في روايته “يوتوبيا” (2008) خط الراحل العظيم أحمد خالد توفيق تحفة فنية هي رواية خيالية سياسية عن الحياة في مصر ونشرت في ظل نظام مبارك. توقعت الرواية المستقبلية بعض أحداث عصرنا منذ نحو 12 عامًا! تحكي الرواية قصة شخصين رئيسيين هما “الصياد” و”الفريسة” أو “الفقراء” و”الأغنياء”. المفارقة هنا أن الشخصية الفقيرة توصف بأنها الصياد والأغنياء كالفريسة، حيث يكافح الفقراء من أجل البقاء، والفريسة تنتظر وفاتها.
تحدث أحداث الرواية عام 2023، عندما كانت النخب المصرية في مدينة مسيجة محصنة ومحمية من فرق إطلاق النار للقتل المسلح، انهارت الطبقة الوسطى وفر الأثرياء وراء الأبواب إلى المدينة الفاضلة، تلك المدينة التي تختفي فيها القيم وترتفع بها العدمية المفرطة التي تنبثق من الحياة الخالية من الإثارة، يوتوبيا هي مكان حيث المال والطبقة تعني كل شيء بغض النظر عن معتقداتك، أما خارج الأسوار فيعيشون في عالم مغاير تمامًا، فخارج الأسوار وداخلها عالمان مختلفان.
كان الدافع لإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة في الصحراء القاتمة هو البُعد أساسًا عن القاهرة
توقع الراحل أحمد خالد توفيق العاصمة الإدارية الجديدة قبل 7 سنين من بدء إنشائها، والعاصمة الإدارية الجديدة هي مدينة تبعد 45 كيلومترًا عن القاهرة، مخصصة للنخب ولإسكان الحكومة والبرلمان والأغنياء، إذًا ما الذي تبقى لـ32.5% من المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر وفقًا لدراسة عام 2018؟ يمكن أن نحصل على إجابة مقتبسة من الرواية: “نعم.. لم يكن للمصريين ما يباع سوى الماضى.. وقد اشتريناه”!
يوتوبيا النخبة: قاهرة تحاكي دبي
تظن الدولة أن القاهرة وصلت إلى طريق مسدود، لذا فمن الضروري إنشاء مدينة أخرى لاستعياب المقرات الحكومية والطبقة العليا التي تعتقد أن القاهرة كانت مدينة ذهبية قبل أن يأتي المهاجرون ويدمروا كل شيء! فكان لا بد من تخفيف الزحام والفصل المجتمعي، فتلك اليوتوبيا الجديدة لا تستهدف الفقراء، فقد صرح الأستاذ أحمد العربي، معاون رئيس الجهاز في تقرير لقناة العين الإخبارية الإماراتية، أن النهر الأخضر لن يكون قاصرًا على سكان الحديقة المركزية ولكنه سيكون متاحًا للوافدين، ومن الطريف استعمال مصطلحات السكان والوافدين في مدينة مصرية كان من المفترض لها أن تكون كسائر المدن، يزورها الزائر دون الحاجة إلى كفيل يكفل له زيارته تلك ولو اصطلاحًا!
كان الدافع إذًا لإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة على بعد 45 كيلومترًا من القاهرة في الصحراء القاتمة هو البُعد أساسًا عن القاهرة – أو ربما مستقبلًا تمدد القاهرة الجديدة مجددًا ومجددًا التي قال المهندس صبور “لا حدود لها”، ومن الغريب عند قراءتنا للإعلانات الترويجية عن العاصمة الإدارية الجديدة أن نجد الكثير من البروباغندا التي لا تراعي أولويات هذا المجتمع والدولة التي تزداد ديونها يومًا بعد يوم.
فنجد أن الإعلانات تركز على منتزه ترفيهي رئيسي مساحته أربعة أضعاف مساحة ديزني لاند وحديقة مضاعفة بحجم سنترال بارك في مدينة نيويورك، واحتواء المدينة على ناطحات السحاب ونصب تذكاري طويل سيشبه نصب برج إيفل ونصب واشنطن، والبحيرات الاصطناعية وأكبر جامع وأكبر كاتدرائية وغيرها، بتكلفة تبلغ 45 مليار دولار للمرحلة الأولى.
ليأتي تساؤل لا يمكن تغافله: من الذي تخاطبه تلك المدينة؟ هل تخاطب ثلثي سكان مصر الذين يعيشون في العشوائيات؟ علمًا بأن تكلفة البيوت في العاصمة الجديدة لا يتحملها إلا الأغنياء، فيمكننا بوضوح أن نرى من خلال صور المدينة الجديدة التخيلية كيف تحاول تقليد صورة دبي بوجود ناطحات سحاب وأبراج زجاجية ومبان ذات طراز فخم لن تجده في مشاريع الدولة الموجهة للفقراء، فالمدينة الجديدة إذن صريحة في من تخاطبه، إنها تخاطب الأغنياء فقط، أما الطبقة الوُسطى فعليها البقاء في المركز، فوجودهم ضروري ومهم هنالك أو كما قال توفيق في “يوتوبيا” إن المدينة بُنيت على فصل فئة معينة عن الطبقات الأخرى التي ستستمر في العيش بالقاهرة، المدينة المزدحمة بما في ذلك الطبقة الوسطى – التي ستضطر بطريقة ما إلى البقاء هناك لأن الدولة لا ترغب في أن تتضاءل هذه الفئة – التي كما قال أحمد خالد توفيق تلعب دور قضبان الجرافيت في المفاعلات الذرية، تبطئ رد الفعل وإلا لانفجرت، فالطبقة المتوسطة هي التي تمنع المجتمع من الانفجار.
استعارات من الماضي
ولأن الماضى هو الملاذ الآمن للاستعارات والنسخ المقلدة، فما هي الاستعارة التي يمكنها أن تليق بالنخب العليا التي ستسكن في العاصمة الجديدة؟ إنها “جاردن سيتي الجديدة”! وجاردن سيتي هي منطقة سكنية راقية في وسط القاهرة تمتد على الجانب الشرقي من النيل جنوب وسط المدينة مباشرة بالقرب من موقع ميدان التحرير، يرسم حدود تلك المنطقة شارعان رئيسيان، شارع قصر العيني من الشرق وكورنيش النيل من الغرب، وتشتهر جاردن سيتي بأجوائها الهادئة والراقية والآمنة وهي وجهة رئيسية للسياح الأغنياء، وتقع السفارات الأمريكية والبريطانية والإيطالية هناك.
تم تطوير الحي بشكل مختلف عن معظم المناطق والأحياء الأخرى في القاهرة، فقد خططه المستثمرون من القطاع الخاص على عكس التطور الطبيعي للمدن التي تتميز بالهجرة غير المنظمة للناس، ويمكن تفسير التشجير وتخطيط الشوارع والهندسة المعمارية والأجواء العامة للحي من خلال طبيعة مؤسسيها ومحاولات الخديوي إسماعيل لتحويل القاهرة لنموذج حضري يضاهي أوروبا تقدمًا، فقررت العاصمة الجديدة نسخ نسخة أخرى من جاردن سيتي تسمى “نيو جاردن سيتي” تصفها في إعلان رسمي على النحو التالي:
“جاردن سيتي ليست مجرد حي، إنها تاريخ حيث يمكنك تعلم كل تاريخ مصر من خلال النظر إلى معمارها وتعرف المزيد عن ذوق الناس في تلك الأزمنة، تنظر إلى ألوان المباني وحجمها وتقع في حبها، ولكن ما يثير إعجابك هو أنك ستجد جاردن سيتي مرتين: واحدة في قلب القاهرة وواحد في قلب العاصمة الجديدة. أردنا شيئًا يربط القديم بالجديد ولأن يعطينا الشعور بأن العاصمة الإدارية الجديدة ليست بعيدة جدًا عن ماضينا. إنها محاكاة مثالية لن تعرف الفرق بينهما. وتتميز المباني باحتوائها على مواقف للسيارات والأمن وضوابط الوصول والمصاعد وأنظمة إنذار الحريق وعزل الصوت.. لهذا فهي نسخة مُحسنة من جاردن سيتي. وشوارع جاردن سيتي الجديدة ليست ضيقة مثل الشوارع القديمة، وهي مبنية على نطاق ضخم بمساحة 4.2 كيلومتر مربع، وقد استخدمنا الأنماط الكلاسيكية لإعطاء قيمة جمالية عالية، فهي جزء من باريس وستقدم خدمات ذات جودة فرنسية لأولئك الذين يسعون إلى التميز”!
وكما رأينا من قبل في المقالات السابقة رمزية جاردن سيتي في الطبقية المصرية، فإن العاصمة الجديدة تتحدث عن نفسها بواقعها ورمزيتها.
كتب المعماري المصري أدهم سليم في مقال بعنوان “القاهرة الجديدة الجديدة” أن الحنين إلى الماضي ليس شوقًا لأشكال الماضي إنما تلك المحاولات هي محاولات لخلق تاريخ أكثر تاريخية، وقاهرة أكثر قاهرية، “ومع كل ذلك، القاهرة الجديدة الجديدة الجديدة بالتأكيد ليست مفرغة من السياسة. في الواقع لم يكن هجران القاهرات القديمة خسارة لما هو عام بالضرورة، بقدر ما كان حراكًا نحو نوع آخر مما هو عام: عامٌ بلا مركز ولا ذاكرة. في عالم ما بعد البانوبتيكون، نحن جميعًا، من مواقعنا على غيمة لهونا وعملنا الإلكترونية، متواطئون على تأديب أنفسنا؛ محكومون بسلطة التضامن لا الإجبار؛ أحرارٌ ومحرومون؛ سجناء وجلادون في ذات الوقت. بالنسبة لأولئك الذين يعيشون ويعملون في القاهرة الجديدة الجديدة الجديدة لا يتعلق الأمر بالانعتاق أو التسليم، فمحض وجودهم فيها هو جواز مرورهم إلى السياسة. بالنسبة للبقية، القاهرة الجديدة الجديدة الجديدة هي المستقبل الماضي الذي أضحى كابوسًا حين استحال حاضرًا”.
فهل اقتصرت العاصمة الجديدة على تلك الاقتباسات أم أنها أيضًا تأثرت بالمد الفرعوني المؤثر؟ وما دور ذلك في صراع الهويات والأيدلوجيات في مصر؟ ذلك ما سنستكمله في المقال القادم بإذن الله.