تتحرك أنقرة تدريجيًا نحو إحكام السيطرة على إدارة الملف الليبي بدلًا من لاعبيين إقليميين ودوليين آخرين، فبالإضافة إلى دعمها العسكري النوعي لحكومة الوفاق المعترف بها دوليًا الذي غير موازين القوى على الأرض وساهم في نجاحها في دحر مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر المدعومة من قوى الثورة المضادة في المنطقة وتمثلها الإمارات والسعودية ومصر إلى خارج أسوار العاصمة طرابلس، تكثُف من حراكها الدبلوماسي مع كل الفاعلين الدوليين لإيجاد حل جذري للأزمة الليبية على قاعدة اتفاق الصخيرات الموقع في المغرب ومخرجاته برعاية أممية.
ولفهم تحركات أنقرة الدبلوماسية وكيفية إمساكها بطرفي خيط الأزمة الليبية، يجب أولًا الانطلاق من فكرة أولية تكون قاعدة لتبيان الخلفية السياسية للتدخل التركي المتمثلة أساسًا في سعي حزب العدالة والتنمية الذي يقوده رجب طيب أردوغان منذ العقد الأول من القرن الحاليّ إلى تثبيت موقع بلاده كقوة إقليمية ناهضة ولاعب فاعل ومستقل على الساحة الدولية ضمن مشروع اقتصادي سياسي متكامل، لذلك فإن الحديث عن سياسة تركية في المنطقة العربية وخاصة ليبيا تعكس توجه أردوغان نحو “العثمانية الجديدة” عبر دعم الإسلام السياسي الصاعد يأتي خارج السياق التحليلي الواقعي ويندرج ضمن بروباغندا إعلامية تسوق لها بعض الدول العربية التي تتنافس معها على النفوذ في المنطقة وتعجز عن مواجهة المد التوسعي الاقتصادي للأتراك في المنطقة.
من هنا، فإن تركيا تتعامل مع محيطها الإقليمي والدولي على أساس براغماتي نفعي بحت، وليس على أساس إيديولوجي، فرغم توظيفها لبعض مفاهيم الهوية الإسلامية والعمق التاريخي العثماني في صناعة قوتها وإضفاء الشرعية على هذا الاستحقاق، فإنها تعاملت في الغالب مع مختلف القضايا بمنظور السوق والنفوذ والحفاظ على المصالح، فقبيل اندلاع ثورة فبراير/شباط 2011، عملت على تعزيز مصالحها الاقتصادية وفازت بنصيب كبير من عقود البناء عام 2010، وضخ المستثمرون الأتراك مليارات الدولارات في قطاع البناء، كما ساهمت شركات الأعمال التركية في نحو 304 عقود تجارية في البلاد، إضافة إلى ما يقرب من 15 مليار دولار من الالتزامات التعاقدية غير المدفوعة، لذلك فهي تسعى إلى الحفاظ على استثماراتها في سوق خارج إقليمها الجغرافي ضمن إستراتيجية 2023.
تركيا – إيطاليا
النشاط الدبلوماسي التركي الذي وصل ذروته مؤخرًا، أسفر عن تقارب في وجهات النظر بين أنقرة وروما بشأن الملف الليبي، حيث أعلن مسؤولو البلدين خلال لقاء جمع بين وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ونظيره لويجي دي مايو ضرورة العمل على إنهاء النزاع وتحقيق السلام في ليبيا، وأبديا بحسب تقارير إعلامية، توافقًا على إنهاء الحرب ووقف إطلاق النار في ليبيا تحت مظلة الأمم المتحدة.
التناسق بين البلدين ظهر بشكل جلي في تصريحات أوغلو ودي مايو، فالأول صرح بأن “إيطاليا لم تدعم الانقلابي خليفة حفتر مثل باقي دول الاتحاد الأوروبي”، فيما أكد الثاني أن بلاده “تقدر الجهود التركية لإنهاء الصراع في ليبيا، وتدعو لإيجاد حل سياسي في ليبيا، ودعم جهود الأمم المتحدة من أجل إحلال السلام هناك”، كما شدد على رغبة بلاده في تعزيز علاقاتها مع تركيا، مبينًا أن أنقرة تعد شريكًا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة إلى روما، لافتًا إلى متانة العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث حلت تركيا في المرتبة الثانية أوروبيًا، والخامسة عالميًا، في حجم التبادل التجاري الذي بلغ 18 مليار يورو (إحصاءات 2019)، كما أجرى البلدان مناورات عسكرية بحرية في وقت سابق.
من جهة أخرى، لم يفوت دي مايو الفرصة لشكر تركيا وشعبها، على المساعدات الطبية التي أرسلتها إلى إيطاليا خلال ذروة تفشي فيروس كورونا، في وقت كانت بأمس الحاجة إليها، وهو ما يُفسر أيضًا نجاحها في استغلال الجائحة في تفعيل دبلوماسيتها الناعمة في أوروبا.
أنقرة تعلم جيدًا أن نجاح العمليات العسكرية التي تدعمها في ليبيا سيرسخ وجودها كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة في القرار الدولي، الأمر الذي سيزيد من وتيرة اصطفاف القوى المعارضة كالسعودية ومصر والإمارات وقبرص واليونان وبعض دول الاتحاد الأوروبي على رأسها فرنسا، لذلك تعمل جاهدة عبر تحريك الدبلوماسية المتعددة المسارات والتحكم في الخيوط المتشابكة التي يعسر حلها بأنامل سياسية غير رقيقة.
أبعاد التقارب
من المعروف عن تركيا في السنوات الأخيرة، اعتمادها على الدبلوماسية الإيقاعية في التعامل مع الأزمات الدولية، وعدم حصر خيارات القوة على طرف دولي واحد، وهو ما يُفسر تقلب حركة علاقاتها وتحالفاتها شرقًا (روسيا) وغربًا (أمريكا) وفق ما تقتضيه المصلحة، وتسمح به مساومة الأطراف الدولية على مصالحها في الإقليم والعالم.
وفي الملف الليبي، تعلم أنقرة أن الطريق سيكون ممهدًا أمامها طالما استمر النجاح العسكري بالتوازي مع تحكمها في المفاوضات الدبلوماسية المعقدة والمرنة في آن واحد وهو أسلوب تبرع فيه جيدًا، وهو ما يُفسر انخراطها النشط في العملية السياسية في ليبيا وتموقعها في الملف كقوة مؤثرة ولاعب دولي لا يُمكن تجاهله.
إيطاليا تنضم لتركيا ضد فرنسا واليونان
وامريكا تدعم موقف تركيا فى ليبيا
وروسيا التى عجزت عن مواجهة الطيران التركى فى سوريا وليبيا
تتفاوض مع تركيا للخروج من المشهد الليبيى
والأسطول الليبيى يمنع سفن اسرائيلية من التنقيب عن الغاز ف المتوسط
انا كنت متوقع ان تركيا بالقوة دى
— قلم حر???? ?? (@k________om) June 20, 2020
تقارب أنقرة وروما خاصة في الملف الليبي سيُساعد الأتراك على ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد وتحريك مياه السياسة الراكدة، وتأتي في سياق الدبلوماسية الاستباقية أي أن توجه نشاطها وأساليب اشتغالها وغاياتها وفق محددات وأبعاد تراعي مصلحتها العليا وتخدم مشروعها في المنطقة، لذلك فإن الدفع بورقة روما في هذا التوقيت بالذات قد يُعزز إنجازاتها على الأرض ويزيد من تفوقها على خصومها المتفرقة غاياتهم والمختلفة أجنداتهم.
يُمكن القول إن محاولة كسب أنقرة للتأييد الإيطالي ينبع من قدرة الأولى على الاستثمار في مخاوف روما من سيطرة اللواء المتقاعد خليفة حفتر حليف فرنسا الساعية منذ سنوات لإنهاء النفوذ الاقتصادي الايطالي في ليبيا، ما يُشكل تهديدًا حقيقيًا على مصالحها واستثماراتها خاصة بعدما اتهامها الجنرال الانقلابي في وقت سابق بالانحياز إلى الإسلاميين وإلى مدينة مصراتة.
وتستثمر شركة “إيني” الإيطالية في حقل الفيل النفطي إضافة إلى حقل الوفاء الواقع جنوب غرب طرابلس الذي تصدر من خلاله الغاز الطبيعي عبر أنبوب بحري إلى إيطاليا وأوروبا، كما تستثمر الشركة نفسها في حقل البوري للغاز الذي يقع على بعد 120 كيلومترًا إلى الغرب من طرابلس على الساحل الليبي.
ومن هذه الزاوية، يُنشط الأتراك دبلوماسيتهم المتحركة داخل الاتحاد الأوروبي، الفضاء الذي أصبح هشًا في غياب سياسة موحدة بين دول أعضائه بفعل اختلاف وجهات النظر بشأن عدد من الملفات كسوريا وليبيا والهجرة ومكافحة الإرهاب، وكذلك بسبب تداعيات جائحة كورونا التي كشفت قاعدة التكتل الرخوة ووهم التضامن الأوروبي المزعوم، وهي سياسة أسفرت عن تفضيل روما التخلي عن مواقف الاتحاد الأوروبي خصوصًا فرنسا في التعاطي مع الملف الليبي، وإعطاء الغلبة للتنسيق مع تركيا التي غيرت موازين القوى بتدخلها العسكري.
من جهة أخرى، فإن استمالة الأتراك لإيطاليا سيحمي أنقرة من أي موقف موحد مستقبلًا من التكتل أو فرض عقوبات أوروبية، كما أن التنسيق بين البلدين قد ينتقل إلى ما هو عسكري مثل حراسة المياه الليبية من أي سفن قد تحمل الأسلحة إلى خليفة حفتر، وسترتكز تركيا في هذه النقطة على ملف الهجرة غير الشرعية وقدرتها على التحكم في أعداد الوافدين عبر مياهها.
لعبة التفكيك والتركيب
كرقعة كبيرة للعبة الصورة الكاملة مجزأة لقطع صغيرة الحجم يُمكن تركبيها على أي شاكلة، تخط أنقرة ملامح سياستها الخارجية التي تعتمد على نظرية التفكيك والتركيب وبنية علاقات متغيرة بفعل العوامل الجيوإستراتيجية والتحولات في مستوى التكتلات والتحالفات الدولية، فأنقرة التي وقعت اتفاقًا بحريًا وأمنيًا مع حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا ولم تنتقده إيطاليا، تجنبت التعليق على الاتفاق البحري الأخير الموقع بين روما وأثينا، ولكنها تسعى إلى تفكيك اتفاق ترسيم الحدود من خلال إعادة تركيب توافق آخر مع إيطاليا يضمن للأخيرة استرجاع دورها الريادي في ليبيا.
لعبة المفاوضات والتحكم في الخيوط المتشابكة ساهمت في بلورة دور جديد لتركيا في المنطقة العربية من المشرق إلى المغرب، فالأزمة الليبية عززت قدرة أنقرة على إدارة الملفات المعقدة ضمن خريطة علاقات شديدة التركيب والتشابك خاصة مع بروز فاعلين دوليين آخرين على الأرض على غرار روسيا الساعية بدورها إلى تحقيق أهداف إستراتيجية في منطقة جنوب المتوسط، وأعطت تركيا المجال للإمساك بطرفي خيط الملف الليبي تُحركه إلى مسارات تُحددها وفق مسارات تختارها آنفًا.
رسالة على الطريقة الأمريكية :
” أصدقاءنا الروس نحن هنا في ليبيا ” #محور_٢٧ pic.twitter.com/CnbqPkfjxh
— noman benotman (@nbenotman) June 22, 2020
نجاح قوات حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا أعطى تركيا الداعمة للشرعية في ليبيا أسبقية التحكم في مسار التفاوض والأفضلية في الخيارات، وذلك دون الإنتقاص من قدرة دبلوماسية أنقرة على تشبيك الخيوط وتشعيبها في انتظار حل يخدم في مرحلة أولى حليفتها حكومة طرابلس ويساعد على تمكينها في مرحلة ثانية من امتيازات اقتصادية واستثمارية على حساب باقي القوى، ومن بين الخيوط المتشعبة التي تلعب عليها تركيا ما يلي:
– تسعى تركيا من خلال قدرتها على إدارة الملف الليبي فرض نفسها على الاتحاد الأوروبي الذي رفض سابقًا انضمامها للتكتل، كقوة دولية فاعلة ورقم أساسي في معادلة حل الأزمة وذلك بتحييدها فرنسا وكسب تأييد إيطاليا.
– التدخل التركي في ليبيا والاتفاق البحري مع الوفاق أكسب أنقرة نقاط قوة على حساب اليونان.
– أعطى لأنقرة مساحة للمناورة الدبلوماسية ومجال جغرافي لتركيب علاقة معقدة أخرى مع روسيا (إدلب وسوريا) والتفاوض ملف بملف.
– التقارب مع أوروبا واستغلال تخوفها من الوجود العسكري الروسي في ليبيا.
– إعادة تركيب قنوات دبلوماسية مع الولايات المتحدة المتخوفة من تزايد النفوذ الروسي في المنطقة ومساعيها لإنشاء قاعدة على سواحل ليبيا (زيارة قائد الأفريكوم لزوارة الليبية).
– ضرب الثورة المضادة التي تقودها الإمارات والسعودية في المقتل بما أن ليبيا تُمثل مركز أنشطتها.
– خلق أزمة داخلية في محور الدول المعادية للثورات العربية بدفع مصر إلى الزاوية وإرغامها على القبول بالأمر الواقع وشرعية حكومة طرابلس.
مصر.. تفكيك الثورة المضادة
مخطئ من يعتقد أن أنقرة تحاول جر مصر إلى حرب مباشرة في ليبيا في مسعى منها إلى الإطاحة بالحكم العسكري الصاعد إلى الحكم عبر انقلاب عسكري، فالأتراك يعلمون جيدًا أن أي تغيير يجب أن يكون من الداخل وأن يكون صناعة مصرية دون تدخل خارجي، لكن في المقابل يسعى الأتراك من خلال محاولة حشر نظام السيسي في الزاوية إلى تفكيك محور الثورة المضادة الذي تقوده الإمارات وتحييد موقف القاهرة في مرحلة أولى وصولًا إلى إرغامها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات واسترجاع العلاقات الدبلوماسية عبر تفاهمات ثنائية جديدة.
وتحاول أنقرة التي رمت بكل ثقلها في الأزمة الليبية عبر دعم قوات حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا عسكريًا وفنيًا الوصول إلى أقصى مدى على الأرض أي دحر قوات خليفة حفتر إلى ما بعد سرت وصولًا إلى بنغازي، لتشكيل قوة ضغط إضافية على القاهرة التي تعيش أزمة حقيقة مع إثيوبيا على خلفية سد النهضة، وهي عملية جس نبض يبرع فيها الأتراك جيدًا، وبالتالي فإن عبد الفتاح السيسي بين خيارين أحلاهما مر:
– الانخراط المباشر في العمليات العسكرية في ليبيا وهو ما تسعى إليه قوى الثورة المضادة بقيادة الإمارات ويُكلف مصر التي تُعاني أزمات داخلية اقتصادية وأمنية (سيناء) وأخرى خارجية تتمثل في سد النهضة، الكثير من الجهد الحربي هي في غنى عنه.
– القبول بالأمر الواقع والرضوخ لمنطق الدبلوماسية والتفاوض مع الأتراك أصحاب اليد الطويلة على الأرض، وبالتالي الحفاظ على مصالحها في ليبيا كعقود الإعمار والمحافظة على أمنها الإستراتيجي، وبالتالي فإن ليبيا الموحدة والحل السياسي السلمي برعاية الأمم المتحدة يُمكن اعتباره الطريق الوحيد أمام سلطات القاهرة.
من هذا الجانب، ترى بعض المصادر المصرية أن الملف الليبي ربما يكون بداية تحول إستراتيجي في الصراع المصري التركي، مشيرة إلى أن هناك حديثًا داخل أروقة صناعة القرار بشأن تفاهمات غير مباشرة بين القاهرة وأنقرة، وذلك في ظل الظرف الاقتصادي الذي تمر به القاهرة، والفتور في العلاقات بين مصر من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى، بالإضافة إلى أزمة سد النهضة الحاليّة، ربما تساهم في تسريع وإتمام تفاهمات سياسية أوسع بين مصر وتركيا.
ديون ، وجبهة شعبية مفككه ، ومستقبل مائي وغذائي على وشك الدمار ، ومؤسسة قتالية انشغلت بسوق السمك عن المهام المنوطة بها . ويريد التدخل عسكرياً في ليبيا التي ابتلعت ايطاليا ، أمام تركيا القويه عسكرياً واقتصادياً المدعومه من الناتو ” 28 دولة ” لإرواء ظمأ محمد بن زايد وبن سلمان فقط
— 7US△M (@7U5AM) June 23, 2020
بالمحصلة، فإن السياسة التركية تسير على أكثر من طريق متوازٍ تتناسق فيه الصحوة الاقتصادية والنهضة الاجتماعية الداخلية مع الدبلوماسية النشطة في القضايا الإقليمية والعالمية على أساس تحقيق أقصى درجات الفاعلية والمصلحة العليا للبلاد، وهي إستراتيجية متكاملة المعالم وُضعت لبناء قوة صاعدة فاعلة على كل المستويات ولم يُستثن منها حتى العامل الثقافي (السينما والدراما)، وما يُميز هذه الدبلوماسية ليس تصفير المشاكل كما يُعاب على أردوغان وفريقه الحاكم، فالسياسة فن إدارة الأزمات والتعامل معها، ولكن قوة الأتراك في تصفير تداعياتها.