رب ضارة نافعة.. هذا لسان حال شركات الأدوية في مصر وغيرها، فبينما يئن العالم من تداعيات جائحة كورونا المستجد هناك قطاعات عدة حققت مكاسب بالجملة من وراء هذا الوباء، على رأسها قطاع صناعة الدواء الذي استغل الأزمة أيما استغلال لإنعاش خزائنه ولو على حساب أوجاع المرضى.
قفزة كبيرة شهدها سوق الدواء في مصر منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي وحتى اليوم، فبجانب الارتفاع الكبير في أسعار بعض الأدوية التي تجاوزت حاجز الـ500% في بعضها، ارتفعت أسهم شركات الأدوية بنسب تتراوح بين 10 إلى 70%، وذلك بحسب تقرير صادر عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية، مارس/آذار الماضي.
أما فيما يتعلق بحجم المبيعات خلال الأشهر الست الماضية، فتوقع خبراء أن ترتفع بنسبة تتجاوز الـ10% خلال هذا العام، وفق ما ذهب رئيس شعبة الدواء باتحاد الغرف التجارية، الدكتور علي عوف، الذي لفت إلى احتمالية أن يسجل سوق الدواء المصري ارتفاعًا بنحو 85.5 مليار جنيه بنهاية 2020.
وقد أثارت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية بشأن آليات توزيع الأدوية المتخصصة للوقاية من فيروس كورونا حالة من الجدل داخل السوق، فيما أحدثت سخطًا بين العاملين في القطاع الصيدلي، متهمين تلك الإجراءات بالتسبب في تفشي السوق السوداء ونقص الأدوية اللازمة في ظل تكالب المواطنين عليها.
يذكر أن ما يقرب من 150 مصنعًا للدواء يعملون في السوق المصرية، بجانب 45 مصنعًا تحت الإنشاء، وما يقرب من 1200 شركة تجارية تصنع منتجاتها لدى الغير، ونحو 20 شركة دواء أجنبية تعمل في السوق السوداء عن طريق مصانع لها في مصر أو عن طريق مكاتبها العلمية.
أزمة “الكوتة”
كانت الشركة المصرية لتجارة الأدوية “حكومية” قد أبلغت فروعها في مختلف محافظات مصر بتوزيع الأدوية التي خصصتها الإدارة المركزية لشؤون الصيدلة بشأن علاج مصابي كورونا، وفق حصة معينة لكل صيدلية، أو ما يعرف بنظام “الكوتة”.
الإدارة المركزية حددت عددًا من الأدوية لعلاج المصابين أو المشتبه فيهم بالإصابة بالفيروس (زيثرومايسين ومخفض الحرارة باراسيتامول، وفيتامينات “ج” و”د”، و”زنك”) محذرة من تجاوز حصول كل صيدلية على حصتها المحددة سلفًا، وهو ما أثار استياء أصحاب الصيدليات بصورة كبيرة.
إقبال كثيف شهدته الصيدليات ومنافذ توزيع الدواء في مصر خلال الأشهر الماضية، لا سيما على الأدوية التي يعتقد أن لها تأثير فيما يتعلق بالعلاج أو الوقاية من الفيروس
الصيادلة كشفوا أن هذا النظام “الكوتة” سيعقد من الأزمة، فالإجراءات الروتينية البيروقراطية المتبعة في تغذية الصيدليات بتلك الأدوية لا تتناسب مع أجواء انتشار الفيروس وزيادة معدلات الإصابة به، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام التجارة غير المشروعة وإنعاش السوق السوداء بالأدوية المسربة، سواء من الخارج أم المصنعة في أماكن مخالفة “بير السلم”.
الإجراءات التي اتخذتها وزارة الصحة المصرية في هذا الشأن دفعت بعض الشركات إلى وقف إنتاجها من تلك الأدوية، وذلك بعد إلزام الوزارة بإنتاج تلك الأصناف لحسابها، الأمر الذي أربك السوق بصورة كبيرة في ظل قلة المعروض مقابل الإقبال الكبير من المواطنين.
تحذيرات.. ولكن
إقبال كثيف شهدته الصيدليات ومنافذ توزيع الدواء في مصر خلال الأشهر الماضية، لا سيما على الأدوية التي يعتقد أن لها تأثير فيما يتعلق بالعلاج أو الوقاية من الفيروس، وهو ما وثقه عشرات الصيادلة ممن حذروا من تأثير تلك السلوكيات على حياة المرضى بصفة عامة بعدما أُفرغت المستودعات من الأدوية.
ورغم التحذيرات الصادرة عن الجهات الرسمية المصرية بشأن أصناف دوائية بعينها يقبل عليها الشارع بصورة كبيرة، فإن ذلك لم يؤثر على حجم الإقبال، وهو ما كان له أسوأ الأثر على أصحاب الأمراض المزمنة ممن باتوا الضحية الأكبر لتلك الممارسات الخاطئة.
في 22 من مارس/آذار الماضي حذرت هيئة “الدواء المصرية”، من الاستخدام الخاطئ لمركب (الهيدروكسى كلوروكين) في علاج كورونا، وذكرت في بيان لها “أنه بخصوص الأخبار المتداولة عن استخدام الأدوية المحتوية على مركب (الهيدروكسي كلوروكين) في علاج فيروس كورونا المستجد (COVID-19) والصحة العامة، ينوه مركز (اليقظة الصيدلية) التابع للهيئة عن خطورة الاستخدام غير السليم لتلك المستحضرات دون توجيه وإشراف طبي”.
الهيئة نبهت أن هذا المركب له تأثير سلبي على عضلة القلب، كما له تداعيات كارثية على شبكية العين، بجانب التفاعلات التي من الممكن أن يحدثها مع أدوية أخرى بما يأتي بنتائج عكسية مثل أدوية السكر وبعض أدوية القلب، وعليه أكدت ضرورة أن لا تستخدم دون توجيه وإشراف طبي، ومع ذلك لم تحرك تلك التحذيرات من ساكن في رجل الشارع العادي.
قدر حجم السوق السوداء للأدوية في مصر بنحو 525 مليون دولار، وبالتالي يمثل 15% من حجم سوق الدواء الإجمالي الذي يصل إلى نحو 3.5 مليار دولار
اختفاء الأدوية والسوق السوداء
نتيجة طبيعية لتلك الإستراتيجية الرسمية المتبعة نشطت السوق السوداء لتجارة الأدوية المخصصة لكورونا وغيرها، وهو ما أكدته عشرات الشهادات من مواطنين حصلوا على مستلزمات الوقاية من الفيروس (الماسكات – الكحول – أدوية فيتامين سي – إلخ) عن طريق جهات غير رسمية.
إسلام.. شاب في الأربعين من عمره يروي تفاصيل معركته للحصول على كمامات ومطهرات لليد، كاشفًا في حديثه لـ”نون بوست” أنه لجأ إلى عشرات الصيدليات للحصول على ماسك للوجه لكن دون جدوى، حيث أخبره العاملون بتلك المنافذ أن الشركات المنتجة لتلك الأصناف أوقفت إنتاجها.
وبسؤاله عن السبب قيل له إن التسعيرة التي وضعتها وزارة الصحة لم ترض المنتجين، ومن ثم أوقفوا الإنتاج أو خفضوا حجمه، فيما أومأ إليه صديق مقرب منه أن جزءًا كبيرًا من الإنتاج يذهب لتجار السوق السوداء بأسعار عالية، بما يشبع نهم أصحاب المصانع.
وكشف أنه وعن طريق إحدى المجموعات على موقع فيسبوك توصل إلى جهات تبيع تلك المستلزمات، وبالفعل تواصل معها وحصل على كمية معقولة، ورغم سعرها الغالي مقارنة بسعرها الحقيقي (200% زيادة) إلا أنه مضطر لذلك خاصة بعد فرض غرامات على من لا يرتديها في الطرق العامة.
وقد شهد سوق الدواء في مصر خلال العام الماضي نموًا قدره 19.3%، بقيمة مبيعات بلغت 77 مليار جنيه، وفق تقرير صادر عن المؤسسة العالمية للمعلومات الدوائية، لكن في الجهة الأخرى حققت السوق السوداء لبعض الأصناف الدوائية معدل نمو أكبر بكثير من السوق الرسمية.
شعبة الأدوية بالغرفة التجارية بالقاهرة، قدرت حجم السوق السوداء للأدوية في مصر بنحو 525 مليون دولار، وبالتالي يمثل 15% من حجم سوق الدواء الإجمالي الذي يصل إلى نحو 3.5 مليار دولار، وعزت ذلك إلى اختفاء الكثير من الأدوية في منافذها الشرعية.
وفي دراسة أعدتها نقابة الصيادلة في مصر قبل فترة كشفت اختفاء ما يقرب من 2000 صنف دوائي من السوق خلال الآونة الأخيرة، وأرجعت ذلك إلى حزمة أسباب، أبرزها ارتفاع سعر الدولار أمام العملة المحلية ما تسبب في زيادة كلفة المواد الخام المستوردة ومن ثم تحريك الأسعار بالأسواق المحلية، بجانب الإقبال الكثيف في وقت الأزمات.
وفي المجمل فإن أصابع الاتهام توجه بشكل مباشر للإجراءات التي اتخذتها الحكومة في هذا الشأن، ورغم القيود والضوابط التي وضعتها وزارة الصحة، فإنها أتت بنتائج عكسية في ظل زيادة أعداد الإصابات بالفيروس التي بلغت حتى الإثنين 22 يونيو 2020 نحو 56809 حالة فيما بلغ عدد الوفيات 2278 حالة، ليدفع أصحاب الأمراض المزمنة على وجه التحديد ثمن هذا الصراع من أجل الحصول على الدواء.