بدأ التونسيون يفهمون أخيرًا رئيسهم، فبعد تسعة أشهر من توليه الحكم تكلم الرجل وعبر عن مكنونات عقله، فخذل جمهوره الذي صوت له، إلا أنه تدبر جمهورًا آخر كان صوّت ضده، إذ يتمنى الكثيرون لو أنه سكت الدهر كله، بينما أصبح الذين كانوا يتمنون لو أنه لم يكن قبل الرابع والعشرين من حزيران يرونه نبيًا مرسلًا بعد أن كان داعشيًا منكرًا.
انزياح غريب في المشهد السياسي التونسي يشبه إعادة تركيب أوراق اللعب لإعادة اللعبة المعتادة بنفس الورق ولكن بتغيير في مواقع اللاعبين، فقد خيبت زيارة الرئيس الرسمية لفرنسا ظن الكثيرين وأفرحت آخرين، فكشفت أن التونسيين يراوحون في نفس المكان الذي اعتادوه. حرب الاستئصال التي تصب فرنسا زيتًا على نارها كل ساعة.
سيهتم هذا التقرير بهذه النتيجة من نتائج الزيارة، فلها نتائج أخرى كتب فيها الكثير، خاصة لجهة ترتيب العلاقة مع النظام الليبي القادم.
الرئيس المجهول يتّضح
يشترك أنصار الرئيس الجدد (المقبلين عليه) والقدامى (المدبرين عنه) في أنهم لم يحددوا جيدًا ملامح شخصية الرئيس ولا أفكاره، لذلك فإن ظهوره في المساجد وحرصه على الصلاة وقت الحملة الانتخابية جعل كثيرين يرونه صنيعة حزب النهضة وقد دسه الحزب في قائمة المرشحين دسًا، ولهذا السبب مال كل تيار الحداثة أو اليسار وفلول التجمع إلى المرشح المنافس باعتباره وجهًا غير إسلامي أولًا ويمكن أن يكون تقدميًا ثانيًا. ولم يكن مهمًا في تلك اللحظة أنه متهم بالفساد والتخابر.
مع تقدم الوقت وظهور الرئيس وكلامه السياسي في مواضيع اللحظة بدأت الصورة تتضح ثم تتغير، إذ أحدثت زيارة الرئيس لفرنسا وظهوره بوجه متودد للفرنسيين وثقافتهم وتاريخهم وحرصه على إبراز اختلافه السياسي مع رئيس البرلمان رئيس حزب النهضة انقلابًا في الجمهور، وقادت وسائل الإعلام التي كانت تتخذ الرئيس موضوعًا ساخرًا الانقلاب، فإذا هي تمجد عبقريته السياسية وفلاحه في الحصول على قرض بلا فوائد. وتمجد خاصة ثلاثة عناصر مهمة:
البلد محتاج إلى تنمية سياسية أي إلى جر النقاشات العامة إلى مجالات تأسيس مشروع ثقافي ديمقراطي لا يقصى أحدا
أولًا: إنكاره للاحتلال الفرنسي لتونس والنظر إليه كمرحلة حماية مقننة ومشروعة لا توجب إرهاق فرنسا بطلب الاعتذار أو التعويض المادي أو الرمزي عن القتل والتشريد والنهب، فلم يكن هناك إلا بعض القسوة التي لا توجب جزاء.
ثانيًا: موقفه من الأزمة الليبيبة التي انحاز فيها إلى حل غريب (لويا جرقا ليبية) بما كشف أنه يخرب على الشرعية في طرابلس بما يقربه من محور حفتر مصر، أي المحور المعادي للثورات العربية، وهو المحور الذي يجد له أنصارًا في تونس كانوا مع المرشح الزبيدي ثم مالوا في الدور الثاني للقروي ثم هم الآن يهاجرون إلى الرئيس.
ثالثًا: محاولته شخصنة الصراع بينه وبين رئيس البرلمان وكشف هذا الخلاف خارج البلاد وفي وسائل إعلام أجنبية.
تجتمع نتيجة هذه العناصر في توسيع الفجوة بين الرئيس وبين حزب النهضة وقيادته وتؤذن بحرب قادمة ومن أجل هذا هاجر الجمهور، فقد وجدوا من يجدد المعركة ضد (الخوانجية). غير مهم عند هؤلاء الخراب الذي قد تجره حرب مماثلة على البلد في هذا الظرف المأزوم بعد الكورونا.
الخيبة أيضًا تتضح
ليست الخيبة أن يتخذ السياسي موقفًا غير متوافق مع هوى العامة (وهو هوى متقلب غالبًا)، أو أن يقول ما لا يروق لها ولكن الخيبة أن لا يكون للسياسي خطة يسير عليها ويصوغ مواقفه من داخلها بما يجعل عموم الناس يحددون مواقفهم منه على بينة ودراية.
نحن نعيش خيبة اكتشاف سياسي بلا خطة عمل، وما يضاعف الخيبة بأنه يقاد إلى خطة ليست خطته على الأقل فيما ظهر لنا منه في حملته الانتخابية. حين أطلق جملًا ترتقي فوق صراع الأحزاب والتيارات الأيديولوجية وهي معارك قديمة ومؤذية للشعب في فكره وفي قوته.
الخطة البديلة ليست جديدة إنها خطة المعركة الأبدية ضد (الخوانجية). وهنا تقع الهجرة السياسية التي نتابع وهنا نجد كل مصدر مشاكل البلد التي تعيق تقدمه، وقد جر الرئيس إليها.(هذا إذا منحناه فتوى أنه عاش خارجها قبل الفوز بالمنصب فغموضه وغياب كل تاريخ سياسي ونضالي له حيرنا دومًا).
كتبنا دومًا أن هذه المعركة الاستئصالية أعاقت تقدم الديمقراطية في تونس (في الوطن العربي عامة) وكتبنا أنها معركة لا تتم لصالح تقدم البلدان ولا لصالح تطورها الفكري ولا الثقافي، ولذلك تحمسنا لكل من يقف خارجها لينهيها ويؤسس لديمقراطية مع الإسلاميين ولهذا كان الدكتور المرزوقي مرشحنا ولا يزال أمثولتنا الأخلاقية في الوقوف خارج هذا الصراع المدمر لقدرات البلد ومستقبله.
كان عندنا أمل أن يكون قيس سعيد في موقع المرزوقي في هذه المعركة أو أن يكون له مع الإسلاميين موقع الشريك الباني لديمقراطية بلا إقصاء ولكن ما نراه الآن يدفعنا إلى خيبة.
تم جر النقاش الوطني لأول مرة إلى مسائل السيادة والاستقلال عوض النقاش الممجوج حول صراع التقدمية والرجعية
سيعود الرئيس بالبلد (أو يستعمل الرئيس من قبل جهات معروفة) إلى وضع مشابه لوضع بن علي أي معركة استقطاب حادة يملك أحد طرفيها قدرة على الأذى. نعم تغيرت الأوضاع ولم يعد بن علي وأسلوبه إلا أمنية لعشاق الاستئصال، فالإسلاميون ملكوا بعض وسائل الدفاع عن أنفسهم وبالديمقراطية نفسها غير أن الحديث ليس عن سلامة الإسلاميين ونجاتهم من محارق أخرى بل عن جدوى المعركة نفسها ولماذا يجر إليها البلد دومًا.
البلد محتاج إلى تنمية سياسية أي إلى جر النقاشات العامة إلى مجالات تأسيس مشروع ثقافي ديمقراطي لا يقصى أحدًا ولا يتعالى فيه أحد على أحد باسم التقدمية أو الحداثة مثلما لا يحتاج فيه إلى تكفير أو إقصاء باسم اختلاف المعتقد، وهذه مهام القائد الفكري للبلد (المفروض أن يكمل الرئيس هذا المشروع الذي بدأه المرزوقي وقطعه الباجي لأنه لم يكن مثقفًا ولا مفكرًا)، لكن عوض ذلك وبعد زيادة فرنسا خاصة نعتقد أننا مقبلون على معارك مزيفة كثيرة هدفها في الظاهر رأس الإسلاميين وباطنها رأس الديمقراطية.
الديمقراطية التي جعلت بعض التونسيين يتجرأ ويرفع صوته مطالبًا بتجريم الاحتلال وطلب التعويض المادي والأدبي. حيث تم جر النقاش الوطني لأول مرة إلى مسائل السيادة والاستقلال عوض النقاش الممجوج حول صراع التقدمية والرجعية.
جملة أخيرة هنا، أول مستفيد من معركة الاستئصال السياسي ليس أصواتها في الداخل بل كل خاسر من الديمقراطية التي تدفع النقاش إلى المسائل السيادية. إذا أراد المرء أن يعرف سبب خراب تونس فليبحث عن اليد الفرنسية في الزوايا العتمة.