الهوية كلمة مشتقة من الضمير “هو” وهي مجموعة محددات وموروثات ثقافية واجتماعية وحضارية وقواسم مشتركة بين مجموع القاطنين بمكان جغرافي واحد في زمن ما، مما يحدد طبيعتهم وشخصيتهم ومنظومة أفكارهم وسماتهم.
احتلت إشكالية الهوية المصرية النقاشات السياسية والفكرية منذ القرن الماضي، ودارت السجالات العديدة في العقود الأخيرة بشأن صراع الهوية الفرعونية – سوف أسميها الفرعونية هنا اصطلاحًا وإنما الاسم الصحيح هو الحضارة المصرية القديمة – والمصرية والإسلامية، فكيف أثر ذلك على شكل القاهرة؟
بدايةً علينا أن نفرق بين كلمتي “الهوية” و”الطرز المعماري”، فالبعض عندما يستمع إلى “الهوية الفرعونية” فإنه يتصور فقط تلك المباني التي تحاكي مباني مصر القديمة، أو الهوية الأوروبية فيتخيلها كقصور جاردن سيتي! لكن هذه الأمثلة السابقة إنما هي طُرز معمارية، والهوية هي التي تُنتج الطرز المعمارية وليس العكس، ومن الطبيعي أن تلك الطُرز تعبر عن هويات أصحابها.
لكن علينا الآن أن نبدأ بالتسلسل الصحيح للأسئلة، ألا وهو: ما الهوية المصرية الحاليّة؟ ما الطريقة التي يرى بها الإنسان المصري نفسه ويرى علاقته بوجوده وهدفه؟ إذًا فسؤال هوية المرء يسبق سؤال الهوية المعمارية، وإذا وعى المتخاصمون ذلك وصرحوا به فسيوفرون على أنفسهم الكثير من العناء في أثناء مناقشاتهم المعمارية.
فهل المصري الذي يعيش على أرض مصر عام 2020 فرعوني؟ أوروبي؟ مسيحي؟ مسلم؟ عربي؟ ما الهوية التي يختارها لنفسه؟ ولأن الأجوبة ستكون مختلفة بالطبع عن هذا السؤال، تنتج فوضى الهوية التي تؤدي للفوضى المعمارية التي نعيشها حاليًّا والتي مع الفارق في التشبيه بالطبع رأى المفكر المعماري أونجرز أن برلين في شكلها الأكثر أهمية هي مدينة مقسمة تتكون من أجزاء متباينة بشكل لا يمكن اختزاله، وبسبب عدم اليقين بشأن إعادة بنائها، فإنها في حالة عدم اكتمال دائم مستمر.
وبشأنها، تمر القاهرة بنفس المفهوم والعمليات بسبب عدم وجود خطط أو رؤى طويلة المدى لكيفية أن تكون المدينة، وكذلك كما سنشير، تتصادم الأيديولوجيات بين الحكام المتعاقبين على حكم مصر.
تعدد الطرز المعمارية بالقاهرة
طبيعة مصر اقتضت عليها أن تكون مثل وعاء الانصهار الذي يحتضن الحضارات ثم تُخرج مصر مزيجها الخاص بلمسة مصرية، ونستطيع لمس ذلك عن طريق اختلاف الثقافات والطُرز المعمارية لنفس الحضارة في بلدين مختلفين كمصر وتركيا على سبيل المثال في العصر العثماني.
ولقد تعاقبت على مصر الكثير من الطرز المعمارية بداية من الفرعونية مرورًا بالرومانية اليونانية والإسلامية كالمملوكية والعثمانية والأوروبية والحداثية وما بعد الحداثية على سبيل المثال، وكل تلك الطُرز جعلت بعض المعماريين المصريين يتساءلون، أيهم يُمثل مصر؟ وبسبب نظرة بعض القوميين المعاصرين نظرة قومية حديثة – بمفاهيم عصرنا – إلى الأغيار باعتبارهم محتلين، فإن الكثير يعتبر أن الهوية المعمارية الفرعونية بمفرداتها هي الوحيدة التي تُمثل مصر.
أما الإسلامية فعلى حد تعبير البعض إنما هي حضارة الغزاة العرب! ولن نستطيع الرد على هذه النظرة السطحية في هذا المقال نظرًا لخروجه عن الموضوع الأصلي لسطوري تلك، وإنما أكتفي بالإشارة إلى أن أكثر طرازين مهيمنين على المعماريين الذين يعتنون بمسألة الهوية في يومنا هذا هما الإسلامي والفرعوني.
وقد ذكرت سبب التمسك بالهوية المعمارية والرمزية للفراعنة بالأعلى، أما الإسلامية فهي بالتأكيد نابعة من الدين واستمرارية الحضارة الإسلامية بمصر لفترة طويلة مع عدم الانقطاع النسبي لتلك الثقافة إلى يومنا هذا، وهذا لا ينفي تعرض تلك الاستمرارية لفجوات أدت إلى انحدارها كظهور التغريب الحضري والتقليد الأعمى للنماذج الأوروبية مما أدى إلى إيقاف تلك المسألة وغياب ما يُسمى بالهوية المعمارية المصرية في أزمنة مختلفة.
شاهدنا حدثًا مهمًا في ميدان التحرير أثار غضب الكثير من المهندسين المعماريين والمفكرين الحضريين والمنظرين، ألا وهو نقل مسلة فرعونية وأربعة من الكباش الأثرية إلى ميدان التحرير
الهوية المعمارية.. الفرعونية أم الإسلامية؟
كما ذكرنا في المقالات السابقة وجود تخبط من حيث الهوية نظرًا للتغير الدراماتيكي لأيدلوجيات الأنظمة، ولكن إذا ما عنينا بتوجه الدولة الحاليّ، فسنجد غلبة الطراز المصري القديم على غيره وخصوصًا في المباني العامة بالعاصمة الإدارية الجديدة كما سُنفصل في المقال القادم، وفي الأيام الأخيرة، شاهدنا حدثًا مهمًا في ميدان التحرير أثار غضب الكثير من المهندسين المعماريين والمفكرين الحضريين والمنظرين، ألا وهو نقل مسلة فرعونية وأربعة من الكباش الأثرية إلى ميدان التحرير، تلك الساحة التي بنيت في عصر إسماعيل وأصبحت رمزًا كبيرًا لثورة 2011 والربيع العربي بشكل عام، حتى أصبحت رمزًا عالميًا للحرية، ولكن نظام السيسي المعروف بمناهضته لثورة 2011 أراد القضاء على هذا الجانب الثوري من الساحة بتغيير مظهرها بالكامل وإنشاء تصميم جديد تمامًا لمنع المتظاهرين من التجمع مرة أخرى في الساحة.
وبهذا التصميم الجديد للميدان – الاستعمارى الإمبراطوري – يتحول الميدان الذي كان ذا قيمة عالمية كرمز للثورة المصرية والربيع العربي وتحرير الناس إلى نسخة منزوعة القيم والمعاني، حيث تم اقتطاع السياق ومحاولة إقحامه إلى سياق آخر لا علاقة له بالميدان تاريخيًا ومكانيًا وزمانيًا، أما الضرر الآخر فهو ضرر محتمل لتلك الآثار الثمينة وتعريض سلامتها للخطر.
من الطريف والمثير للسخرية نظرًا لسطحية الطرح، أن بعض الموالين للنظام ادعوا أن هذه الكباش الأربع رمز لجماعة الإخوان المسلمين التي يطلق عليها في وسائل الإعلام الموالية للسيسي اسم الكباش، وأن رقم أربعة هو تمثيل لميدان “رابعة” والمسلة هي رمز لخداعهم في مكان مثل ميدان التحرير الذي قادهم إلى السلطة قبل الانقلاب، في التحرير قلب العاصمة، يمكن إرسال مثل هذه الرسالة للجمهور بانتصار فرعون، وهزيمة الشعب!
لن أُبالغ إذا قُلت إن الهوية الوحيدة المعروفة عن مصر في الخارج هي الهوية الفرعونية، وخاصة لغير المطلعين من الغربيين، فإذا سألت أي منهم عن مصر، سوف يُخبرك عن الأهرامات وأبو الهول وغيرها من رموز مصر القديمة، ولا يمكننا لوم الغربيين على جهلهم بالثقافة الغنية لمصر وشعبها الذي يتعدى حقبة زمنية واحدة إلى فترات وحضارات متعاقبة متراكبة تكونت خلالها الشخصية المصرية إلى ما وصلت إلى ما هي عليه في يومنا هذا.
لكن اللوم الأكبر قد يكون على الدولة التي تحاول تصدير تلك الصورة في مختلف المحافل الدولية، فالهوية الفرعونية – واسمحوا لى أن أُسميها الفرعونية هنا لسهولة وصول المعنى – هي الملاذ الآمن للمصريين الباحثين عن المجد في ماضيهم.
ومشكلتي ليست في تكوين الهوية المصرية بحد ذاتها رغم وجود العديد من الخلافات غير السياسية بخصوص الهوية المعمارية بذاتها كمصطلح، وإنما مشكلتي تكمن في التقليد السطحي والمعالجة الركيكة التي يتم التعامل بها مع التراث المصري الغني، فإضافة مفتاح الحياة وأقراص الشمس والأعمدة الفرعونية لن يُثري قيمة الهوية المصرية بل يضرها كما وضحنا في المقالات السابقة، فما الحل؟ وكيف السبيل إلى تلك الهوية المعمارية؟
كان قسم آخر من الشعب يدعو إلى هوية إسلامية لمصر حيث تعتبر مصر قلب العالم الإسلامي
الطريق نحو هوية مصرية خالصة
أجد باختصار دون الدخول في التفاصيل التقنية التي قد يمل منها غير المتخصصين، أن حل مشكلة الهوية المعمارية المصرية لا بد أن يطرحه المعماريون والمفكرون ومناقشته في خلال الأُطر السابقة، مع وضع عصرنا الحاليّ في الاعتبار، فمصر والمصريون اليوم ليست قطعًا مصر والمصريين من مئات وآلاف السنين! وأرى أنه من الخطأ إعطاء الأولوية للهوية الشكلية، حيث إنني أرى في ذلك طرحًا سطحيًا يغفل عن معنى العمارة الحقيقي، فالشكل مهم ولكن الأهم إعطاء حلول للمشاكل البيئية والمناخية واستغلال الموارد المتاحة بالشكل الأمثل، وعرض حلول معمارية تُناسب مجتمع اليوم.
أما بالنسبة للغة الشكلية للعمارة المصرية، فبدلًا من الاقتباس السطحي للمفردات القادمة من الطُرز الماضية، فإن فهم الدوافع وراء إنشاء تلك اللغة وإعادة تفسيرها في ضوء ما سبقنا ذكره في المقالات السابقة سينتج عنه هوية مصرية غير منقطعة عن واقعها، بل يشعر المصري بالانتماء لها وتُصبح كما قال أنطوان دو سانت إكزوبيري الروائي الفرنسي، أن تصبح كل خطوة في المبنى ذات معنى.
الهوية المفقودة في زحام الشوارع
ومن ناحية أخرى لدينا الحياة اليومية المصرية التي لا تمثل هذه الهوية المصرية القديمة ربما باستثناء جانب واحد، من وجهة نظر فلسفية وفكرية ألا وهي فهم وتفسير متعمق لحضارة الفراعنة وعلاقات الملوك والآلهة “الفراعنة” مع عامة الناس وكيف سيتم ربطها الآن علاقة الحاكم الواحد – المواطن في عام 2020.
من ناحية أخرى، كان قسم آخر من الشعب يدعو إلى هوية إسلامية لمصر، حيث تعتبر مصر قلب العالم الإسلامي، ولكن هل تريد الدولة حقًا محاربة هذه الهوية عن طريق تأكيد الهوية المضادة الفرعونية؟ أم أن إهمال الهوية الإسلامية مجرد مصادفة؟ أم نقص في الوعي بأهمية هذا الدور الذي إن تم استغلاله بشكل صحيح ستُعاد الريادة إلى مصر في الشرق الأوسط؟! هذا ما سنحاول اكتشافه في المقال القادم باذن الله.