شهدت العديد من الولايات الأمريكية وكذلك كبرى العواصم الأوروبية مؤخرًا، قيام مظاهرات واحتجاجات عارمة على خلفية مقتل المواطن الأمريكي من الأصول الإفريقية جوج فلويد على يد رجل شرطة، في حادثة ليست الأولى من نوعها في أمريكا، ولكنها أشعلت مشاعر الملايين حول العالم الذين يُطالبون بإنهاء كل أشكال تفوق العرق الأبيض والمساواة بين مختلف الأعراق والأجناس.
فقد حفلت الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الطويلة الماضية، بمشاهد متكررة تتشابه مع ما حدث مع فلويد، نتج عنها العديد من المواجهات العنيفة التاريخية التي من الممكن رصدها، ولكن قبل الحديث عنها سنتحدث عن تاريخ السود في الولايات المتحدة.
بداية السود مع الظلم
بدأت قصة معاناة السود في أمريكا عام 1619، عندما تم جلب أكثر من 20 إفريقيًا من المستعبدين قسرًا، على متن سفينة اسمها “وايت ليون” الهولندية التابعة للمستعمرات البريطانية الناشئة، ووصلوا إلى موقع اسمه “بوينت كوفورت” (فورت هامبتون حاليًّا) في فرجينيا.
وبحسب متحف التاريخ في مدينة “هامبتون” الأمريكية، فإن هؤلاء “العبيد” استقدموا من مملكة ندوغو (أنغولا حاليًّا)، بعد أن قبض عليهم الغزاة البرتغاليون وكان عددهم نحو 350 “عبدًا” من الرجال والنساء والأطفال، ثم تم نقلهم إلى ميناء لواندا وأبحروا تجاه المكسيك على متن سفينة لنقل الرقيق تحمل اسم “ساو جواو باتيستا”.
وفي طريق السفينة إلى المكسيك، أغارت عليها الباخرة البريطانية “وايت ليون” وسرقت ما على متن السفينة من بضائع، إضافة لمن تبقى من البشر الذي بقوا على قيد الحياة في رحلتهم الشاقة وظروفها اللاإنسانية، ورست على ميناء بوينت كومفورت في ولاية فرجينيا التي تأسست عام 1607.
وهناك تم بيع “العبيد” على أنهم سلع مقابل بعض السلع، وتم تشغيلهم في جني المحاصيل وحقول التبغ والأرز التي أقيمت حديثًا، ومن هنا بدأت رحلة معاناة السود في أمريكا، ولكن لم يكن لتجارة “العبيد” عبر المحيط الأطلسي، أن تكون ذات تأثير في المستعمرات الأمريكية إلا بحلول نهاية القرن السابع عشر.
وفي تلك الفترة، بدأ “العبيد” يحلّون محل عمال الأجرة في العديد من المستعمرات الأمريكية، وتم استقدام آلاف الأفارقة للعمل في الولايات المتحدة، ولكن دون أن يحظوا بأي حق من الحقوق، وكان المبدأ في التعامل معهم أن “العرق الأبيض هو المتفوق والمهيمن ضد العرق الأسود”.
تطور وضع السود حتى نهاية القرن التاسع عشر
أصبحت قضية العبيد في الولايات المتحدة، تشغل القيادة السياسية هناك، خصوصًا أن أعدادهم تتزايد، لذلك تمت المصادقة على دستور الولايات المتحدة عام 1787، الذي ضم العديد من الأحكام المتعلقة بتنظيم “العبيد، أبرزها أن الكونغرس ربما لا يحظر تجارة الرقيق حتى 1808، خصوصًا أن الاقتصاد الأمريكي يحتاج إلى جلب المزيد من “العبيد” للعمل في زراعة القطن في الجنوب الأمريكي، بعد أن تم اختراع جهاز حلج القطن.
كان المواطنون السود يرضخون لمبدأ عدم المساواة مع البيض، ولم ينظموا الحركات التمردية إلا في ستينيات القرن الماضي
أخذت أحوال “العبيد” تزداد سوءًا، خصوصًا في الولايات الجنوبية التي كانت تعتمد عليهم في كل المجالات، وهناك حاول “العبيد” الأفارقة تنظيم حركات للتمرد أبرزها وأهمها حركة نات تورنر عام 1831 في فرجينيا، التي تلاها تصاعدًا في الساحة السياسية الأمريكية.
أما عن التغير الجوهري في أوضاع السود بالولايات المتحدة الأمريكية، كان عام 1861 مع وصول الرئيس الجمهوري للحكومة الفيدرالية أبراهام لنكولن المؤيد لإلغاء العبودية، الذي أصدر مرسومًا عام 1862 بإلغائها وتحرير السود في الولايات الجنوبية.
وبعد ذلك التاريخ صدرت عدة قوانين جديدة تحسن من حالة السود في أمريكا، ففي عام 1868 تم إقرار منح المواطنة الكاملة للأمريكين الأفارقة، وفي عام 1870 تم إعطاء حق التصويت للرجال السود، كما تم انتخاب هيرام رودس ريفيلز أول نائب أسود في مجلس الشيوخ، وجوزيف هايني ريني أول نائب أسود في مجلس النواب.
لكن في عام 1896، قررت المحكمة العليا السماح بشكل قانوني بالفصل العنصري وفق مبدأ “منفصلون لكن متساوون” ويشرع القوانين التمييزية للولايات الجنوبية، وبذلك تواصلت حالة العنصرية في المجتمع الأمريكي، وبقي السود يتعرضون للتعامل العنصري والدوني.
مشاهد متكررة.. على غرار فلويد
على الرغم من الدعايا الأمريكية التي انتشرت بغزارة منذ مطلع القرن الماضي، بأن الولايات المتحدة هي “أرض الأحلام والحريات”، أي أنها ملاذ لجميع الأعراق والأجناس، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للأمريكان السود، الذين لم يتم مساواتهم مع الأمريكان البيض في أغلب مناحي الحياة.
كان المواطنون السود يرضخون لمبدأ عدم المساواة مع البيض، ولم ينظموا الحركات التمردية إلا في ستينيات القرن الماضي – المستمرة حتى اليوم -، نتيجة ظهور شخصيات ثورية من الأمريكان السود، كمالكوم إكس ومارتن لوثر كينغ الذين أحدثوا تغيرات مهمة في تاريخ السود بأمريكا.
ففي عام 1965، أدى توقيف رجال شرطة بيض لشاب من أصول إفريقية يدعى ماركيت فراي خلال عملية تدقيق مرتبطة بحركة السير، ثم مشاجرة مع أقربائه، إلى تمرد في حي “جيتو” الفقير بلوس أنجلوس، الذي تحول لساحة قتال أنزلت فيها القوات رشاشات ثقيلة وفرضت حظر التجول، ونتج عن ذلك مقتل 34 قتيلًا وحبس 4 آلاف.
وبعدها بعامين، اندلعت أعمال عنف في ديترويت بعد تدخل الشرطة في شارع “12” تقطنه غالبية من السود، ونجم عن ذلك مقتل 43 شخصًا وجرح 2000، وامتدت أعمال العنف حتى وصلت لولايات أخرى.
تاريخ الولايات المتحدة مع العنصرية خاصة ضد المواطنين السود كبير وعنيف جدًا
وفي عام 1986، تم اغتيال القس مارتن لوثر كينغ في ممفيس بولاية تينيسي على يد رجل أبيض يدعى جيمس إرل راي، الأمر الذي أدى إلى انفجار أعمال العنف في 125 مدينة أمريكية أسفرت عن مقتل 46 شخصًا على الأقل وإصابة 2600، وإضرام الحرائق في مناطق مختلفة وسط واشنطن بالقرب من البيت الأبيض.
وفي حي السود “ليبرتي سيتي” في ميامي عام 1980، اندلعت أعمال العنف على خلفية قتل أربعة رجال شرطة من البيض، لسائق دراجة نارية من أصل إفريقي تجاوز إشارة المرور، ومات في هذه الأحداث 18 شخصًا، وأصيب أكثر من 400.
تفجرت مرة أخرى قضية العنصرية ضد السود عام 1991، بعد انتشار فيديو يظهر فيه رودني كينغ سائق سيارة أسود البشرة يتعرض للضرب المبرح من شرطة لوس أنجلوس، وكان الأمر بمثابة شرارة اندلعت منها أعمال شغب في عدة ولايات، أسفرت عن مقتل 59 شخصًا وإصابة 2328.
وفي عام 2001، قتل شرطي أبيض شاب من أصل إفريقي اسمه ثيموس توماس في سينسيناتي، نتج عنها تنظيم احتجاجات وأعمال شغب وأُصيب بها العديد من المواطنين.
وعلى الرغم من وصول باراك أوباما، أول رئيس أسود للولايات المتحدة، شهدت فترته الكثير من أعمال الشغب الناتجة عن العنصرية ضد السود، ففي عام 2012 تم قتل الشاب ترايفون مارتن على يد رجل حراسة أمنية وتبرئة القاتل، وحدثت حادثة مشابهة عام 2014 بعد قتل مايكل براون على يد شرطي أبيض تمت تبرئته أيضًا.
وفي عام 2015 توفي الشاب فريدي جراي بعد أن نُشر له فيديو وهو يتعرض للضرب من شرطي أبيض، وفي عام 2016 تم قتل كيث لامونت سكوت، وأسفرت هذه الحوادث عن حدوث أعمال شغب كبرى في مختلف الولايات الأمريكية.
ومؤخرًا في عام 2020، اندلعت المظاهرات والاحتجاجات وأعمال العنف في مختلف الولايات الأمريكية والمدن الأوروبية المناهضة للعنصرية ضد السود، على خلفية مقتل جورج فلويد من رجل الشرطة وهو يثبت فلويد على الأرض بساقه.
“عبيد” من ذوي البشرة البيضاء
إن تاريخ الولايات المتحدة مع العنصرية خاصة ضد المواطنين السود كبير وعنيف جدًا، لكن يبدو أن العنصرية الأمريكية متنوعة، وعلى مدار التاريخ، فإن الأمريكين مارسوا العنصرية ضد العديد من الفئات المشاركة في مجتمعهم، كالسكان الأصليين “الهنود الحمر” والمسلمين وحتى بعض المواطنين البيض أنفسهم.
وقد لا يعلم الكثير من الناس أن الأمريكيين البيض مارسوا العنصرية ضد الإيرلنديين البيض “العبيد” هناك، حتى إنه كان للسود “العبيد” حقوق أكثر من “العبيد” البيض في وقت من الأوقات، وتعود القصة إلى عام 1625، حينما باع ملك إنجلترا جيمس السادس 30 ألفًا من المساجين الإيرلنديين كرقيق في أمريكا.
وقد شكل “العبيد” الإيرلنديون، منتصف القرن السابع عشر، أكبر نسبة من الرقيق في منطقتي أنتيغوا ومونت سيرات في البحر الكاريبي، وتحولت إيرلندا إلى المورّد الرئيس “للرقيق” إلى التجار الإنجليز، ويذكر المؤرخون أن “العبيد” الأوائل في أمريكا كانوا من ذوي البشرة البيضاء، لدرجة أن تعداد السكان في إيرلندا قد تقلص من 1.5 مليون نسمة إلى 600 ألف نسمة في غضون عقد واحد.
وكانت معاملة السكان “للعبيد” الإيرلنديين في غاية القسوة والسوء، واستمر الوضع كذلك حتى بعد أن تحرروا في منتصف القرن التاسع عشر، حيث أضرمت النار في الكنائس الإيرلندية والكاثوليكية ومنازل المهاجرين الإيرلنديين بالولايات المتحدة حتى تحولت إلى ركام ورماد، وتم إطلاق العديد من الحملات العنصرية المعادية للإيرلنديين.
وفي الختام، فإن الولايات المتحدة التي تعتبر الأولى في العالم على المستوى العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، ما زالت تحتفظ بمظاهر العنصرية في مجتمعها التي ورثها عن المجتمعات الأمريكي السابقة منذ 400 عام، حيث بدأت معاناة ذوي البشرة السوداء منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا.