بعد هدنة دامت قرابة أربعة أشهر كاملة بسبب جائحة كوفيد 19 التي باغتت العالم بأسره، يحاول نشطاء الحراك الشعبي في الجزائر استرجاع أنفاسهم، وسط أصوات رافضة ومنتقدة ودعوات للتعقل، خوفًا من انتشار عدوى كورونا، خاصة أن أرقام الفيروس عادت لترتفع من جديد في بعض المحافظات، وهو ما عزز مخاوف الكثيرين من إمكانية ظهور موجة ثانية.
على غير العادة استيقظت الساحات يوم الجمعة في بعض المحافظات على صراخ المتظاهرين، على غرار محافظتي بجاية وتيزي وزو (عاصمة منطقة القبائل في الشرق الجزائري)، إذ خرج متظاهرون وسط المدينتين كان أغلبهم دون كمامات، حاملين شعارات مناوئة للسلطة الجديدة، مطالبين بالإفراج عن الناشطين، ومن بين الشعارات التي رفعها المتظاهرون: “نهبتم البلاد” و”والله مرانا حابسين (لن نتوقف)” و”الحرية للناشطين”.
وفي محافظات أخرى شرقي وغربي البلاد على غرار محافظتي عنابة وغليزان، أحبط الأمن محاولات للتظاهر والتجمهر لمجموعة من الناشطين في الساحات العمومية.
غياب التوافق
لم تحقق عودة الحراك الشعبي توافقًا بين الناشطين، إذ شدد رموزه على ضرورة التريث لأن الأوضاع الصحية الحاليّة غير آمنة وتضر بوهج الحراك الذي أبان عن وعي عندما قرر تعليق المظاهرات في مارس/آذار الماضي.
وفي تصريح مقتضب، أعلن مصطفى بوشاشي، أحد أبرز رموز الحراك الشعبي، رفضه العودة إلى المظاهرات الشعبية، وقال إن العودة للساحة في إطار الحراك تبدو سابقة لأوانها، وخاطب النشطاء قائلًا: “يجب أن نتحلى بالصبر وأن نتبع رأي الخبراء” في إشارة منه إلى الأطباء بمن فيهم أولئك الذين يعملون في المؤسسات الرسمية.
أيضًا دعا المحامي والناشط البارز عبد الغني بادي، نشطاء الحراك إلى “تأجيل عودتهم إلى حين توافر الشروط الصحية الآمنة”، وألح بادي على ضرورة التوافق على قرار موحد من خلال رص الصفوف، قائلًا: “هذا سيكون عاملًا لقوة الطرح ومواصلة مسيرة المطالب السلمية”.
تأجيل العودة للمسيرات هو عين الصواب، حتى يستعيد المواطن صحته وقوته لمواصلة نضاله السلمي
وخاطب بادي، الحراكيين بالقول: “الحراك الشعبي في الجزئر الذي استمر لأزيد من سنة، هو الآن بحاجة إلى قوة الكلمة الواحدة وقلب واحد، وليس بحاجة إلى نقاط تزيد من الخلافات داخل مكوناته في الشارع، بل يحتاج إلى لملمة الخلافات بين مختلف فواعله السياسية والاجتماعية، دونما إحداث شرخ في أوساطه”.
ومن السجن، بعث الناشط السياسي سمير بلعربي، رسالة للحراكيين، دعاهم فيها إلى الاحتكام للعقل والحكمة والمنطق وضبط النفس على صوت رد الفعل، وناشدهم بعدم التهور في وضعية صعبة بسبب الأزمة الصحية، من حيث ارتفاع عدد الإصابات والوفيات، وقال: “الحكمة تقتضي منا جميعًا، المزيد من الحيطة والحذر والمزيد من الوقاية حفاظًا على الأرواح”.
ووصف بلعربي الحراك الشعبي بـ”العظيم”، وقال إن للحراك ميزتين أولها بعده الوطني، إذ انطلق في كل أرجاء الوطن واستمر في اتساعه عبر مختلف الأسابيع، أما الميزة الثانية للحراك، فهي سلميته التي أبهرت العالم بهذا الشعب العظيم.
وبحسب بلعربي، فإن هاتين الميزتين سمحتا للحراك بالاستمرار لأكثر من سنة، من حيث القوة والتنظيم والمطالب أيضًا، واستدل المتحدث بقرار تعليق المسيرات لحظة اجتياح وباء كورونا للعالم والذهاب نحو حراك الحفاظ على الأنفس والأرواح، والنشاط في خدمة المجتمع وفئاته الهشة والمحرومة.
وبرأي سمير بلعربي، فإن تأجيل العودة للمسيرات هو عين الصواب، حتى يستعيد المواطن صحته وقوته لمواصلة نضاله السلمي، لتحقيق كل مطالبه المشروعة.
وبحسب آخر تحديث نشرته وزارة الصحة، فقد سجلت الجزائر أكبر عدد من الإصابات منذ 28 من مايو/آيار الماضي، بحيث ارتفع العدد الإجمالي للإصابات المؤكدة إلى 12077 حالة، وهو ما يمثل نسبة 27.5 حالة لكل 100 ألف نسمة، بينما بلغ إجمالي الوفيات 861 وفاةً.
غليان اجتماعي
جاءت عودة الحراك إلى الواجهة لتثقل كاهل السلطة الجديدة في الجزائر المثقل أصلًا بالأزمة الصحية التي تشهدها البلاد والظروف الاستثنائية التي تعيشها على الصعيدين الإقليمي بالنظر إلى الأوضاع الأمنية المتدهورة في دول الجوار بالأخص ليبيا والوضع الداخلي المكهرب بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتنموية التي تعيشها بعض المناطق على غرار ما وقع في منطقة “تينزاوتين” الواقعة على الحدود الجنوبية للبلاد مع مالي والنيجر، منذ أسبوع واحد، حيث صعد سكان المنطقة من احتجاجهم، بسبب تدني الخدمات التعليمية والترفيهية والثقافية والرياضية، إضافة إلى نقص المياه الصالحة للشرب، وهو الوضع ذاته الذي شهدته محافظات أخرى مجاورة على غرار محافظة ورقلة الواقعة على بعد 800 كيلومتر جنوب الجزائر العاصمة.
كان الاحتجاج الذي شهدته ورقلة التي تحتوي على أكبر مناطق النفط والغاز في الجزائر، يحمل مطالب اجتماعية وخدماتية محلية، وسبقت هذه المطالب الاجتماعية والخدماتية، مشكلة فواتير الكهرباء والغاز وقرار رفع أسعار الوقود الذي ورد في قانون المالية التكميلي، وقبلها عرفت مناطق أخرى احتقانًا كبيرًا بسبب رفض تجار استمرارهم في التوقف عن العمل بسبب الحجر الصحي، مطالبين الحكومة بضرورة إيجاد صيغة للعودة إلى النشاط.
تعهد القاضي الأول للبلاد بالوفاء بتعهداته، وطمأن الجبهة الاجتماعية بأن حقوقها محفوظة وستلبى بصفة تدريجية
وتزامنًا مع هذه التطورات، دعا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الجزائريين إلى عدم الانسياق وراء دعوات نشر الفوضى والبلبلة عن طريق استغلال الثغرات عبر بعض المنابر الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، وقال تبون، في آخر مقابلة صحفية مع مسؤولي بعض وسائل الإعلام المحلية: “الجزائر محل تكالب أجنبي هدفه ضرب استقرار البلاد”.
وتعهد القاضي الأول للبلاد بالوفاء بتعهداته، وطمأن الجبهة الاجتماعية بأن حقوقها محفوظة وستلبى بصفة تدريجية، ودعا المحتجين إلى التريث لأن عمر الحكومة الحاليّة لا يتعدي خمسة أشهر فقط منها شهران إلى ثلاثة استهلكت في مكافحة فيروس كوفيد 19، وخاطب المحتجين قائلًا: “من المنطقي منح الحكومة الوقت الكافي للعمل وكل ذي حق سيناله”.
محاولة لامتصاص غضب الشارع
في خضم الغليان الذي تشهده الجبهة الاجتماعية، فاجأ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الجزائريين، ليل الثلاثاء إلى الأربعاء، بتعديل حكومي هو الأول من نوعه منذ وصوله إلى السلطة في 12 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث جدد تبون الثقة في رئيس الوزراء الجزائري عبد العزيز جراد (أكاديمي ودبلوماسي سابق وبروفيسور في العلوم السياسية)، ليقود الجهاز التنفيذي للمرة الثانية على التوالي.
ومن بين الوجوه الجديد التي التحقت بحكومة جراد، الخبير الدولي في التقييم والحكم الاقتصادي عبد الباقي بن زيان وزيرًا للتعليم العالي والبحث العلمي بدلًا من شمس الدين شيتور المحول إلى وزارة الانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة (وزارة جديدة)، كذلك عين مدير “سونطراك” الأسبق (مجموعة بترولية وغازية ضخمة)، عبد المجيد عطار وزيرًا للطاقة.
ونقل وزير الطاقة محمد عرقاب إلى وزارة المناجم التي كانت تتبع وزارة الصناعة، بينما عين عبد الحميد حمدان لوزارة الزراعة بدلًا من شريف عوماري الذي أنهيت مهامه، كذلك أجرى القاضي الأول للبلاد تعديلات على وزارة النقل، حيث جرى تقسيمها إلى حقيبتين، حافظ فيها فاروق شيعلي على الأشغال العمومية بينما تم تعيين لزهر هاني وزيرًا للنقل وهو نفس الإجراء الذي كان معمولًا به في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
إضافة إلى ذلك تم تعيين عبد الرحمان لطفي جمال بن باحمد وزيرًا للصناعة الصيدلانية، ومحمد شريف بلميهوب وزيرًا منتدبًا مكلفًا بالاستشراف خلفًا للخبير الاقتصادي بشير مصيطفى والتحق الصحفي السابق والنائب بالمجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان) سمير شعابنة بمصالح رئاسة الوزراء مكلفًا بالجالية الجزائرية في الخارج.
في ظل استمرار الأزمة الصحية وبروز حراك اجتماعي، يتساءل متتبعون للمشهد السياسي في البلاد، عن مصير الحراك الجزائري وإمكانية عودته من عدمها
وفسر متتبعون للمشهد السياسي في البلاد، التعديل الحكومي المفاجئ، على أنه محاولة لامتصاص الغضب وتهدئة الشارع، ويقول في الموضوع المحلل السياسي والإعلامي الجزائري، أحسن خلاص، في تصريح لـ”نون بوست”: “الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يحاول امتصاص الغضب من خلال التعديل الحكومي، لكن يبقى هذا الخيار غير كافٍ”.
أي مستقبل له؟
في ظل استمرار الأزمة الصحية وبروز حراك اجتماعي، يتساءل متتبعون للمشهد السياسي في البلاد، عن مصير الحراك الجزائري وإمكانية عودته من عدمها والأشكال التي سيعود بها بعد.
ومن جهته يستبعد النائب البرلماني السابق، محمد حديبي، إمكانية عودة الحراك إلى سابق عهده لعدة أسباب يذكر منها: “اختراق الحراك من طرف لوبي إيديولوجي، وظف شعارات التفرقة ولوح بإحداث شرخ اجتماعي في المجتمع والدولة للضغط والابتزاز، وهو ما دفع شرائح كبيرة من المجتمع إلى الانسحاب من واجهة الحراك حتى لا يستغل اسمها”، إضافة إلى ذلك يشير حديبي إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي تعيشها الجزائر.
ورغم ذلك يدعو النائب البرلماني السابق، الحكومة الجزائرية إلى فتح حوار جدي وليس حوارًا استهلاكيًا تسويقيًا، لأن الوضع الداخلي والخارجي لا يسمح بالتسويق أكثر.
يخالفه في الرأي الإعلامي أحسن خلاص، حيث يعتقد أن الاحتجاجات الاجتماعية ستقدم له محتوى آخر، ويقول في تصريح لـ”نون بوست”: “الحراك في طبعته الأولى حركه رفض الولاية الرئاسية الخامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة والحراك في طبعته الجديدة سيحركه عدم الرضا عن العهد الجديد”، ويرى المتحدث أن الاحتجاجات الاجتماعية مؤشر على عم الرضا عن أداء السلطة والحكومة بشكل خاص.