلدين أن تحديات البناء الاقتصادي المشترك والتبادل التجاري والرخاء الاقتصادي في البلدين مرتبط أشد الارتباط انطلاقًا من التجارة الغدامسية التي تواصلت طيلة العهد العثماني ولم تنقطع إلا بالاستعمار الفرنسي في تونس والإيطالي في ليبيا التي ربطت إفريقيا جنوب الصحراء بشمالها وكانت تونس العاصمة محطتها النهاية الرئيسية، وما زلت “دار الفزازنة” بقلب العاصمة التونسية خير دليل على ذلك، مرورًا بما اصطلح عليه بـ”اقتصاد لوكربي” الذي كان عقب الحظر الشامل الذي فرض على ليبيا وكان لتونس نصيب مهم في رفعه بطرق متعددة وتزويد السوق الليبية بكل احتياجاتها، نهاية بالمساهمة الاقتصادية التونسية المعتبرة في إنجاح الثورة في ليبيا والإسناد المتبادل الذي لولاه لما نجحت الثورة في البلدين، ويتطلع الشعبان لتدعيمه خدمة للمصلحة الأخوية المشتركة وبناء لبنة التعاون المغاربي المأمول.
شرعت الدولة التونسية منذ الاستقلال مباشرة في تقنين هذه العلاقات الأخوية المهمة لتكون في مستوى تطلعات الشعبين وذلك عبر المسارعة في توقيع اتفاقية إطارية للصداقة وحسن الجوار مباشرة بعد الحصول على الاستقلال (من أولى الاتفاقيات التي وقعتها الدولة التونسية) وتنويع مجالات التعاون وتكثيفها، إضافة للسهر على إيفاد أفضل العناصر التونسية لتمثيل الدولة في ليبيا (المصمودي وزير الخارجية السابق، الباجي قائد السبسي مبعوثًا خاصًا ووزيرًا للخارجية ورئيسًا للحكومة إبان ثورة 17 فبراير).
ارتفع عدد الاتفاقات التونسية الليبية ليبلغ أكثر من 100 اتفاقية كان للاقتصاد نصيب الأسد منها بنسبة تناهز الثلثين كما يشير الجدول التالي:
الاتفاقية | مكان التوقيع | تاريخ التوقيع |
معاهدة صداقية وحسن جوار | تونس | 06-01-1957 |
اتفاقية متعلقة بالتعاون في الميدان الفلاحي | طرابلس | 14-06-1961 |
اتفاقية متعلقة بالصحة | طرابلس | 14-06-1961 |
اتفاقية متعلقة بالمواصلات | طرابلس | 14-06-1961 |
اتفاقية متعلقة بالنقل | طرابلس | 14-06-1961 |
تبادل رسائل متعلق بالحدود | طرابلس | 14-06-1961 |
اتفاق تجاري | طرابلس | 14-06-1961 |
اتفاقية منطقة التبادل الحرّ: التي تنص على إعفاء جميع المنتجات المتبادلة من المعاليم الجمركية والرسوم والضرائب ذات الأثر المماثل | المبرمة في يونيو 2001، التي دخلت حيز التنفيذ منذ يناير 2002 | |
اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى: التي تنص على الإعفاء الكامل من المعاليم الديوانية والرسوم ذات الأثر المماثل للمنتجات المتبادلة | يناير 2005. | |
اتفاق تعاون في مجال الاعتراف المتبادل بشهادات تقييم المطابقة | 19 من فبراير 2005 | |
مذكرة تفاهم بين مركز النهوض بالصادرات التونسي والمركز الليبي لتنمية الصادرات | 12 من يونيو 2013 | |
سبع اتفاقيات توأمة بين غرف التجارة والصناعة التونسية ونظيراتها الليبية | ||
اتفاقية حماية الاستثمارات | 3 من أكتوبر 2005 ودخلت حيز التطبيق بتاريخ 22 من مايو 2006. | |
اتفاقية الدفع الثنائية الموحدة بين أقطار اتحاد المغرب العربي |
12 من ديسمبر 1991 |
وتواصلت العلاقات الاقتصادية طيلة العقود السابقة ضامنة لمصلحة البلدين في كنف الربح المشترك والمتبادل، مثلما يبينه الرسم البياني:
قيمة الصادرات (أخضر) – قيمة الواردات (أزرق)
وقد اتسمت المبادلات التجارية خلال الفترة بين 1990 و2010 بفائض تجاري لفائدة تونس بلغ في المعدل 47.1 مليون دينار تونسي وهو أمر منطقي بالنظر إلى البلدين وطبيعة اقتصاد كل منهما، يذكر أن الفائض التجاري بلغ أوجه سنة 2010 بتسجيل فائض تجاري 642.2 مليون دينار وهو أمر فيه مفارقة كبيرة، ولكن تلك هي أحكام الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد الذي هو عصب السياسة، في حين تم تسجيل أكبر عجز تجاري مع ليبيا سنة 2008 بمبلغ يقدر بـ254 مليون دينار، إلا أن الملاحظ والمتتبع للعلاقات الاقتصادية بين البلدين بعد 2011 يمكن أن يلاحظ تحسن الفائض التجاري لفائدة تونس، مثلما يبينه الرسم البياني التالي:
كما يمكن أن نلاحظ بجلاء تراجع جل الصادرات التونسية فيما عدا الصادرات الفلاحية، مثلما يبنه الجدول البياني التالي:
كما يلاحظ المتتبع تطور ظاهرة التهريب والتجارة الموازية بشكل كبير وامتدادها لعدد كبير من المواد الفلاحية والغذائية والسلع المدعومة، حيث يعادل حجم التجارة الموازية مع ليبيا أكثر من نصف المعاملات النظامية، مما يحد من نسبة النمو بنحو 1%.
ويشهد المنفذ الجمركي المشترك براس جدير، وهو البوابة الأهم بالنسبة لتنقل السلع والعربات والأشخاص، أحداثًا تتسبّب أحيانًا في غلقه وتؤثر في عملية انسياب السلع من الجانبين وبطء الإجراءات الجمركية.
التهريب و”الإرهاب” والتجارة الموازية.. حق أريد به باطل
موضوع التهريب والإرهاب والتجارة الموازية مسألة بالغة التعقيد وأسبابها عميقة ومرتبطة في جزء منها بأعطاب متعلقة بدولة ما بعد الاستقلال وعلاقتها بمواطنيها، بل البعض منها سابق لها ويعود إلى رؤية المركز والأطراف.
يستسهل البعض الذهاب في تفسيرات بسيطة من نوع الربط بين الثالوث (التهريب/الجماعات العنيفة والمتطرفة/الهجرة غير النظامية) غير أن شواهد متعددة سواء قبل 2011 أم بعدها تبين أن الأمر أعقد من ذلك بكثير وأن خيوط الربط بين الثالوث أعمق وأهم من مجرد منفعة متبادلة أو فكر متشدد أو خاصرة رخوة للبلدين.
ختامًا.. ثمة إقرار من جميع المتدخلين في العملية الاقتصادية التونسية الليبية بأن أجهزة الدّولة التونسية ورأس المال الوطني والجهات ذات العلاقة من مجتمع مدني وأهلي لم تبذل المجهود المطلوب والكافي لدعم التوجه نحو هذه السوق الإستراتيجية والمحافظة على مكانة تونس بها واسترجاع ما تم خسارته من حصص لفائدة المنافسين، كما أن احتدام المنافسة للولوج للسوق الليبية والحضور الميداني للعديد من الدول بإمكانات ضخمة وخطط مدروسة مقابل غياب التمثيل الدبلوماسي والتجاري التونسي منذ 6 سنوات تقريبًا، جعل حظوظ تونس في رفع حصتها بهذه السوق الحيوية لا سيما في مرحلة ما بعد النزاع المسلح ضعيفة حاليًّا في انتظار استفاقة قد تقلب الموازين.
كل هذه العوامل السلبية ساهمت في خسارة موقع تونس بالسوق الليبية وزادته التجاذبات السياسية تعقيدًا، لكن يبقى التدارك ممكنًا إذا تم إيلاء الاهتمام لعدد من المسائل والخيارات/المفاتيح لدعم التعاون بين البلدين، وبعضها في حاجة عاجلة إلى تدخل تشريعي و/أو سياسي لحلحلة الوضعية بما يعود بالنفع على البلدين.