كثيرًا ما طالعت طيلة العقد الماضي موجات متلاطمة من الصدام المفتعل وغير المفتعل بين أوروبا وتركيا، بعض من تلك الموجات كان لي فرصة التعمق في تفاصيلها بحكم دراستي وعملي، إلا أنني وقفت على حجم غير طبيعي لكراهية أوروبية للأتراك، لكن وفي جولة سريعة في صفحات التاريخ الماضية أيقنت أن هذا الموقف ليس من فراغ، وأن هناك خلفية لهذا التوجه الذي انعكس على السياسات الرسمية لمواقف دول أوروبا حيال الكثير من الملفات التي تكون أنقرة طرفًا فيها.
معركة موهاكس، إحدى الضربات الموجعة التي لم تنسها أوروبا للأتراك المسلمين وسلطانهم سليمان القانوني، وذلك حين كسر الجيش العثماني أنف الغطرسة الأوروبية ببسطه سيطرته الكاملة على المجر في أقل من ساعتين، ليصبح أسرع نصر في التاريخ وأقوى ثأر للعثمانيين من الأوروبيين.
ورغم مرور ما يقرب من 500 عام على تلك المعركة التي دارت رحاها في 29 من أغسطس 1526، فإن ذكراها لا تزال تمثل كابوسًا يؤرق مضاجع أوروبا حتى اليوم وشبحًا يطارد صفحات بطولاتهم المزيفة، فماذا نعرف عن تلك المعركة الخالدة وبطلها الذي لا يوجد سياسي أو تاريخي أوروبي إلا ويعرفه أيما معرفة؟
سليمان القانوني.. الملك الشاب
عقب وفاة السلطان سليم الأول (1470-1520) تولى مقاليد الخلافة نجله الشاب سليمان القانوني (1494- 1566) عاشر ملوك الدولة العثمانية، وكان لم يتجاوز الـ25 عامًا، عُرف عنه العدل والحكمة والتفقه في علوم الدين رغم صغر سنه، وكان دومًا ما يزين كلامه بأيات من القرآن الكريم، وهو ما أعطى صورة خاطئة لدى ملوك الممالك التي كانت تحت سيطرة العثمانيين.
وبعد فترة وجيزة من تقلده الحكم أرسل رسوله إلى ملك المجر، بال توموري، إحدى ممالك الدولة العثمانية، لدفع الجزية، إلا أن الملك رفض، متوهمًا ضعف السلطان الجديد صغير السن، بل بلغ به الاستهزاء أن قتل الرسول، في رسالة فُسرت حينها بأنها بداية تمرد وخروج عن معاهدات الولاء والطاعة التي أقسم عليها ولاة المستعمرات الخاضعة للحكم العثماني.
الرسالة الأكبر التي تلقاها المسلمون عقب هذه الحادثة أن أوروبا على مشارف الخروج عن السيطرة، ما دفع القانوني إلى تجهيز جيش من المسلمين، قوامه مئة ألف جندي، وتقريبًا 300 مدفع و800 سفينة، وخرج من إسطنبول في 23 من أبريل 1526 في اتجاه العاصمة المجرية، ثأرًا للرسول المغدور به واستعادة لهيبة وكرامة الدولة وتلقين الأوروبيين درسًا لن ينسوه.
وحين تنامى إلى مسامع الأوروبيين تحرك جيش المسلمين، أعلن بابا الفاتيكان، كلمينت السابع، حالة النفير العام في أنحاء أوروبا كافة، وحثهم على القتال والتصدي للثأر من جيش العثمانيين، مستعينًا بحزمة من التحفيزات منها أن أصدر قرارًا بمنح صكوك الغفرات لكل مجند صليبي يشارك في هذه الحرب.
بدأ الإعداد في انتظار قدوم جيش المسلمين الذي نجح في استعادة العديد من القلاع الحصينة خلال طريقه للمجر
وبالفعل في غضون أيام قليلة استطاعت أوروبا أن تكون تحالفًا عسكريًا قويًا تحت مسمى “حلف الإمبراطورية الرومانية المقدسة” وتضمن مجندين من عدد من دول القارة العجوز في مقدمتها: إسبانيا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وهولندا وبلجيكا وسويسرا ولوكسمبورغ ومناطق واسعة في فرنسا وأراضي أوروبية أخرى ومملكة المجر.
وبجنود تلك الدول ومعهم بعض المرتزقة من بعض الشعوب الأخرى تم تكوين أحد أقوى جيوش أوروبا، مدججين بأحدث الأسلحة والعتاد، تحت قيادة الملك لويس الثاني، وبدأ الإعداد في انتظار قدوم جيش المسلمين الذي نجح في استعادة العديد من القلاع الحصينة خلال طريقه للمجر، على رأسها حصن بلغراد، ليصل إلى العاصمة الأوروبية بعد 128 يومًا من السفر قطع خلالها ما يزيد على ألف كيلومتر سيرًا على الأقدام.
أسرع انتصار في التاريخ
بينما كان ينظر ملوك أوروبا للسلطان العثماني على أنه حديث عهد بالمعارك العسكرية، كان القانوني فوق مستوى جميع التوقعات، وهو ما تجسده الخطة المحكمة التي وضعها لإدارة معركة موهاكس، حيث اعتمد في خطته على استدراج قوات أوروبا بخديعة الإغواء حين أوهمهم بتراجع المسلمين أمامهم.
الخطة اعتمدت على اصطفاف جيش المسلمين في 3 صفوف: 2 للجنود والصف الثالث الأخير للملك ومعه بعض المقاتلين ومن ورائهم المدافع والأسلحة الثقيلة، وما إن بدأت المعركة بالتحام الجيشين، تراجع الصفان الأول والثاني من جيش المسلمين إلى الوراء، فاعتقد الجنود الأوروبيون أن المعركة انتهت مبكرًا بانسحاب الجيش المسلم.
وعليه اندفع جنود الكنيسة الأوروبية مخترقين جيش المسلمين ظانين أن الأمر انتهى، ليفاجأوا بالمدافع من خلف الملك وجنوده تحصدهم حصدًا، فيما تم محاصرتهم من قوات الصفين، الأول والثاني، وما هي إلا ساعتين على الأكثر حتى أبيد جيش لويس بالكامل، بعد أن غرق معظم جنوده في مستنقعات وادي موهاكس، فيما أسر جيش العثمانيين 25 ألف من مقاتلي أوروبا ، في حين ارتقى عشرات الشهداء من صفوف المسلمين.
شهدت تلك المعركة واحدًا من أغرب المواقف في تاريخ الحروب العسكرية على مستوى العالم، فبينما أعرب الجيش الأوروبي عن استعداده للاستسلام رفض الملك العثماني هذا العرض، ليمنحهم سلاحهم مرة أخرى للقتال، ومن يرفض كان يهدد بالذبح حيًا، وبالفعل عاود الأوروبيون القتال، لكنه قتال اليائس من الحياة الموقن بالهزيمة.
موهاكس وغيرها من المواقف الأخرى كانت السبب الأبرز في حالة الحقد التي تخيم على الموقف الأوروبي تجاه تركيا
كسر الغرور الأوروبي
عقب الفوز التاريخي للمسلمين، أعد السلطان العثماني عرضًا عسكريًا عظيمًا في العاصمة المجرية، بوادبست، بعد توحيد شطريها، “بودا” و”بيست”، في مشهد مهيب، تصادف مع عيد الأضحى المبارك، فتلقى القانوني تهاني العيد والنصر معًا، وهو الذي كان قبل شهرين يستقبل تهاني عيد الفطر في بلغراد حين فتحها وهو في طريقه إلى المجر.
وبهذا الانتصار حكم العثمانيون قبضتهم على كل المنطقة الممتدة بين عاصمتهم إلى أسوار فيينا، فيما انهارت العقبة التي كانت تعوق وصول جيش السلطان إلى النمسا وألمانيا، لتصبح تلك المعركة إحدى أبرز العلامات الفارقة في تاريخ العلاقات العثمانية الأوروبية التي لا تزال حاضرة حتى يومنا هذا.
ورغم مرور خمسة قرون كاملة على موهاكس، تلك المفخرة التي يجب أن تُدرس لأبنائنا في المدارس والجامعات، فإننا تركناها للأوروبيين لتشويهها بين الحين والآخر، من خلال تطعيمها بتفاصيل مزيفة، في محاولة لتقليل وقعها عليهم بعدما تركت فيهم آثارًا من الصعب محوها رغم مساعي التشويه.
وبعيدًا عن عشرات المعارك التي خاضتها الدولة العثمانية في مشارق الأرض ومغاربها، بعضها كلل بانتصارات هائلة، إلا أن التأثير الناجم عن تلك المعركة خصيصًا هو ما أعطاها كل هذا الزخم، كونها لا تزال تمثل العقبة الأبرز في مسار وتاريخ العلاقات بين أنقرة وعواصم أوروبا.
ويذهب الكثيرون إلى أن موهاكس وغيرها من المواقف الأخرى كانت السبب الأبرز في حالة الحقد التي تخيم على الموقف الأوروبي تجاه تركيا، وليس ببعيد أنها واحدة من الدوافع الرئيسية وراء رفضهم انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي، فوجودها أمامهم يذكرهم بتلك اللحظات الدامية التي أسقط فيها الجيش العثماني أسطورة التفوق الأوروبي المزيفة.