لم تقف الإمارات في مسيرة بناء جيشها من المرتزقة عند حاجز الاستقدام من أمريكا اللاتينية بوصفها البيئة الأكثر خصوبة لتخريج المقاتلين في ظل ما توفره من ساحات عدة للمعارك على أكثر من اتجاه، بل تجاوزت ذلك إلى القارة الإفريقية خاصة ساحلها الشرقي الملاصق لمناطق أطماع أبناء زايد، سواء في اليمن أو داخل عمق القارة السوداء.
في التقرير الثاني من ملف “مرتزقة أبناء زايد“، نستعرض أبرز ملامح خطة أبو ظبي التوسعية في منطقة القرن الإفريقي ومساعيها لعسكرة تلك البؤرة المحورية ذات الأهمية الاستراتيحية بحكم جغرافيتها السياسية التي تجعل من يسيطر عليها يحكم قبضته على أحد شرايين العالم الحيوية، وهو ما جعلها مطمعا للعديد القوى الدولية.
بسط النفوذ على تلك المنطقة أخذ استراتيجيات عدة، من بينها تجنيد المئات من أبنائها وضمهم لجيش المرتزقة المشكل من نواة كولومبية قوامها 800 مرتزق، كما تم ذكره في التقرير الثاني، مقابل حزمة من الامتيازات المادية والعينية على المستوى الشخصي للجنود، ومساعدات واستثمارات للحكومات.
المرتزقة الإريتريون
منذ دخول الإمارات إلى ساحة الأزمة اليمنية عبر المشاركة في التحالف العربي السعودي في مارس 2015، وضعت نصب أعينها الاستعانة بالإمكانيات العسكرية الإريترية بحكم موقعها الجغرافي القريب من ساحة المواجهات في ميدان الحرب اليمنية ضد الحوثيين.
وفي العام ذاته أبرمت أبو ظبي صفقة عسكرية مع الدولة الإريترية لاستخدام قواعدها في الحرب في اليمن، وذلك في مقابل منح الحكومة الأموال الكثيرة، علاوة على تجنيد 400 مقاتل إريتري للمشاركة جنبًا إلى جنب القوات الإماراتية المشكل معظمها من مرتزقة كولومبيين.
حذر التقرير الصادر عن “مجموعة مراقبة الأمم المتحدة المعنية بالصومال وإريتريا” في 21 أكتوبر 2015 من أن تلك الصفقة تعد “انتهاكا واضحا” لقرار الأمم المتحدة رقم 1907، الذي فرض حظرا على الأسلحة على إريتريا في عام 2009 .
منذ 2008 تحيك الإمارات العديد من المؤامرات في منطقة القرن الإفريقي بحثًا عن النفوذ المشبوه، إما عن طريق كسب ثروات تلك الدول أو الحصول على خدماتها ودعمها بما يحقق أهداف أبناء زايد التوسعية
ورغم الإدانات الأممية في هذا الشأن إلا أن أبو ظبي تحايلت على هذا الهجوم بالحصول على خدمات الكثير من المرتزقة وفق آليات غير رسمية بعيدًا عن الرقابة الدولية، الأمر الذي كشف بعد ذلك في أعقاب الخلافات السياسية التي نشبت بين الإمارات ودول القرن الإفريقي العامين الماضيين.
وبحسب تقرير نشره موقع “أوريان21” الفرنسي للكاتب ألكساندر لوري، الباحث في جامعة باريس فانسين، فإن أبو ظبي لجأت إلى مرتزقة إريتريا ودول القرن الإفريقي من أجل إنفاذ سياستها داخل اليمن وبسط نفوذها على الموانئ القارية التي تمثل الهدف الاستراتيجي من وراء مشاركة قوات التحالف في حربها ضد الحوثيين.
الباحث الفرنسي كشف أن الدعم الإماراتي ومعه السعودي لإريتريا خفف من وطأة العقوبات المفروضة عليها من قبل الأمم المتحدة عام 2000، ومكنها من تفادي العزلة التامة، وهو ما يعد مخالفة صريحة وتحد فج وعلني لقرارات المجتمع الدولي.
المال مقابل الخدمات العسكرية
لم تجد إريتريا أفضل من نفوذها الجيوسياسي على البحر الأحمر كبضاعة رابحة للخروج من العزلة الأمريكية، ورغم أنها اختارت الطريق الأصعب لكسر تلك الحالة التي دفعتها إليها واشنطن قسرًا، إلا أنها حققت من خلاله العديد من المكاسب بعدما أسال هذا النفوذ لعاب سماسرة أبو ظبي.
المال الإماراتي لم يتوقف عند حاجز الحصول على دعم المرتزقة في إريتريا للمشاركة في المعارك داخل اليمن فحسب، بل نجح في استخدام ميناء عصب كقاعدة لأبو ظبي في القرن الإفريقي، بهدف الدفاع عن أطماعها في منطقة الموانئ على الساحل الغربي لليمن، وهي نقطة الخلاف التي تأججت فيما بعد مع الحليف السعودي.
حلت أسمرة بديلا جاهزًا للحلف السعودي الإماراتي بعد الخلاف المفاجئ الذي دب بين أبو ظبي وجيبوتي في أعقاب هبوط طائرة إماراتية بدون ترخيص في مطار جيبوتي الدولي، لينتهي هذا التوتر المشحون سابقًا بسبب النزاع على عقد محطة حاويات “دوراليه” بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وإن استئنفت لاحقا لكن الأجواء لم تعد كما كانت في السابق.
وأمام تلك الوضعية جاءت إريتريا لتكون البديل، فهي المنافس الإقليمي لجيبوتي، وتمتلك 150 كم من السواحل على البحر الأحمر، حيث أُبرمت العديد من الاتفاقيات بين نظام أفورقي من جانب والرياض وأبو ظبي من جانب أخر، كان من نتائجها أن حصلت الإمارات على عقد إيجار لمدة 30 عاما للاستخدام العسكري لميناء عصب ومطار هناك، مع مدرج بطول 3500 متر يمكن لطائرات النقل الكبيرة الهبوط عليه.
ومن خلال هذا المطار شن الطيران الإماراتي هجمات عدة ضد مواقع يمنية، فيما منح أبناء زايد الجيش الإريتري المنح والمساعدات، وقاموا بتدريب عناصره، والاستعانة ببعضهم في حربهم في اليمن، وتأمين الممرات المائية في باب المندب وموانئ سقطري وغيرها.
في السابع والعشرين من نوفمبر 2015 انطلق عدد من الزوراق البحرية المليئة بالمقاتلين من أبناء عدن عبر ميناء الزيت بمديرية البريقة، إلى أسمرة لتلقي التدريبات العسكرية، وهي الدفعة الثانية التي تم إرسالها لتلقي التدريبات هناك ضمن برنامج سري إماراتي في إحدى المعسكرات هناك وفق ما ذكرت مصادر أمنية في هذا التوقيت.
وفي المجمل فإن التحركات الإقليمية للإمارات في القرن الإفريقي تستهدف بالأساس حماية مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية في المنطقة، والتي تعتبر محط أنظار العالم أجمع، تفنيدًا لإدعاءاتها بشأن التكامل الاقتصادي مع دول القارة، ورغم وقوعها في فخ التوترات السياسية والاقتصادية في المناطق التي تسعى للنفوذ إليها، إلا أنها أضطرت لإيجاد موطئ قدم أخر، وبالفعل كانت إريتريا هذا الموطئ.
الاستعانة بالمرتزقة الإريتريين في الحرب داخل اليمن يعكس رغبة كبرى لدى أبناء زايد في استمرار الحرب التي بجانب أنها تحقق مكاسب كبيرة لها على المستوى اللوجستي إلا أنها في الوقت ذاته تنهك القوى الإقليمية المنافسة لها كالسعودية وإيران
النفوذ المشبوه
منذ 2008 تحيك الإمارات العديد من المؤامرات في منطقة القرن الإفريقي بحثًا عن النفوذ المشبوه، إما عن طريق كسب ثروات تلك الدول أو الحصول على خدماتها ودعمها بما يحقق أهداف أبناء زايد التوسعية والتي لأجلها تضرب الدولة الخليجية بكافة مرتكزاتها الوطنية – التي وضع أسسها الراحل الشيخ زايد آل نهيان- عرض الحائط.
كانت شركة “موانئ دبي العالمية” هي الذراع الطولى لتحقيق تلك الأجندة، وذلك حين وضعت قبضتها الكاملة على موانئ جيبوتي قبل أن ينفك العقد بينها فبراير الماضي، بعد معركة قضائية شرسة استمرت قرابة 6 سنوات كاملة، في أعقاب تأميم الجانب الجيبوتي لقرابة 33% من حصة الشركة الإماراتية.
وفي مايو 2016 وقعت شركة الموانئ صفقة لمدة 30 عاما بقيمة 440 مليون دولار من أجل تطوير ميناء بربرة في “أرض الصومال/صومالي لاند”، الإقليم الذي أعلن عن استقلاله الذاتي عن الصومال، وهو الاتفاق الذي أثار غضب الحكومة الفدرالية في الصومال، خصوصا أنها لا تعترف بسيادة حكومة صومالي لاند على الميناء، ما أدى في النهاية إلى نشوب خلاف سياسي بين الإمارات والصومال أسفر عن سحب أبو ظبي إمداداتها ومستشاريها العسكريين وإغلاق مستشفى كانت تموله في مقديشو.
التحول الكامل صوب أسمرة للحصول على خدماتها اللوجستية، العسكرية والسياسية، في ظل فشل حكومة إريتريا مقاومة الإغراءات المالية، يفند وبشكل كبير شعارات السلام الدبلوماسية التي طالما رفعتها أبو ظبي حيال تحركاتها الإفريقية، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات حول الأهداف الحقيقية الخفية وراء وساطتها بين إثيوبيا وإريتريا.
الاستعانة بالمرتزقة الإريتريين في الحرب داخل اليمن يعكس رغبة كبرى لدى أبناء زايد في استمرار الحرب التي بجانب أنها تحقق مكاسب كبيرة لها على المستوى اللوجستي إلا أنها في الوقت ذاته تنهك القوى الإقليمية المنافسة لها كالسعودية وإيران، وعليه يعتبر بعض الخبراء أن استقدام مرتزقة في اليمن خيار جذاب للدول الغنية التي ترغب في الحرب دون دخول مواطنيها في المعركة وفق ما ذهب شون ماك فيت، الزميل البارز في المجلس الأطلسي ومؤلف كتاب “المرتزقة الجدد” (The Modern Mercenary).
وهكذا أسفرت ممارسات أبو ظبي بعد 5 سنوات كاملة من الحرب في اليمن، في عسكرة القرن الإفريقي عن بكرة أبيه، أو كما يسميه الباحث رولان مارشال “طغيان حالة الارتزاق” مستخدمة ما لديها من نفوذ مالي في شراء المرتزقة وتجنيدهم رغم معارضة الكثير منهم، غير أن الفقر والحاجة للمال كان الوتر الأكثر طربًا الذي تعزف عليه الدولة الخليجية لتحقيق أطماعها الخارجية، وهو ما تسبب على مدار الأعوام الماضية في إضعاف هذه المنطقة الحيوية إفريقيًا وتجريدها من مصادر قوتها بعدما تم تفريغها بالكامل من مقوماتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية.