تمثل الزيادة العنيفة في الإسلاموفوبيا والرُّهاب العدائي لكل ما يرمز للإسلام والمسلمين أو يعبر عنهم، وجهًا من وجوه العنصرية التي ظهرت ملامحها في فترة التسعينيات، وتنامت سمومها بعد أحداث 11 سبتمبر، فقد رفعت المنابر السياسية والإعلامية حدة خطاباتها ضد مظاهر الإسلام جميعها، متسببةً في تهميش واستبعاد المسلمين من الحياة الاجتماعية والسياسية والمدنية في المجتمعات الغربية.
تفشى رهاب الإسلام داخل مجتمعات إسلامية أصيلة أيضًا، مثل بعض دول البلقان وجمهوريات آسيا الوسطى الخمسة، إضافة إلى الجمهورية التركية التي تعد أكثرهم صيتًا في هذا الحقل تحديدًا، حيث اتبعت الوصايا الكمالية وابتعدت عن مظاهر التدين، مما أدى إلى خلق فجوة في الهوية الاجتماعية لدى الشعب التركي، ولكن مع تولي النخبة الإسلامية المحافظة مقاليد الحكم في البلاد جبر هذا الصدع إلى حد ما، واجتهدت حكوماته في مواجهة هذه الظاهرة قولًا وفعلًا، سواء داخل حدود الدولة أم خارجها.
مكافحة الإسلاموفوبيا جزء من الخطاب التركي الرسمي
ظهرت الإسلاموفوبيا لأول مرة في تقارير اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان التابعة للبرلمان التركي في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي واحدة من أكثر المواضيع التي باتت تتصدر جدول أعمال الحكومة التركية، فقد تكررت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن قلقه من “التنامي السريع” لكراهية الإسلام، داعيًا للعمل معًا “ضد مصادر التهديد التي يشهدها عالمنا من تعصب وعنصرية وتفرقة”، ومدينًا بشدة الجماعات المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة وجماعة بوكر حرام في نيجيريا.
وذكر سابقًا أن العالم الإسلامي يمر بـ”فترة حرجة” إثر محاولات تأجيج الإسلاموفوبيا في جميع أنحاء العالم عبر المنظمات الإرهابية المصطنعة التي توجه فوهات بنادقها تجاه المسلمين أنفسهم، وتُعرض المساجد والمراكز الثقافية والمحلات التابعة للمسلمين لهجمات عدائية، كما أن النساء المسلمات اللواتي يرتدين الحجاب يعانين من مشاكل متزايدة في الأماكن العامة، بحسب تعبيره.
دفعت تركيا للمطالبة بمعاقبة مرتكبي جرائم الكراهية، وتسجيل الشكاوى والمعاملات من الشرطة والسلطة القضائية، والإبلاغ عنها للحيلولة دون التستر على الجرائم
وخلال إحدى الفعاليات التي ترأستها تركيا وباكستان في نيويورك تحت عنوان: “مكافحة خطاب الكراهية”، قال إن الجمع بين الإسلام والإرهاب أمر غير أخلاقي ولا يمكن قبوله، مؤكدًا أن بلاده ستقود الجهود المبذولة في مكافحة العداء للإسلام والعنصرية وخطاب الكراهية، خاصةً أن هذه اللغة باتت أمرًا عاديًا وطبيعيًا في البيانات الداخلية والخارجية للسياسيين في كل ساعة على وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج التلفاز.
جاء هذا الخطاب بعد هجوم “كرايست تشيرش” الإرهابي في نيوزيلندا، وهي الحادثة التي دفعت تركيا للمطالبة بمعاقبة مرتكبي جرائم الكراهية، وتسجيل الشكاوى والمعاملات من الشرطة والسلطة القضائية، والإبلاغ عنها للحيلولة دون التستر على الجرائم بذرائع متعددة، ومن أجل تحقيق ذلك دعا أردوغان لدعم فكرة بلاده في إنشاء قاعدة بيانات عن خطاب الكراهية لدى الأمم المتحدة.
أمضى أردوغان سنوات طويلة في بناء سمعته كمدافع شرس عن الدين الإسلامي والمسلمين، أملًا بتغيير موقع تركيا على الخريطة السياسية
علمًا بأن الجهود التركية في هذا الحقل لا تهدف فقط إلى الحفاظ على سلامة المواطنين الأتراك (5.5 ملايين تركي) الذين يعيشون في أوروبا، وإنما تستهدف جميع المسلمين، إذ تشجع السلطات التركية المسلمين غير الأتراك على الاتصال بمراكز الاتصال في القنصليات التركية للإبلاغ عن الاعتداءات اللفظية والجسدية وأي ممارسات تمييزية أخرى يتعرضون لها، بغض النظر عن عرقهم أو تراثهم الثقافي أو لغتهم.
ويأتي ذلك في إطار سعيها للاحتفاظ بدور الزعامة في العالم الإسلامي، فقد أمضى أردوغان سنوات طويلة في بناء سمعته كمدافع شرس عن الدين الإسلامي والمسلمين، أملًا بتغيير موقع تركيا على الخريطة السياسية، وتحويلها إلى فاعل مؤثر إقليميًا وعالميًا في المشهد السياسي لهذا العقد.
الجهود التركية في مواجهة الإسلاموفوبيا
تُرجمت التصريحات الرسمية بهذا الشأن إلى أفعال ملموسة على أرض الواقع منذ سنوات وبدايةً من استغلال المنصة السينمائية التركية وتصوير فيلم تركي بعنوان “إسلاموفوبيا” بالشراكة مع نجوم من هوليوود، بهدف التعريف بسماحة ورحمة الإسلام للعالم أجمع وتصحيح التصورات المسبقة عن الإسلام، فبحسب إبراهيم قالن المتحدث الرسمي باسم الحكومة التركية، فإن هناك ثلاثة تصورات أساسية في الغرب عن الإسلام، هي: الخطر الديني والخطر السياسي والخطر الثقافي.
اتخذت الحكومة أيضًا مواقف صريحة وحازمة تجاه أي حدث ينتهك حقوق المسلمين أو يعتدي على ممتلكاتهم ورموزهم الدينية، مثلًا كانت تركيا من أوائل الدول التي دعت إلى سحب جائزة نوبل في الآداب من الكاتب النمساوي بيتر هاندكه الذي أنكر الإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الصربية بحق مسلمي سريبرينيتسا عام 1995، بقوله: “البوسنيون أنفسهم رموا التهمة على الصرب”، مضيفًا أنه لا يؤمن إطلاقًا بأن الصرب ارتكبوا مذبحة بحق البوسنيين في سريبرينيتسا.
وفيما يخص مسلمي الإيغور في الصين، دعت أنقرة السلطات الصينية إلى “احترام حقوق الإنسان لأتراك الأويغور وإغلاق معسكرات الاعتقال”، كما دعت المجتمع الدولي والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى اتخاذ خطوات لإنهاء المأساة البشرية في الإقليم. يذكر أن تركيا هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي أعربت بانتظام عن قلقها إزاء وضع الأقلية المسلمة في الصين، وأمرت حينها بإرسال بعثة مراقبة للإقليم.
اعتزمت تركيا وباكستان تأسيس مركز قوي وقناة للإعلام بهدف “مكافحة عمليات التلاعب المعادية للإسلام والصور النمطية المليئة بالكراهية التي يتم السعي لرسمها ضد المسلمين”
الأمر ذاته تكرر في مواقفها تجاه المسلمين في ولاية “جامو وكشمير” الذين يعانون من الظلم منذ 70 عامًا، ويضاف إليهم جميع الانتهاكات التي شهدها المسلمين ورموزهم في الدول الغربية، ما دفع وزارة الخارجية التركية لتجديد دعوتها للمنظمات الدولية إلى إعلان 15 من مارس/آذار من كل عام يومًا عالميًا للتضامن ضد ظاهرة الإسلاموفوبيا.
ولعل قمة كوالالمبور أهم تلك الجهود، فمنذ أن طرح الرئيس الماليزي مهاتير محمد، مبادرة تقضي بتشكيل تحالف إسلامي مع تركيا وباكستان من أجل تحقيق النهضة الإسلامية، وتخفيف تبعيتها وحدة الضغوط التي تتعرض لها مثل الإسلاموفوبيا، اعتزمت الدول الثلاثة تأسيس مركز قوي وقناة للإعلام والاتصالات بهدف “مكافحة عمليات التلاعب المعادية للإسلام والصور النمطية المليئة بالكراهية التي يتم السعي لرسمها ضد المسلمين”.
وذلك عدا عن جميع الفعاليات والمؤتمرات التي استضافتها بهدف مناقشة هذه الظاهرة وتأثيراتها على الثقافة والمجتمع والسياسة والعلاقات الدولية، وكيفية إنهاء أو تقليل عواقبها، ووصولًا لإجراء تقارير متابعة سنوية عن الظاهرة، وأهمها التقارير الصادرة من مركز سيتا التركي (SETA) للدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الذي وثق 908 جرائم، تتراوح بين الهجمات اللفظية والجسدية، إلى محاولات القتل واستهدفت المسلمين في ألمانيا، وكذلك 664 جريمة في بولندا و364 في هولندا و256 في النمسا و121 في فرنسا و56 في الدنمارك و36 في بلجيكا، وذلك لعام 2018.
علمًا بأن هذا المركز يصدر تقارير سنوية منذ عام 2015 عن الإسلاموفوبيا وينظم ندوات يشارك فيها عدد من المسؤولين من حزب العدالة والتنمية، وذلك بالتنسيق مع مجموعة من المؤسسات التعليمية والثقافية الأخرى مثل معهد يونس إمري وجامعة ابن خلدون وزعيم، وتيكا.
ومؤخرًا، نظمت تركيا ندوة بمناسبة عرض تقرير آخر عن الإسلاموفوبيا في أوروبا لعام 2019، يتحدث عن العواقب الدموية لعنصرية العرق الأبيض والخطر المتخيل الذي يشكله غير البيض والأجانب على العنصر الأبيض، بينما يشهد العالم تزايد في الهجمات الإرهابية على المساجد كما حدث في نيوزيلندا وألمانيا وفرنسا والنرويج والمملكة المتحدة، التي أسفرت عن عشرات القتلى والجرحى.
عمل عليه 35 باحثًا وخبيرًا وناشطًا من المجتمع المدني المتخصصين في العنصرية وحقوق الإنسان، وبحثوا بالتفصيل عن العوامل التي تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في صعود العنصرية المعادية للمسلمين في أنحاء أوروبا، مشيرًا إلى دورها في تجريد الآخر من الإنسانية وتعرض المسلمين للإقصاء المنهجي وتطبيع العنصرية تجاههم، ومنعًا لذلك يقترح التقرير توصيات سياسية مفصلة لمعالجة داء العنصرية بجدية في الحيز الافتراضي والحقيقي.
تعاون تركي أوروبي لمواجهة خطاب الكراهية
خلال الكلمة الافتتاحية للندوة، أشار رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون، إلى أن التقرير يلقي الضوء على الزيادة الملحوظة في عدد الهجمات التي استهدفت المسلمين ومساجدهم، وخاصةً في السنوات الخمسة الأخيرة، موضحًا أن “كيانات اليمين المتطرف الدولية تمارس نشاطاتها كما تشاء في أوروبا دون رادع، ومنها منظمة هانيبال في ألمانيا والنمسا وسويسرا”.
تخلل هذا التصريح انتقاد مباشر للوسائل الإعلامية الرسمية في أوروبا، بسبب تركيزها على المقاتلين المتطرفين من المواطنين الأوروبيين في صفوف تنظيمي الدولة الإسلامية والقاعدة، وتغاضيها أو مدحها للمقاتلين اليساريين المتطرفين في صفوف منظمة حزب العمال الكردستاني، وهو التنظيم الذي تصنفه تركيا كمنظمة إرهابية منذ عام 1984، لافتًا النظر إلى دور تركيا في عدم التفرقة بين منتسبي الأديان من خلال إعادة الأوقاف غير الإسلامية لأصحابها وترميم الكنس والكنائس.
أكمل ألطون كلمته بدعوة للاتحاد الأوروبي للتعاون مع تركيا لمواجهة هذا الداء، معبرًا عن رغبة الحكومة في دعم الجهود التي يبديها الأوروبيون إزاء تحقيق المساواة بين المسلمين والجماعات الدينية الأخرى، هذه الدعوة تفتح بابًا من التساؤلات عن إمكانية تحول هذه الدعوة إلى واقع ملموس، إضافة إلى تأثيرها على علاقة أنقرة بالاتحاد الأوروبي.
الهوية الأوروبية والسؤال الإسلامي
قدمت تركيا مثالًا ملهمًا لكيفية محاربة الإسلاموفوبيا على المستوى الدولي، ونظرًا لذلك يرى نائب وزير الخارجية التركي ومدير شؤون الاتحاد الأوروبي، فاروق كايماكجي بأن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سيكون “الترياق” لعلاج التطرف المتزايد، وهذا من شأنه تحسين اندماج المسلمين في الاتحاد الأوروبي، مضيفًا “بعضوية تركيا، يمكن للاتحاد الأوروبي تغيير صورته، يمكن لمؤسسات الاتحاد الأوروبي الوصول إلى العالم الإسلامي، وإلا فسيُنظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه ناد مسيحي إمبريالي”.
سبق أن دعا أردوغان إلى تحقيق هذه الخطوة منذ عام 2009 قائلًا: “يجب أن يعترف الاتحاد الأوروبي بتركيا عضوًا إذا كانت تعارض الإسلاموفوبيا”، مشيرًا إلى أن النظرية التي تدعي أن الاتحاد الأوروبي “نادٍ مسيحي” سيتم تبريرها إذا تم رفض تركيا لأنها ليست منطقة عالمية كما تدعي، ومكملًا حديثه بالقول: “إذا تم قبول تركيا، فستكون عضوًا. إذا رفضوها، فسوف تشق طريقها”.
ما يعني أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، قد يُنهي التوترات الجذرية بين العالمين الإسلامي والغربي، ويمنح بطبيعة الحال الاتحاد الأوروبي تنوعًا أكثر على المستوى الثقافي والديني والعرقي، وهو التحول الذي سيمنع مشاعر التطرف والشعوبية ومعاداة الأجانب والعنصرية.
لكن هذا النقاش الجدلي لم يصل إلى نهاية رغم أن البابا فرنسيس فرانشيسكو قال خلال مؤتمر صحفي دعا إليه في أنقرة عام 2014 إن مهمة تركيا تقضي بأن تكون “جسرًا طبيعيًا بين قارتين وبين تجليات ثقافية مختلفة”، موضحًا “يمكن أن تصدر الحوار الديني والثقافي بطريقة من شأنها أن تمنع كل أشكال الأصولية والإرهاب” على حد قوله.
إذا كان الاتحاد الأوروبي يريد تشكيل العالم الإسلامي بطريقة ديمقراطية أكثر علمانية، فإن الانضمام التركي هو أفضل طريقة
لكن تأتي المعارضة للانضمام التركي من جهات علمانية ودينية في أوروبا، إذ يخشى بعض الأوروبيين غير المتدينين أن يؤدي إدخال دولة مسلمة كبيرة إلى الاتحاد الأوروبي إلى تعريض تقاليد القارة المسيحية للتهديد، في المقابل، يجادل العديد من الأوروبيين الذين يؤيدون انضمام تركيا إلى أن إدخال دولة مسلمة كبيرة إلى الاتحاد الأوروبي سيساعد في جعل أوروبا نموذجًا للعالم – جسر الحضارة والتعددية الثقافية بين أوروبا المسيحية والشرق الأوسط المسلم، والجمع بين الإسلام المعتدل والديمقراطية -.
كتب ستيوارت آيزنشتات، نائب وزير المالية في إدارة كلينتون، في هذا الشأن: “إذا كان الاتحاد الأوروبي يريد تشكيل العالم الإسلامي بطريقة ديمقراطية أكثر علمانية، فإن الانضمام التركي هو أفضل طريقة”، لأن العضوية التركية ستخلق حصنًا رمزيًا وفعليًا ضد القوى التي تغذي الهجوم الإرهابي على الغرب.
يرى العديد من صانعي السياسة الأمريكيين أيضًا أن تركيا نموذج قوي للاعتدال والديمقراطية لبقية العالم الإسلامي، وخاصة البلدان الواقعة على الحدود التركية مثل العراق وإيران، وأحدهم جوناثان ديفيدسون، مستشار أول للشؤون السياسية في بعثة المفوضية الأوروبية في واشنطن الذي قال ذات مرة: “نحن علمانيون تمامًا مثل تركيا. إن استبعاد أي بلد على أساس الدين من شأنه أن يتعارض مع القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي في التسامح والتعددية. ليس من جدول الأعمال استبعاد بلد على أساس الدين”.
ولكن، كلما اقتربت تركيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، زاد الجدل العام، إذ لا تتوقف الأحكام المسبقة والشكوك والمفاهيم الخاطئة في هذه المناقشات عن إثارة العديد من الحجج ضد تركيا التي تتراوح من سكانها وحجمها وجغرافيتها ودينها وأوربيتها إلى خلفيتها الدينية والثقافية.
حتى اللحظة، يبدو أن الأوروبيين يعتقدون أن الحفاظ على أوروبا المسيحية أولوية، رغم وجود نحو 19 مليون مسلم على أراضيها، وبذلك فإما أن يقرر الاتحاد إبقاء أوروبا متجانسة ثقافيًا من خلال استبعاد تركيا واستخدام الحجج الثقافية لإقصائها، أو أن ينظر لتركيا كفرصة لدحض نظريات صدام الحضاري وعدم توافق الإسلام والديمقراطية من خلال إعادة تشكيل الهوية السياسية لأوروبا كمساحة متعددة الثقافات تحكمها المعايير العالمية للديمقراطية والاقتصاد الليبرالي.