“حقوق المسيحيين”، “حقوق المسلمين”، “تهجير المسيحيين هو ما يشغلنا وسنسعى لمواجهته مهما كلف الأمر”، “إننا نعيش في بيئة إسلامية والمسلمون يجب أن يظلوا الأكثرية في هذا البلد”، عبارات مثل هذه تتردد على مسامع اللبنانيين بشكل دوري منذ أكثر من 50 عامًا، فقد تربع الخوف الديموغرافي على رأس سلم أولويات الزعامات السياسية اللبنانية حتى انفجر هذا الصراع في حرب أهلية دامت 15 عامًا لم تنته آثارها حتى يومنا هذا، لتعود القيادات نفسها لتسبب تهجيرًا للبنانيين بمختلف طوائفهم بسبب فسادهم وإدارتهم السيئة للبلاد، ليعيش اللبناني بين مطارق التهجير بفساد الاقتصاد أو بالسلاح وبخداع دائم من سياسيين باعدت مصالحهم الشخصية بين أقوالهم وأفعالهم.
لقد تعايشت في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة العديد من الطوائف الدينية التي جعلت لبنان محط اهتمام عربيّ ودوليّ، بالإضافة لذلك فقد كان ولا يزال التنوع الثقافي في هذا المجتمع الصغير جاذبًا للسياحة، لكن هذه التعددية التي أسعدت البعض، أقلقت أغلب قيادات لبنان خوفًا من الاقتتال الداخلي الذي قد يؤدي لاندثار بعض الطوائف قتلًا أو تهجيرًا، وهذا القلق ومحاولة المخلصين تجنيب لبنان صراع الطوائف لم يفلح، بل ربما دفع باتجاهه عن قصد أو بغير قصد.
دخل اللبنانيون في حرب استنزفت شبابه ومقدراته، فتدخل القاصي والداني لتحقيق أطماعه في هذا البلد، وكانت الهجرة أبرز ما أنتجته هذه الحرب، فقد كتب الباحث بطرس لبكي مؤلف كتاب “هجرة اللبنانيين: 1850 ـ 2018 مسارات عَوْلَمة مبكرة”: “حتى منتصف الحرب الأهلية، كان عدد المهاجرين يبلغ ثلاثة ملايين ونصف لبناني”، فالحرب التي هدفت إلى الدفاع عن وجود الطوائف، ساهمت بتهجير عدد هائل منهم في بلد يقطنه الآن أقل من 4 ملايين لبناني.
اختلاف السياسيين يؤدي إلى تهجير اللبنانيين خوفًا من الموت واتفاقهم يهجر اللبنانيين بسبب الفساد والمحاصصة
خرج زعماء الطوائف من الحرب منتصرين وخرج اللبنانيون منهكين، وعلى الرغم من انتهاء الحرب وانتشار شيء من البحبوحة الاقتصادية، استمرت هجرة اللبنانيين لأسباب عدة أبرزها إلى جانب العولمة، السياسة الاقتصادية القائمة على الاستدانة والاعتماد على رفع الفوائد وعدم حماية السوق المحلية من المنافسة الخارجية، ما قيد الاقتصاد الإنتاجي اللبناني وأدى لتراجع النمو من 8% إلى 1% بحسب لبكي.
إضافة لذلك فقد رافق الاقتصاد اللبناني بعد الحرب، الفساد والهدر وكان الشعار السياسي الأبرز هو “المحاصصة”، أي توزيع مراكز الدولة على الزعماء توزيعًا طائفيًا، لتصل الهجرة بعد الحرب إلى مليونين و350 ألف لبناني مهاجر كما بين لبكي، أي أن عدد من هاجروا بعد الحرب يزيد على نصف سكان لبنان حاليًّا!
إن هذا التهجير “الناعم” للبنانيين لم يستدع انتفاض الساسة بل كانوا أحد أبرز أسبابه، فالمثال الحاصل في لبنان أن اختلاف السياسيين يؤدي إلى تهجير اللبنانيين خوفًا من الموت واتفاقهم يهجر اللبنانيين بسبب الفساد والمحاصصة.
إن شعارات حماية الطوائف من التهجير تهاوت عمليًا، فالتهجير “الناعم” تفاقم في السنوات الأخيرة وبخاصة في هذه السنة دون مسارعة القيادات لمعالجة الأسباب كما سارعوا بتجييش اللبنانيين وتوزيع الأسلحة عليهم إبان الحرب الأهلية، إن الواقع اللبناني اليوم وصل للهاوية بعد انهيار اقتصاد البلد ووصول سعر صرف الدولار في السوق السوداء إلى 7000 ليرة للدولار الواحد ومنع اللبنانيين من سحب الدولار من ودائعهم البنكية، ما أدى إلى انهيار الاقتصاد المدولر القائم على الاستيراد، ما تسبب بتهديد آلاف المؤسسات بالإقفال وعشرات آلاف الموظفين بفقدان أشغالهم كما عبرت عن ذلك الهيئات الاقتصادية، ناهيك بنسب الفقر التي توقع البنك الدولي ارتفاعها إلى 50% إذا استمرت الأزمة الاقتصادية دون معالجة.
هذا الواقع أدى، بحسب مؤسسة “الدولية للمعلومات” – التي تعنى بالإحصاءات – إلى ارتفاع نسبة المهاجرين من لبنان من 41766 عام 2019 إلى 61924 في 2020 غالبيتهم من الشباب خريجي الجامعات، ومن المتوقع، مع فتح المطارات، بعد إغلاقها بسبب جائحة الكورونا، أن ترتفع أعداد المهاجرين أكثر بكثير.
المضحك المبكي أنه وحتى هذه اللحظة ليس هناك أي معاجلة للأزمة، المرجح تفاقمها، بل إن الحكومة لا تشعر بالأزمة أصلًا، فقد صرح رئيس مجلس الوزراء حساب دياب أن حكومته أنجزت 97% من التزاماتها لأول 100 يوم! بالإضافة لذلك لم تغير القوة السياسية شيئًا من سياساتها، فمنذ بضعة أيام أتت التعيينات على طريقة المحاصصة الاعتيادية، كما تستمر القوة السياسية باستخدام الخطاب الطائفي والشارع لشد عصب جمهورها وتحقيق مكتسبات شخصية.
حتى في أزمة الكهرباء التي تستنزف خزينة الدولة وبعد طول انتظار يتوجه لبنان لبناء معامل لتوليد الطاقة الكهربائية، فإذا به يصطدم بحتمية بناء معامل متعددة تتوزع على المناطق بحسب التوزع الطائفي.
كل هذه الوقائع تُسقط ادعاء الزعماء اللبنانيين عبر التاريخ بحمايتهم أبناء الطائفة من التهجير ليطردوهم من لبنان بالطريقة “الناعمة” بهدف المحافظة على مكاسبهم في هذا البلد الغني، فهل لا يزال هناك سبيل لاستدراك الأمر وتثبيت اللبنانيين في أرضهم أم أن المصالحة الضيقة سيكون لها كلمة الفصل؟