عندما تعمي الكراهية البصيرة، فتُزَج الأنفس البريئة في السجون، عندما يصبح المجرم – رغم إجرامه – إنسانًا باعترافه بالحقيقة، ولا يصبح الإنسان إنسانًا بتشويهه لها، عندما لا يريدوننا أن نكون مواطنين مثلهم، عندما لم يصدّقنا أحد، عندما يكرهنا الجميع، عندما لم يرنا أحد، هذه هي حكايتنا: أنه لم يرنا أحد!
يحكي مسلسل “When They See Us” قصة حقيقية حدثت عام 1989، لخمسة فتيان سود يسكنون في حي هارلم الأمريكي، يتم اتهامهم بقضية اغتصاب واعتداء على عداءة في “السنترال بارك”، وتلفق الشرطة التهمة لهم رغم عدم وجود أي أدلة ضدهم، وتحتجزهم وتستعمل العنف والإكراه والخداع مستغلة صِغر سنهم وعدم وجود مرافق رشيد معهم، لإخراج أدلة مصورة تفيد اعترافهم بالجريمة، مع وعود كاذبة بإطلاق السراح.
ليلقى بهم في النهاية بالسجن لمدة تتراوح بين الـ6 سنوات والـ14 عامًا، ليدخلوا إلى هذا السجن مراهقين وفتيانًا صغارًا، ويخرجوا منه رجالًا يافعين ضاع قِسطًا من عمرهم وراء القضبان لأن أحدًا قد مارس عليهم فعل الكراهية والتمييز بسبب كونهم أقلية عرقية – سود – وأقلية دينية – واحد من الفتية مسلم: يوسف سلام -.
“إن جورج فلويد لا يمثِّل شخصًا بذاته كما تعتقد، وإنما هو برهان حي على تاريخ طويل وحافل بالتفرقة العنصرية والتمييز البغيضين”
جورج فلويد: قتيل وسجين وأشياء أخرى
لا تعتقد أن حادثة جورج فلويد الشهيرة في الـ25 من مايو/أيار، التي مات فيها نفس الشخص المسماة باسمه نتيجة وضع شرطي أمريكي ركبته فوق مؤخرة عنقه حتى انقطع عنه الهواء، هي الأولى من نوعها، فقبل أن يموت جورج فلويد في هذا اليوم، سجن عام 1989 في أحداث سنترال بارك ظلمًا، وهو يتعرض كل يوم للعديد من حوادث العنصرية والتمييز، وما زال يحدث ذلك!
إن جورج فلويد لا يمثِّل شخصًا بذاته كما تعتقد، وإنما هو برهان حي على تاريخ طويل وحافل بالتفرقة العنصرية والتمييز البغيضين، فالقصص مختلفة والأماكن مختلفة، وكذلك الأزمان، لكن الفعل واحد وهو الكراهية، والضحية واحدة أيضًا وهي الإنسانية، ولأقرِّب لك المسافات، عد معي إلى الوراء وانقل ذاكرتك بين عامي 2010 و2011، وتذكّر الشهيد خالد سعيد وتذكّر إلام صار يرمز اسمه!.
جورج فلويد أصبح وجملته الشهيرة “لا أستطيع التنفس” رمزًا شعبيًا شهيرًا للتميز العنصري ضد السود
ما الذي تريدون قوله؟
“أكره هؤلاء المجرمين والقتلة، وعندما يرتكبون جريمة قتل يجب إعدامهم بسبب جرائمهم، يجب أن يكونوا عبرةً لغيرهم حتى يفكروا فترة طويلة قبل ارتكاب جريمة أخرى”، نص على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إعلان نشره وقت الحادث.
لا يخفي على أحد أن المسلسل يحتوي على هجمات صريحة ضد الرئيس الأمريكي الحاليّ دونالد ترامب واتهامه بالعنصرية، خصوصًا أنه كان مناصرًا شديدًا لإعدام هؤلاء الفتية ومطالبًا بذلك حتى من قبل أن يتم البت في القضية وإصدار الحكم النهائي لها، لذلك نرى أن الأمر كالتقليب في الدفاتر القديمة، ولا أشك في أن الغرض الأساسي من إنتاج هذا المسلسل – على الرغم من صدق القصة الحقيقية – هو تشويه صورة ترامب ومهاجمته إعلاميًا باعتباره عنصريًا.
في الحلقة الأولى من هذا المسلسل القصير – أربع حلقات – يكون التركيز بشكل بارز على التحقيق مع هؤلاء الفتية والمحاولات المستميتة لخلق أدلة من العدم، وشعور الكراهية الذي تكنّه المدعية العام تجاههم مما يدفعها إلى الإصرار على كونهم مذنبين، لا يوجد بطل في هذه الحلقة، فقد تم توزيع الأدوار بشكل سريع وعادل على جميع الممثلين.
أما في الحلقة الثانية فيتم التطرق إلى المحاكمة، وفي الثالثة يحدث التحوّل السريع ويظهر لنا الأبطال بهيئاتهم وقد صاروا رجالًا يافعين بعد قضاء مدتهم في السجن، وما يقاسونه من كراهية المجتمع ورفضه لهم، ومعاناة وألم بعد خروجهم من السجن، والحلقة الرابعة أخيرًا يتم تخصيصها بشكل كامل لقصة المدعو “كوري وايز” وهو واحد من أشهر متهمي هذه القضية وهو الوحيد الذي لم يودع سجن الأحداث، ولكن تم إيداعه بالسجن العام، وفيه نرى ما قاسى من ويلات داخل السجن، وتعسف المساجين وبعض الحراس ضده، إلى خروجه عام 2002 مع بقية زملائه بعد ظهور براءتهم لأن الجاني الحقيقي اعترف بالجريمة بدافع الندم بعد كل هذه السنوات من السجن والظلم.
الغلاف الخاص بالمسلسل، يظهر فيه الفتية الخمس وعلى وجوههم تبدو علامات الحزن والخزي، ومن فوق رؤسهم يبرز العلم الأمريكي، شاهدًا على الحلم الأمريكي الضائع الذي حلم به المواطنون الأسوياء كمالكوم إكس ومارتن لوثر كينج، في العيش في وطن لا يتم معاملتهم فيه على أساس لون بشرتهم.
وبخصوص القضية نفسها فقد تم تعويض هؤلاء الفتية عام 2014 بمبلغ 41 مليون دولار أمريكي، وبعد صدور المسلسل لاقت المدعية العام “ليندا”، وهي التي ساهمت بشكل أساسي في تلفيق هذه التهم لهؤلاء الفتية، عقابًا معنويًا – إعلاميًا – قاسيًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تم تفعيل أحد الهاشتاغات ضدها، وقد كانت كاتبة روايات بوليسية شهيرة تحقق المبيعات، فتم فسخ تعاقدها مع دار النشر الخاصة بها، كما أنها استقالت من المنصب الذي تتقلده في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا.
الحلم الذي اُغتيل مع صاحبه
عندما تم تأسيس الوطن لم يكتب أحدهم شيئًا اسماه “الوثيقة الوطنية” وقال فيها: إن الوطن يكفل لفصيل معين من أبنائه حق الحياة والحرية والعدالة والتنفس وعدم الموت مختنقًا، وكذلك عدم السجن لسنوات عديدة في قضايا ملفقة بدافع الكراهية، لم يحدث ذلك كله، ولكن كان الوطن للجميع.
لقد اُغتيل مارتن لوثر كينج لأن حلمه لم يرق للوحش الأبيض الذي لا يقبل وجود غيره، ويظن أن له الحق في منح الحرية والهواء لأشخاص معينين، ومنعه عن البقية، ولحق به مالكوم إكس لنفس السبب، وفتية “السنترال بارك” الخمس أودعوا السجن ظلمًا في ربيع عمرهم، وجورج فلويد مات متوسلًا قاتله أن يسمح له ببعض الهواء، فهل تخبئ لنا السنوات المزيد من الأحداث التي قد يروننا فيها لا نستحق أن نتنفس هواء الوطن.. مثلهم!