مع نيل مدير المخابرات العراقية مصطفى الكاظمي منصب رئاسة الوزراء، أصبح الرجل يمارس مهامه بقدم في الأمن وقدم في السياسة، بعد أن نجح في الاحتفاظ بمنصب مدير المخابرات وإبعاد بعض المناصب الأمنية الحساسة عن المساومات السياسية بين الكتل – أو ربما قادته الظروف إلى ذلك – خاصة وهو شخص موثوق من أطراف إقليمية ودولية وقد تم تمريره داخليًا بتوافق قلق بين الكتل المفككة داخل البيت الشيعي مع رضا من القوى السنية والكردية.
بدأ الكاظمي فعليًا بالتفكير في كتلة برلمانية ساندة لحكومته التوافقية وقراراتها المستقبلية التي تطمح لتصحيح شيء من الأوضاع المتدهورة على الأصعدة كافة، كما يفكر بمستقبله السياسي الخاص، حاله حال معظم رؤساء الحكومات العراقية السابقة عندما يصلون لهذا المنصب الذي يتمتع بنفوذ سياسي وأمني كبيرين، ومكانته داخل البيت الشيعي بشكل خاص والبيت العراقي بشكل عام، الذي كان آخرهم (كصاحب طموح سياسي) حيدر العبادي الذي أسس “تحالف النصر“، مستغلًا النصر الميداني على تنظيم داعش، ودخل الانتخابات وحاول تقديم عرض وطني عابر للطائفية، لكنه لم يفلح لرفض إيران واعتقادها أنه سيميل إلى واشنطن ويُخل بكفة التوازن الأمريكي الإيراني في العراق وهو ما كان كافيًا لاعتباره خصمًا لا يمكن القبول به وتمريره مهما كان.
مصطفى الكاظمي الذي أفرزته تداعيات تظاهرات تشرين العراقية التي انطلقت في الأشهر الأخيرة من عام 2019 وأسقطت حكومة عبد المهدي، يحاول تقديم نهج جديد يتوافق مع مطالب الرأي العام العراقي وغضبه وتظاهراته بالإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد والميليشيات، خاصة مع تراجع الحس الطائفي وتقدم الحس الوطني، فهو سيسعى لايجاد أرضية صلبة يستند عليها داخل البيت الشيعي مرحليًا بتشكيل تحالف أو اتفاق سياسي مع الكتل القريبة منه التي رشحته ودعمته في الوصول لرئاسة الحكومة ككتلتي النصر والحكمة، برئاسة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، ورئيس تيار الحكمة عمار الحكيم، مع بعض النواب المتفرقين الذين من الممكن أن يُشكلوا عددًا مهمًا داخل البرلمان.
بعد تفكك تحالف الفتح واستقالة رئيسه هادي العامري من مجلس النواب إثر خلافات عميقة تتعلق بالقيادة والقرارات الفردية وغياب التنسيق، تراجع التحالف (47 نائبًا) بشكل كبير من كونه قوةً وازنةً لكتلة سائرون (53 نائبًا) في مجلس النواب، التي أصبحت الكتلة الصلبة والوحيدة الرئيسية داخل البيت الشيعي والبرلمان، لذا هناك ميول لتشكيل تحالف جديد من كتل مختلفة صغيرة (قد تصل لـ50 نائبًا) لتوازن كتلة سائرون وضغوطها وتواجه تقلبات قرارات قياداتها المزاجية والمصلحية وغير الموثوقة، لتساند الكاظمي في المستقبل القريب وقراراته التي تحتاج لتشريعات داخل مجلس النواب.
من جانب آخر، لا يستطيع الكاظمي تجاوز نفوذ رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في مؤسسات الدولة وتحالفاته مع الميليشيات وسطوتها ولا يستطيع بناء نفوذ وقوة داخل الدولة بسرعة تؤهله لفرض خياراته، لذا يحاول التعامل مع المعادلة المتوازنة داخل البيت الشيعي بين الخصمين المالكي وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من جهة، والتعامل مع المعادلة العراقية ككل بين القريبين من واشنطن والقريبين من طهران من جهة أخرى، لأن أساس المعادلة العراقية المختلة حاليًّا والصراع الأمريكي الإيراني المتقلب بين التصعيد والتهدئة، هو الاختلال داخل البيت الشيعي، بسبب سيطرة الفاعل السياسي الشيعي على القرارات الإستراتيجية للنظام السياسي العراقي وميوله إلى طهران، ولا بد من التوازن للوصول إلى الاستقرار ومسك العصا من المنتصف، فالكاظمي سيلعب في الفضاء الوطني لإعادة التوازن من جهة ولتحقيق طموحاته الشخصية من جهة أخرى.
أخيرًا، من غير المتوقع أن يقدم الكاظمي عرضًا مختلفًا عن سابقيه في المرحلة الحاليّة، وأفضل ما يمكن تقديمه هو اتباع نهج سلفه حيدر العبادي والتحالف معه لإيجاد حلول وسط، وإيقاف انحدار الدولة المستمر نحو الفشل، لحين الانتخابات القادمة والتحضير لها في السياق (الوطني)، مستغلًا تراجع شعبية الأحزاب الدينية الفاسدة وطائفيتها وفشلها في إدارة الدولة.