كانت المرة الأولى التي طرح فيها استبدال الليرة السورية بالتركية في الشمال السوري عام 2015 في مدينة حلب، بعد انتشار أخبار عن طبع نظام الأسد أوراقاً نقدية دون مقابل، خاصة مع كون رواتب الفصائل العسكرية آنذاك، مع تمويل منظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية، تأتي جميعها بالدولار الأمريكي.
فضلاً عن كون كل السلع التي يتم استيرادها إلى المناطق المحررة عبر الحدود التركية يتم شراؤها أساساً بالليرة التركية، ثم تباع في الداخل السوري بالليرة السورية، وهو ما يعني أن المناطق المحررة كانت تعمل كماكينات تغيير عملة للنظام على مدار سنين، فتضخ القطع الصعب إليه مقابل عملة ربما لا تساوي قيمة الورق المطبوعة عليه.
فكان الخيار أن يتم تسليم الرواتب في المنطقة المحررة بالليرة التركية بدل السورية، مع فرض بيع السلع جميعها بالليرة التركية إلى جانب السورية حتى يتم الاستغناء عنها نهائياً، كون العملة التركية هي الوحيدة التي يمكن أن يتم توفير قطع صغير منها للتداول اليومي.
ورغم أن هذا القرار كان مدعوماً بالفصائل العسكرية مع المجلس المحلي وعدد من الهيئات المدنية، إلا أن حملة إعلامية شنها ناشطون ضد القرار الذي اعتبروه “تتريكاً” للمناطق المحررة وتقويضاً “للهوية الوطنية”، تسببت في إيقاف العمل بالقرار، واستمرار الحال على ما هو عليه.
لم يصدر في المناطق المحررة بعد ذاك القرار في 2015 قرار آخر باستبدال العملة السورية بالتركية، إلا أن الانهيارات المتتابعة لسعر صرف الليرة السورية، دفعت السوريين في هذه المناطق لاعتماد التعامل بالدولار الأمريكي -غالباً- في شراء أو بيع المقتنيات الثمينة (موبايل – سيارة – أدوات كهربائية…)، فيما بقي التعامل اليومي لشراء المواد الغذائية والثياب وما إلى ذلك بالليرة السورية.
كما ظهرت ثلاث عملات تدفع فيها الأجور في المناطق المحررة منذ عام 2017، فمنظمات المجتمع المدني حافظت على تسليم رواتب العاملين فيها بالدولار الأمريكي منذ أن بدأت عملها في سوريا، وكذلك استمر العاملون في القطاع الخاص المحلي بتلقي أجورهم بالليرة السورية، وهو ما جعلهم الفئة الأكثر تضرراً من الانهيارات المتتالية لليرة السورية، بينما بات الموظفون الحكوميون وعناصر الجيش الوطني السوري يتلقون رواتبهم بالليرة التركية، في المنطقة التي تديرها الحكومة السورية المؤقتة (ريفي حلب الشمالي والشرقي مع أجزاء من أرياف الرقة والحسكة الشمالية)، إلا أن ذلك لم يغير من استمرار الليرة السورية عملة للتداول اليومي في المنطقة.
الانهيار الأخير
أواخر العام 2019 وصل سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي إلى 1000 ليرة للدولار الواحد، وهو ما دفع الحكومة السورية المؤقتة لبدء أولى الخطوات العملية لاستبدالها بالليرة التركية، حيث صرح رئيس الحكومة “عبد الرحمن مصطفى” على حسابه في موقع تويتر آنذاك أنهم يعملون على ضخ أوراق نقدية صغيرة من الليرة التركية في الشمال المحرر، بغية الحفاظ على القوة الشرائية للمواطنين على حد وصفه، كما بدأت معها سلسلة من الندوات التوعوية حول ضرورة استبدال العملة في عدد من مناطق الشمال السوري.
ليبدأ التعامل اليومي بالليرة التركية في الشمال السوري بالتزايد منذ ذاك الحين لكن بشكل محدود جداً، خاصة مع اعتماد القطاع الخاص على الليرة السورية في تعاملاته، بالتزامن مع استمرار انهيار سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار بشكل انفجاري حتى تخطت حاجز الـ 3000 ليرة للدولار الواحد نهاية الأسبوع الأول من الشهر الجاري، دافعة أسعار المواد الغذائية والأساسية في المنطقة ككل للارتفاع “بشكل جنوني” على حد تعبير “أبو مهند” (53 عاماً من أهالي مدينة إعزاز)، حيث يذكر أن المواد الغذائية باتت أمراً يشبه أسهم البورصة، تتغير أسعارها في اليوم الواحد مرتين أو أكثر، وبصورة أكبر من نسبة تغير سعر صرف الليرة أمام الدولار.
وهو ما دفع موضوع استبدال العملة إلى الواجهة مجدداً، أو “استبدال التداول بعملة مستقرة” على حد وصف د. عبد الحكيم المصري (وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة)، الذي صرح لـ “نون بوست” أنهم في الحكومة المؤقتة يعتقدون أن استبدال التداول خطوة إيجابية لعدة أسباب، منها أن لا تنعكس أزمات النظام على المناطق المحررة، وأن تذبذب سعر صرف الليرة السورية بشكل متكرر لأكثر من مرة في اليوم نفسه حتى، يؤثر بشكل كبير على أصحاب المحال التجارية الذين تتغير أسعار بضائعهم، بشكل يرتد عليهم وعلى المواطنين.
كما اعتبر د. عبد الحكيم أن العملة السورية أساساً فقدت وظيفتها لدى الناس كأداة اكتناز، إضافة إلى كون الناس في المنطقة لم يعودوا يقبلون التعامل بالليرة عموماً باستثناء المضطرين.
ورغم أن د. عبد الحكيم اعترف بوجود صعوبة في الاستغناء الكامل عن الليرة السورية بشكل كلي في المنطقة، لاستمرار وجود من يضطر للتعامل بها مثل الموظفين المتقاعدين الذين يأخذون رواتبهم بالليرة السورية من عند النظام، وآخرين كالمزارعين الذين يضطرون أيضاً للتعامل بها، لكنه يتوقع أن حجم التداول بالليرة السورية في الشمال المحرر سينخفض إلى 10% خلال شهرين أو ثلاثة، وأن هذا من شأنه أن يحافظ على استقرار المناطق المحررة اقتصادياً.
وكانت عدد من المجالس المحلية في المنطقة قد أعلنت عن أسعار للمواد الأساسية وخاصة الخبز بالليرة التركية، إضافة إلى ضخ قطع صغير من الليرة التركية في الأسواق لتسهيل التداول بها عند الناس.
لكن وبحسب “سعد الحاج” (27 عاماً من أبناء ديرالزور المهجرين في مدينة الباب) فإن تسعير البضائع وخدمات الكهرباء والمياه بكلا الليرتين السورية والتركية ليس أمراً جديداً على المنطقة وأنه يحدث منذ زمن، حيث يتعامل قاطنو المنطقة بالليرتين السورية والتركية في تداولهم اليومي، فالموظفون الذين يتسلمون رواتبهم بالليرة التركية يتداولون بها مع تصريف جزء من المبلغ لبعض الأمور التي يحتاجون بها للتعامل بالليرة السورية، أما العمال فما زالوا يأخذون أجرهم بالليرة السورية وبالتالي يتعاملون بها.
ويعتبر “سعد” أن خطوة إنهاء التعامل بالليرة السورية أمر ضروري لكن يجب أن تسبقه حملة لوضع سلم للأجور بالليرة التركية للعاملين في القطاع الخاص، وهو ما يؤيده “علي مسطو” (40 عاماً من قاطني مدينة إدلب) الذي يتلقى 50 ألف ليرة سورية شهرياً -ما يعادل 20$- لم تتغير حتى اليوم، كعامل في محل تجاري.
حيث يرى “علي” أن استبدال الليرة السورية بالتركية أمر مفيد عموماً في حال تم فرضه على كافة القطاعات والمهن والحرف، وهو ما لم يحدث حتى الآن في إدلب.
وتخضع منطقة إدلب عموماً (أجزاء من محافظة إدلب وريف حلب الغربي ومناطق من محافظة اللاذقية) لإدارة حكومة الإنقاذ، التي شكلتها هيئة تحرير الشام في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017، حيث اتخذت الإنقاذ إجراءات شبيهة بتلك التي اتخذتها الحكومة المؤقتة، من حيث الرواتب وتوفير القطع النقطي الصغير من الليرة السورية، لكن قدرتها على التحكم في الأسعار ربما تكون أقل محدودية من الحكومة المؤقتة، فمعظم المعلمين في المنطقة مثلاً يأخذون رواتبهم بالدولار الأمريكي، كون هذه المدارس يتم تمويلها من قبل منظمات المجتمع المدني التي تنتشر في إدلب بشكل أكبر من انتشارها في ريفي حلب الشمالي والشرقي.
ورغم أن حكومة الإنقاذ بحسب تصريحات إعلامية لممثليها، تتشارك مع الحكومة المؤقتة ضرورة استبدال التداول اليومي بالعملة من الليرة السورية إلى التركية، إلا أنها -شأنها في ذلك شأن المؤقتة- لم تضع حتى اليوم إجراءات بما يخص الأجور في القطاع الخاص أو حتى ضبط الأسعار بحسب “محمد برهوم” (31 عاماً من أبناء مدينة إدلب)، حيث يشير “برهوم” الذي يعمل صرافاً في مدينة إدلب أن هناك نوع من “عدم المعرفة” عند الصرافين في اعتماد سعر البيع والشراء بما يتناسب مع السعر في تركيا، مؤكداً أيضاً أن الصرافين لا يواجهون مشاكل حقيقية في ذلك.
ويضيف “برهوم” أنه منذ الانهيار الأخير لسعر صرف الليرة السورية، والطلب عليها قليل جداً، وبمبالغ صغيرة يطلبها الناس لشراء بعض المواد الغذائية التي ما زالت تباع بالليرة السورية كالخضار، واصفاً حركة عمل سوق الصرافة في المنطقة بـ “الجيدة”، وهو ما يؤكده “أبو الفتوح” (25 عاماً من أبناء الباب) الذي يعمل صرافاً في مدينة الباب، حيث صرح لـ “نون بوست” أن حركة التصريف بلغت ذروتها عندما وصل سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى 3000 ليرة للدولار، لكنها وبعد انخفاض السعر مؤخراً تشهد حالة جمود.
لكن “أبو الفتوح” يشير إلى أن الثقة بالليرة التركية كتعامل تجاري ليست كبيرة بين الناس أيضاً، فمعظمهم يحتفظون بأموالهم بالدولار، وأن معظم الطلب على الليرة التركية يكون غالباً على القطع الصغير (فئة 1 – 5 – 10 ليرة)، فقد شهدت الليرة التركية في الأعوام السابقة نوعاً من عدم الاستقرار في سعر صرفها مقابل الدولار سببت خسارة كبيرة لعدد من الصرافين، حيث يذكر أنه في إحدى حوادث تراجع سعر صرفها خسر أصغر مكتب صرافة 5000$ على الأقل، كما تؤثر هذه الحوادث على الموظفين الذين يتلقون رواتبهم بها، لذلك بالنسبة إليهم كصرافين يحاولون عدم الاحتفاظ بها والإبقاء على رأس المال بالدولار.
والحقيقة أنه من المبكر جداً معرفة إذا كانت الخطوة ستكون إيجابية على المدى الطويل بالنسبة لقاطني الشمال السوري المحرر، فالأمر يرتبط بعوامل عدة تشمل إجراءات حكومية محلية لم تتخذ بعد كوضع حد أدنى للأجور باللغة التركية، وضمان استمرار ضخ القطع الصغير من الليرة التركية، إضافة إلى بناء ثقة المواطن بالحكومة المحلية وقدرتها على رعاية مصالحه اقتصادياً، فضلاً عن أمور أخرى تتعلق باستقرار المنطقة ووضع نظام يحدد دورة اقتصادية واضحة فيها.
لكن وعلى المدى المنظور يمكن القول أن التعامل بالليرة التركية قد يخفف الآثار الكارثية للانهيارات المتتابعة لليرة السورية على قاطني الشمال السوري المحرر، خاصة مع التوقعات باستمرار انهيارها مستقبلاً.