يعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادة وشائكة تعددت أسبابها وتنوعت القوى المسؤولة عنها، غير أن هذه الأزمة بدأت تضغط بشكل كبير على اللبنانيين في ظل عجز في الموازنة العامة للدولة تخطى الـ90 مليار دولار، وبطالة آخذة بالازدياد، ونمو آخذ بالتراجع، وفساد مستشري ومتغلغل في كل مفاصل البلد السياسية والإدارية وغيرها، ومحاصصة مستحكمة ومتحكمة بكل شيء، وتعبئة متبادلة بين المكونات، ومحاولات تخوين من ناحية وتخويف من ناحية ثانية، وشك من ناحية ثالثة، إلى كل ما من شأنه أن “يزيد الطين بلة” كما يقولون.
غير أن ما بلغته الأمور والأحوال خلال الأسابيع والأيام الأخيرة بدا وكأن شبح الجوع والحرب بدآ يطلان برأسيهما على لبنان في ظل ضعف الموارد من ناحية، وعجز اقتصادي من ناحية أخرى، وأزمة صحية بفعل كورونا من ناحية ثالثة، ومحاولات خارجية من أكثر من طرف لاستغلال الساحة اللبنانية وتحويلها إلى ساحة مواجهة وتصفية حسابات بين أطراف متصارعة ومتنافسة خارجيًا وداخليًا.
تراجع الليرة مقابل العملات الأجنبية
فعلى الرغم من كل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة اللبنانية ممثلة بالمصرف المركزي من ناحية والأجهزة الأمنية والقضائية من ناحية ثانية، والمؤسسات الاقتصادية من ناحية ثالثة، فإن الليرة اللبنانية لم تصمد أمام العملات الأخرى، وسجلت تراجعًا، بل انهيارًا كبيرًا أمام الدولار الأمريكي وبقية العملات، وبات في لبنان أربعة أو خمسة أسعار لصرف الليرة في مقابل العملات الأجنبية.
فهناك السعر الرسمي الذي ما زال مصرف لبنان يصدره وهو 1515 ليرةً لبنانيةً لكل دولار أمريكي، لكن هذا السعر غير معمول به إلا في شحن بطاقات الخط الهاتفي المسبقة الدفع، وفي بعض التعاملات الأخرى المشابهة، وهي محصورة جدًا، وهناك منصة الصرف التي حددها مصرف لبنان للمصارف لصرف أموال المدخرين بالليرة اللبنانية عندما يريدون السحب من مدخراتهم الدولارية، وهي منصة حددت سعر الصرف بـ3 آلاف ليرة لبنانية لكل دولار أمريكي.
وهناك قيمة التحويلات الخارجية التي تُرسل من الخارج عبر المصارف أو عبر شركات نقل الأموال، هي منصة حددت سعر الصرف بـ3 آلاف و900 ليرة تقريبًا، وهي معمول بها في هذا الإطار، وهناك السوق الموازية أو ما يُطلق عليها في بيروت السوق السوداء، وعملية الصرف فيها تختلف من يوم لآخر، بحيث بلغت في بعض الأحيان 6 آلاف ليرة لكل دولار أمريكي، وهي التي تُعتمد حالًًّا في الأسواق عند تسعير السلع وبيعها بالليرة اللبنانية للزبائن، خاصة أن لبنان يُعد دولة مستوردة لأغلب الحاجيات الأساسية والكمالية بالدولار، وبالتالي فإن الأسواق اللبنانية شهدت ارتفاعًا جنونيًا للأسعار ما جعل المواطنين يقعون فريسة هذا التدهور المريع الذي تزامن مع أزمات أخرى منها تراجع نسبة التغذية بالتيار الكهربائي وازدياد ساعات “التقنين” بسبب النقص في مادة “الفيول” التي تستخدم في إنتاج الكهرباء.
وكذلك تراجع كمية المازوت في الأسواق اللبنانية بسبب تهريبه بكميات كبيرة إلى سوريا، وهذا ما رفع سعر الصفيحة إلى قرابة الـ20 ألف ليرة في حين أن سعرها الطبيعي كان قرابة الـ10 آلاف ليرة، وهذا بدوره أثر على مولدات الكهرباء الخاصة التي تشكل بديلًا لكهرباء الدولة بالنسبة للمواطنين، ما زاد من نسبة إنفاق اللبنانيين من أموالهم، وبالتالي زاد من حجم الأزمة والمعاناة.
الضغوط والإصلاحات
تُجري الحكومة اللبنانية عبر وفد رسمي، منذ قرابة الشهر، مفاوضات مباشرة مع صندوق النقد الدولي، وتتركز المفاوضات على استحصال لبنان على تمويل من الصندوق لرفد الدورة الاقتصادية والتخفيف من آثار فقدان الدولار من الأسواق اللبنانية، غير أن هذه المفاوضات ما زالت متعثرة لأكثر من سبب.
تحاول الحكومة “المراوغة” في مفاوضاتها مع الصندوق، وتعمل على كسب الوقت، وتحاول أن تتهرب من العقوبات والضغوط الاقتصادية
فمن ناحية يطالب الصندوق الحكومة اللبنانية بإجراءات وإصلاحات جدية وحقيقية في الإدارة وعلى مستوى القوانين، ويركز بشكل أساسي على مسألة الإصلاح في ملف الكهرباء الذي يشكل أحد أبرز أبواب الهدر والفساد في البلد، فضلًا عن موضوع التهريب عبر الحدود أو التهرب الضريبي لمؤسسات وأحزاب وأفراد وغيرهم، ويعتبر الصندوق أن تنفيذ هذه الإصلاحات هو البوابة للحصول على التمويل المطلوب.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الشروط هي الوحيدة المطروحة من الصندوق، وأن غايتها الإصلاح الحقيقي، غير أن التدقيق والتمحيص يجعل المرء يكتشف أن هذه الشروط تخفي خلفها مجموعة أخرى من الشروط التي لم يتم الإفصاح عنها رسميًا، ومنها مسألة الحدود البرية والبحرية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي وما يستتبع ذلك من ملف النفط والغاز في شرق المتوسط، وهناك مسألة صفقة القرن، وما يتصل بها من تخلي اللاجئين الفلسطينيين عن حق العودة، وهناك النظام السياسي اللبناني بشكل عام والمطلوب أن يكون تابعًا وغير مستقل.
ومن جهتها تحاول الحكومة “المراوغة” في مفاوضاتها مع الصندوق وتعمل على كسب الوقت وتحاول أن تتهرب من العقوبات والضغوط الاقتصادية التي زادتها تداعيات قانون قيصر الذي يستهدف النظام السوري، كما أن خضوع الحكومة لإرادة القوى السياسية من ناحية، ومنطق المحاصصة من ناحية ثانية، أفقدها عنصر الثقة التي تحتاجه في مفاوضاتها مع صندوق النقد، وبالتالي قلل من فرص إيجاد الحلول للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أمامها، ووضع لبنان أمام تحديات جديدة وكبيرة من غير السهل مواجهتها أو الخروج منها.
احتمالية الحرب
أمام مشهد الضغوط الاقتصادية والعقوبات وأمام فشل الحكومة في إيجاد البدائل وأمام شعور “حزب الله” وحلفائه بأن ما يجري عبارة عن حرب اقتصادية تطالهم وتعمل على تجويعهم بهدف نزع سلاحهم، وقد أشار إلى ذلك أمين عام الحزب، حسن نصر الله في كلمة متلفزة له قبل أيام، فإن الأمور قد تذهب فعلًا إلى مواجهة محدودة أو مفتوحة في الأسابيع أو الشهور المقبلة.
هناك قلق في لبنان اليوم من شبح الجوع الذي يلوح بالآفاق جراء الأزمة الاقتصادية وشبح الحرب التي قد تقع في أي لحظة
فقد أعلن نصر الله بشكل صريح أنه يمتلك معادلة تمنع تجويع البيئة الحاضنة لحزبه، وكذلك تجويع اللبنانيين، غير أنه لم يكشف هذه المعادلة التي سرعان ما تبين أنها قد تكون فتح جبهة حرب مع الاحتلال الإسرائيلي من خلال الحدود الجنوبية للبنان مع فلسطين المحتلة، وقد نشر الإعلام الحربي للحزب فيديو من 38 ثانية تضمن مشاهد وخرائط لمواقع إسرائيلية حساسة داخل فلسطين المحتلة، ومشاهد أخرى لصواريخ قد تكون دقيقة الأهداف، فضلًا عن تهديد صريح بصوت نصر الله بالحرب.
غير أن الضابط لعدم حصول هذه المواجهة، أو أن تكون محدودة، هو إمكانية كل من الطرفين الوصول إلى قناعة بضرورة التوصل إلى تسوية أو تفاهمات بحدود معقولة لكل منهما تضمن مصالح الطرفين، وذلك عبر وسيط، وليس بشكل مباشر كما يظن البعض، وقد يكون الوصول إلى تلك التفاهمات أيضًا من خلال حرب محدودة تخرج الأطراف كلها منتصرة فيها، ولكنها تغير بعض المعادلات المطلوبة.
أمام كل ذلك هناك قلق في لبنان اليوم من شبح الجوع الذي يلوح بالآفاق جراء الأزمة الاقتصادية وشبح الحرب التي قد تقع في أي لحظة، وبين هذا الشبح وذاك ينتظر اللبنانيون الفرج بعد أن كانوا يحلمون بالثورة التي انتظروا أن تكون هي الخلاص.