شركات التكنولوجيا العملاقة والسياسة.. صراع أم تحالف؟

ترجمة وتحرير نون بوست
في إحدى حلقات مسلسل “ديفز” التلفزيوني، تذهب سيناتورة أمريكية إلى مقر إحدى كبريات الشركات التكنولوجية في سان فرانسيسكو، شركة “أمايا”، لتطلب من مؤسسها ومالكها فورست، التخلي عن أحد برامجه الأكثر تطورا لفائدة الحكومة الأمريكية. في الواقع، لم تكن السيناتورة تعرف جيدا ما هي التكنولوجيا التي تتحدث عنها، لكنها تدرك أنها تكنولوجيا ذات تأثير هائل. في نهاية المسلسل، وبعد جملة من الأحداث المشوقة، تنقلب الأمور وتطلب الشركة من السيناتورة أن تتركها الحكومة تواصل نشاطها.
يمكن القول إن العلاقة بين التكنولوجيا والسياسة ليست بالأمر الجديد. فمنذ القرن التاسع عشر، كانت المشاريع المتعلقة بتكنولوجيا الاتصالات، مثل السكك الحديدية أو التلغراف أو الراديو، مرتبطة بشكل وثيق مع الحياة السياسية، على الرغم من أنها كانت في بعض الأحيان مشاريع تُشرف عليها شركات خاصة. وقد حصل كل التطور التكنولوجي في وادي السيليكون بالتعاون الوثيق مع حكومة الولايات المتحدة التي قدمت تمويلات سخية في كثير من الحالات.
في البداية نجد لوبيات الضغط التي تحاول شركات التكنولوجيا من خلالها التأثير في سن القوانين التي قد تفيدها أو تلك التي تضر بمصالحها. في العام الماضي، أنفقت غوغل حوالي 11.8 مليون دولار على مجموعات الضغط السياسي في واشنطن، وشركة أمازون حوالي 16.1 مليون دولار، وفيسبوك ما يقارب 16.7 مليون دولار، وآبل 7.4 مليون دولار. وعلى ما يبدو، فإن المبالغ التي ترصدها هذه الشركات للتأثير على صناع القرار في الاتحاد الأوروبي أقل بكثير. في سنة 2019، أنفقت شركة غوغل ثمانية ملايين يورو في أوروبا، وأمازون حوالي 1.75 مليون يورو، وفيسبوك 3.5 مليون يورو، وآبل ما يقارب مليوني يورو.
في الآونة الأخيرة، حصل الكثير من الصدام بين عالم السياسة والتكنولوجيا. في فيسبوك، حصل تمرد داخلي بعد أن رفض مارك زوكربيرغ حذف منشور هدد فيه بإطلاق النار على اللصوص خلال الموجة الأخيرة من الاحتجاجات التي اجتاحت الولايات المتحدة، وقد اضطر لاحقا إلى حذف بعض الإعلانات بسبب انتهاكها معايير سياسة مناهضة الكراهية.
عملت غوغل في في البداية على جمع البيانات وترتيبها بشكل لا يُلحق الضرر بأي طرف
وقد وضع موقع تويتر مؤخرا علامات تحذير على تغريدات الرئيس دونالد ترامب وفق سياسة جديدة اعتمدتها الشركة لمكافحة المعلومات المضللة. من جانبه، يمتلك مؤسس شركة أمازون جيف بيزوس صحيفة واشنطن بوست التي عُرفت خلال الفترة الماضية بانتقادها اللاذع للرئيس ترامب.
في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، تواجه هذه الشركات تحقيقات بدعوى الاحتكار. تم تغريم يوتيوب (ألفابت، الشركة القابضة لغوغل) مبالغ كبيرة لانتهاك حقوق الأطفال، وتواجه آبل مشاكل مستمرة مع الحكومات بسبب رفضها وصول المحققين إلى أجهزتها المشفرة إلا في بعض الحالات.
مثل هذه الصراعات لم تعد مجرد حالات معزولة (في سنة 2019، أنفقت الشركات الأمريكية 3.47 مليار دولار لتعزيز لوبياتها)، وقد كشفت عن تغيّر عقلية شركات التكنولوجيا العملاقة، من مجرد شركات تبحث عن الربح المادي، إلى مؤسسات تستغل تأثيرها البالغ في حياة الناس من أجل التأثير في الاقتصاد والسياسة، وأحيانا إثارة أزمات كبرى على الصعيد العالمي. إنها تمارس الدور ذاته الذي لعبته شركات النفط العملاقة في السابق، وسلعتها هي قاعدة البيانات التي تملكها.
في الواقع يتعلق الأمر إلى حد ما بالسمات الشخصية للكثير من من مؤسسي هذه الشركات: هم يهود مسيانيون يؤمنون بفكرة القيادة التحولية، وقد تكون أفكارهم خلاقة أو سخيفة، بالاعتماد على مدى نجاحهم في تطبيقها.
عملت غوغل في في البداية على جمع البيانات وترتيبها بشكل لا يُلحق الضرر بأي طرف (في وقت لاحق سحبت شعار “لا تكن شريرًا” لأنها أدركت أنه ربما يتعين عليها القيام بذلك لإكمال مهمتها).
وفقًا لبعض الروايات، ابتكر مارك زوكربيرغ فيسبوك من أجل تدوين بعض التعليقات لجذب الفتيات في الجامعة، واستخدم صورهن دون إذن، لكنه عرف كيف يحول هذه الصبيانيات إلى أكبر شبكة اجتماعية في العالم.
سلطة عمالقة الويب كبيرة جدًا، وقد حصلوا بالفعل على العديد من المكاسب السياسية، حتى أننا لا يمكن أن نعرف بسهولة، أي من الحزبين يتقدم على الآخر.
حوّل جيف بيزوس فكرة “أكبر مكتبة في العالم” إلى “المتجر الذي يحتوي على كل شيء”، وطوّر من خلال شركة بلو أوريجين تكنولوجيا العيش في الفضاء.
من بين كل هذه الأفكار، هناك شيء يتجاوز مجرد الابتكار وينبع من صميم رؤى أصحاب هذه المشاريع. كيف يمكن أن أتخطى العقبات السياسية لأحقق طموحاتي؟
في مسلسل “ديفز”، ابتكر فورست تكنولوجيا متطورة تسمح له بحل مشاكله الشخصية. في الحقيقة، يُعتبر فورست نموذجًا مبالغًا فيه للشخصية العبقرية التي تعتقد أن فك الشفرات يمكن أن يكون له تأثير ميتافيزيقي خارق، وأن يسهم في علاج أسوأ جروحنا النفسية.
لا يبدو أن عمالقة الويب وصلوا إلى هذا الحد، لكنهم يعتقدون مثل فورست، أنه إذا أقنعونا بأن لدينا مشكلات ما، يمكنهم أن يبيعوا لنا الحل. الآن هم يدركون أنه يجب عليهم التفاوض مع الحكومات للقيام بذلك. قد يكون ذلك أمرا مطمئنا إلى حد ما، إلا أنه يثير القلق من جوانب عديدة. إن سلطة عمالقة الويب كبيرة جدًا، وقد حصلوا بالفعل على العديد من المكاسب السياسية، حتى أننا لا يمكن أن نعرف بسهولة، أي من الحزبين يتقدم على الآخر.
المصدر: الكونفيدنسيال