في شهر مارس/آذار 2006 شرّع البرلمان العراقي قانون مؤسسة السجناء السياسيين رقم (4) التي تضم إعطاء ما سمّاه البرلمان العراقي “الحقوق للسجناء السياسيين وذوي رفحاء”، ومنذ ذلك الحين يتقاضى السجناء السياسيون ومحتجزو رفحاء رواتب تقاعدية كبيرة وفقًا لمدة احتجازهم بحسب ما حدده القانون العراقي.
يعرّف القانون العراقي السجناء السياسيين بـ”من حُبس أو سُجن داخل العراق أو خارجه وفق حكم صادر عن محكمة بسبب معارضته للنظام البائد في الرأي أو المعتقد أو الانتماء السياسي أو مساعـدة معارضيه، ويعد الأطفال والقاصرون الذين ولدوا في السجن أو احتجزوا مع أو بسبب ذويهم المسجونين بحكم السجين السياسي”.
بينما يعرّف قانون التعديل الأول لقانون السجناء السياسيين رقم (35) لسنة 2014 محتجزي مخيم رفحاء على أنهم “مجاهدو الانتفاضة الشعبانية عام 1991 الذين اضطرتهم ظروف البطش والملاحقة مغادرة جمهورية العراق إلى المملكة العربية السعودية وعوائلهم ممن غادروا معهم الذين ولدوا داخل مخيمات الاحتجاز وفقًا للسجلات والبيانات الرسمية الموثقة دوليًا”، ويحدد القانون المعتقل أو السجين السياسي على أنه الذي اعتقل للمدة من (8/2/1963) وحتى (18/11/1963) ومن (17/7/1968) وحتى (8/4/2003).
أما محتجزو رفحاء، فقد بدأت قصتهم عام 1991، إذ وعقب انتهاء حرب الخليج الثانية، شهد العراق انتفاضة شعبية في بعض مدن وسط وجنوب البلاد ضد نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وبعد أشهر على بدء الانتفاضة استعاد النظام السيطرة على هذه المدن، إلا أن من خرجوا عليه آنذاك اعتقلوا أو قتلوا أو هربوا خارج البلاد وتحديدًا إلى المملكة العربية السعودية بمخيم رفحاء الذي يبعد 20 كيلومترًا عن مدينة رفحاء السعودية الحدودية.
ومع تدهور الاقتصاد العراقي نتيجة تفشي جائحة كورونا وما تبعها من انهيار كبير لأسعار النفط، عمدت الحكومة العراقية التي يترأسها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى قطع رواتب السجناء السياسيين ومحتجزي رفحاء حتى يتم تدقيق ملفاتهم مجددًا مع قرار حكومي بإيقاف تعدد الرواتب الحكومية بصورة نهائية.
ينص القانون الذي أثار كثيرًا من الجدل الشعبي خلال السنوات السابقة على أن للمعتقل السياسي أو محتجز رفحاء حق الجمع بين راتبه التقاعدي الذي حدده القانون إضافة إلى راتبه الوظيفي في حال تم تعيينه مع أولويته في التوظيف الحكومي
رواتب خيالية
يحدد قانون التعديل الأول لقانون السجناء السياسيين رقم 35 لسنة 2013 الرواتب التي يتقاضاها ذوو العلاقة بالقانون، إذ تنص المادة السابعة فيه على “للسجين السياسي المشمول بأحكام هذا القانون راتب شهري لا يقل عن ثلاثة أمثال الحد الأدنى للراتب التقاعدي المنصوص عليه في قانون التقاعد الموحد رقم (27) لسنة 2006 وتعديلاته أو أي قانون يحل محله”.
بينما ينص البند الثاني من ذات المادة على “يزاد الحد الأدنى للراتب الشهري للسجين السياسي المنصوص عليه في البند (أولًا) من هذه المادة مبلغًا قدره (60000) ستون ألف دينار شهريًا عن كل سنة سجن فعلية إضافية قضاها في السجن أو الاعتقال وبمعدل (5000) خمسة آلاف دينار عن كل شهر ويعد نصف الشهر بحكم الشهر.
وبمعرفة الحد الأدنى للراتب الشهري للموظف العراقي، يتبين أن السجناء السياسيين ومحتجزي رفحاء يتقاضون رواتب تقدر بمليون وربع المليون دينار عراقي (ألف دولار) شهريًا يضاف لها 60 ألف دينار عن كل شهر إضافي.
ليس هذا فحسب، إذ وسعت المادة القانونية في قضية الرواتب، فيصرف للمعتقل السياسي المشمول بأحكام هذا القانون ومحتجز رفحاء الذي قضى مدة اعتقال أو احتجاز من 6 أشهر إلى 11 شهرًا فقط والمعتقلين الناجين من المقابر الجماعية راتبًا تقاعديًا يعادل ضعف راتب الحد الأدنى المنصوص عليه في قانون التقاعد الموحد، بينما يصرف للذي تقل مدة اعتقاله عن شهر منحة مالية مقدارها (5000000) خمسة ملايين دينار ولمرة واحدة فقط.
كما ينص القانون الذي أثار كثيرًا من الجدل الشعبي خلال السنوات السابقة على أن للمعتقل السياسي أو محتجز رفحاء حق الجمع بين راتبه التقاعدي الذي حدده القانون إضافة إلى راتبه الوظيفي في حال تم تعيينه مع أولويته في التوظيف الحكومي، ومنحهم قطعة أرض سكنية واستثناء للقبول في الدراسات العليا وتوفير العلاج داخل البلاد وخارجها وعلى نفقة الدولة، مع صرف أجور السفر السنوي خارج البلاد لكل عائلة مشمولة بالقانون.
وتعليقًا على هذا القانون، يقول الخبير القانوني طارق حرب في حديثه لـ”نون بوست” إن الدستور العراقي المقر في عام 2005 أقر صرف تعويضات للسجناء السياسيين ومحتجزي رفحاء وليس دفع رواتب تقاعدية لهم مدى الحياة.
يقدر خبراء ومن ضمنهم المشهداني أن مجموع محتجزي رفحاء لا يتجاوزون 30 ألف شخص في الوقت الذي يبلغ فيه عدد السجناء السياسيين الحاليّين قرابة الـ100 ألف شخص
ويضيف حرب أن قانون السجناء السياسيين يعد مخالفة صريحة للعديد من القوانين الأخرى وخاصة قانون التقاعد الذي ينص على صرف الراتب التقاعدي لكل من خدم في وظيفة حكومية في الدولة العراقية لمدة معينة، وبالتالي يعد الراتب التقاعدي حقًا للموظف الذي استقطع مبلغ تقاعده خلال مدة خدمته الدولة، وهذا ما لا يتوافر لذوي رفحاء والسجناء السياسيين.
ويضيف حرب “الأمم المتحدة عرّفت محتجزي رفحاء على أنهم لاجؤون وليسوا محتجزين، وبالتالي فقانون السجناء السياسيون في الشق المتعلق منه بمحتجزي رفحاء يناقض صراحة تعريف الأمم المتحدة”، مؤكدًا أن عدد محتجزي رفحاء ممن يتقاضون رواتب تقاعدية حاليًّا يبلغ 30975 شخصًا، في الوقت الذي كانت أعدادهم الحقيقية بين عامي 1991 و2003 لا تتجاوز 3500 شخص فقط، لافتًا إلى أن الفساد والمحسوبية وراء تضخم الأعداد.
ويختتم حرب حديثه لـ”نون بوست” بالتأكيد أن قرار رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي صحيح من ناحية إيقاف الرواتب المزدوجة لذوي رفحاء والسجناء السياسيين ومن يقطنون خارج العراق وهم الأغلبية.
أما أستاذ الاقتصاد العراقي عبد الرحمن المشهداني فيؤكد أن إجراءات الحكومة الأخيرة تمثلت بإيقاف الرواتب وليس إلغاؤها لحين اكتمال تدقيق وزارة المالية لجميع ملفاتهم، لافتًا إلى أن الإجراءات الأخيرة خاصة المتعلقة منها بازدواج الراتب الحكومي كانت مقترحة من صندوق النقد الدولي عام 2016، حيث أوصى حكومة حيدر العبادي بإيقاف رواتب ما يقرب من 250 ألف عراقي يتقاضون أكثر من ثلاثة رواتب في آن واحد، إلا أن الحكومات السابقة لم تنفذ هذه التوصيات الدولية.
ويقدر المشهداني أن رواتب هؤلاء (السجناء السياسيين وذوي رفحاء) تقدر بـ18 مليار دولار صرفت لهم خلال السنوات الماضية، وأن أعداد من يتلقى رواتب متعددة مبالغ فيه، والطريقة التي أُضيفوا بها إلى مؤسسة السجناء المسؤولة عنهم قانونًا تمت من خلال التزكيات التي قدمتها الأحزاب خلال السنوات السابقة.
ويقدر خبراء ومن ضمنهم المشهداني أن مجموع محتجزي رفحاء لا يتجاوزون 30 ألف شخص في الوقت الذي يبلغ فيه عدد السجناء السياسيين الحاليّين قرابة الـ100 ألف شخص.
وامتدادًا لهذه الأرقام الكبيرة، يتقاضى أكثر من 250 ألف شخص رواتب متعددة بعضهم يصل إلى 9 رواتب في الشهر الواحد، وهذه الأرقام تعد مثار شك وجدل كبيرين، إذ لا تتعدى أعداد السجناء السياسيين والمعدومين على يد النظام السابق 25 ألف شخص، وبالتالي فإن التزوير لعب دورًا كبيرًا في تضخم هذه الأعداد، خاصة أنه طيلة السنوات السابقة كانت الآلية في تزكية السجين السياسي تتم من خلال كتاب تزكية من أحد الأحزاب التي دخلت العملية السياسية بعد 2003.
مهام صعبة يواجهها الكاظمي في مختلف المجالات، وسط ترقب شعبي لما ستؤول إليه قابل الأيام
معالجة الأزمة مؤقتًا
تتجه الحكومة العراقية حاليًّا إلى محاولة حصر النفقات وتقليصها إلى الحد الأدنى الذي يمكّنها من ديمومة مؤسسات الدولة العراقية، إذ جاء قرار مجلس الوزراء رقم (27) لسنة 2020 والصادر في 21 من يونيو/حزيران الحاليّ ملزمًا لإيقاف تعدد الرواتب الحكومية للسجناء السياسيين ومحتجزي رفحاء، على أن يتقاضى السجين أو المحتجز راتبًا قدره مليون دينار عراقي فقط شريطة أن يكون مقيمًا في العراق ومعيلًا لأسرته وأن لا يكون موظفًا في الدولة العراقية أو يتقاضى أي راتب حكومي آخر.
ونص قرار رئاسة الوزراء على نفاذ القانون من تاريخ صدوره، لكن على الجانب الآخر تشير وجهة النظر القانونية إلى أن قرار مجلس الوزراء يتعارض مع قانون ساري المفعول مقر في البرلمان العراقي وهو قانون السجناء السياسيين، وبالتالي لا يمكن إبطال مفعول القانون إلا بقانون آخر يعدِّل عليه أو يُلغيه.
وبالتالي يمكن الطعن بقرار مجلس الوزراء أمام المحكمة الاتحادية، وهذا ما سيحصل بكل تأكيد ما لم تسرع القوى السياسية والأحزاب المؤيدة لقرار الكاظمي إلى تعديل قانون السجناء السياسيين برلمانيًا، وهو ما سيتطلب توافقًا سياسيًا وتصويتًا وهذا ما قد يكون صعب التنفيذ في ظل التعقيدات السياسية الحاليّة وكم القوانين المهمة التي لا تزال معلقة حتى الآن.
صعوبات كبيرة يواجهها رئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، إذ إنه وفور إيقاف الرواتب المتعددة، خرجت مظاهرات في مدن وسط وجنوب البلاد، فكيف إذا حاولت الحكومة الحاليّة فتح ملفات الفساد الكبيرة الأخرى كالمنافذ الحدودية وملفات وزارات التجارة والاقتصاد والمكاتب الاقتصادية وآلاف القضائيين في مؤسسات الدولة ووزارتها؟
هي مهام صعبة يواجهها الكاظمي في مختلف المجالات، وسط ترقب شعبي لما ستؤول إليه قابل الأيام.