في زيارته إلى الموصل شاهد أبو علي الفارسي “النحوي المعروف” أمرًا غريبًا، شاهد صبيًا صغيرًا يُدرس الناس النحو في أحد مساجد الموصل فذهل مما رأى وقال للصبي وبنبرة تعجب “تزببت وأنت حصرم” أي أنك نضجت قبل أوانك وشبهه بالزبيب الذي نضج مبكرًا، واختبر الفارسي الصبي بأسئلة ذكية أخطأ الصبي في إجابته عنها، فنصحه بأن يسافر معه ويتتلمذ على يديه، وبالفعل وافق الصبي اليافع وابتدأ رحلته الطويلة في طلب العلم التي ستجعل كتبه لاحقًا مصدرًا مهمًا للنحو والصرف وفقه اللغة، ولم يكن ذلك الصبي إلا النحوي الموصليّ أبو الفتح ابن جني!
ولد أبو الفتح عثمان بن جني في الموصل سنة 322، لأب من أصول رومية أخذ عنه ابن جني شعره الأشقر وبشرته البيضاء، وشيئًا من العجمة في لسانه، كان معروفًا عن ابن جني كثرة تحريك يديه في أثناء الكلام زيادة في الإفصاح ورغبة في الإيضاح وكأنه يحاول إفهام المتلقي بكل وسيلة ممكنة، وتلك ميزة نلحظها في مختلف مؤلفاته وكأن إفهام المتلقي كان شغله الشاغل.
كتب ابن جني في مختلف فروع اللغة، فكانت له تصانيف في النحو والصرف والتفسير والقراءات والنقد الأدبي فضلًا عن فقه اللغة، ورغم أنه كان يميل إلى مدرسة البصرة في النحو، أخذ بقسط لا بأس به من آراء البغداديين والكوفيين في النحو وبهذا يكون قد اختط لنفسه منهجًا نحويًا خاصًا به.
حقق ابن جني شهرةً كبيرةً من خلال كتابه الفريد “الخصائص” الذي ضمنه مباحث متفرقة في اللغة وتاريخها وفي التصريف والنحو وبث فيه أفكاره وآراءه ووضع فيه خلاصة فلسفته اللغوية، ويرى بعض الباحثين أن منهجية ابن جني اللغوية في هذا الكتاب متشابهة إلى حد بعيد مع منهجية الدراسات اللغوية الحديثة، وبلغت أهمية الكتاب الحد الذي أُدرج ضمن الكتب الأربع التي أجمع معظم اللغويين والأدباء القدماء على أنها ألفت من غير مثال وهي “كتاب الكتاب لسيبويه، والخصائص لابن جني، وأساس البلاغة للزمخشري، ومغني اللبيب لابن هشام الأنصاري”.
عرف عن ابن جني أيضًا حِدة ردوده، فكان يشنع أحيانًا أشد التشنيع على مخالفيه ويزدري آراءهم ويعيب أقوالهم، وهو في العكس من ذلك يستميت في الدفاع عمن وافقه واتصلت مودته به على نحو ما نراه في علاقته الحميمة مع المتنبي.
صحيح أن الموصل لم تخط نفسها أساسات مدرسة نحوية خاصة بها، إلا أنها أنجبت نحويين كبارًا أثروا علوم العربية بنتاجهم الوافر
ففي مجلس سيف الدولة الحمداني الذي ضم علماءً وشعراءً كبارًا كالمتنبي وأبو فراس الحمداني والسري الرفاء وابن خالويه والفارابي، في هذا المجلس العامر كان اللقاء الأول بين المتنبي وابن جني، وكانت لمحة ذكية من المتنبي حين تنبه لذكاء ابن جني الحاد فكسبه إلى جانبه في مواجهته الحادة مع الخصوم في مجلس سيف الدولة، فكون المتنبي صداقةً متينةً مع ابن جني وامتدحه واثنى على علمه، فقال: “ابن جني أعلم بشعري مني”، وقال فيه أيضًا “هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس”، وكان إذا سئل عن شيء من دقائق النحو والتصريف في شعره يقول: “سلوا صاحبنا أبا الفتح”، وكان ابن جني سعيدًا بهذا الإطراء من الشاعر الكبير فبادله المودة وكان يسميه “شاعرنا” ودافع عنه وعن شعره أيما دفاع وراح يدفع تهم الركاكة والإسفاف التي اتهم بها المتنبي في بعض قصائدة، وكتب ابن جني شرحين لديوان المتنبي أحدهما بعنوان “الشرح الكبير”، وقد ضاع ولم يصل إلينا والآخر بعنوان “الشرح الصغير” قد وصل إلينا، وفي المحصلة النهائية كانت هذه العلاقة ذات نفع إيجابي للطرفين!
ومن طريف ما يروى عن دفاع ابن جني عن المتنبي أن أستاذه أبو علي الفارسي كان ممن لا يطيقون المتنبي ويشيحون بوجوههم عن شعره، فطلب مرة من ابن جني أن يذكر له بيتًا من الشعر ليتدارسونه فقال ابن جني:
حُلْتِ دون المزار فاليوم لو زرتِ.. لحال النحولُ دون العِناق
فاستحسنه أبو علي، واستعاده، وقال: لمن هذا البيت؟ فإنه غريب المعنى، فقال ابن جنى: للذي يقول:
أزورهم وسوادُ الليل يشفعُ لي.. وانثنى وبياضُ الصبح يُغرى بي
فقال والله هذا حسن بديع جدًا، فلمن هما؟ قال للذي يقول:
أمضى إرادتهِ فسوف له قدٌ.. واستقرب الأقصى فثَم له هُنا
فكثر إعجاب أبي علي، واستغرب معناه، وقال لمن هذا؟ فقال ابن جني: للذي يقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا.. مضرُّ كوضع السيف في موضع الندى
فقال وهذا والله، وقد أطلت يا أبا الفتح، فأخبرنا من القائل؟ قال هو الذي لا يزال الشيخ يستثقله ويستقبح زيه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام اللب؟ قال أبو علي: أظنك تعني المتنبي؟ قال نعم، قال والله لقد حببته إليّ.
وفضلًا عن ذلك كان لابن جني ملكة شعرية، وكتب بعض القصائد الرقيقة في الرثاء والمدح والفخر، ومنها قصيدة جميلة تعبر عن صدق الإحساس قالها في رثاء صاحبه المتنبي مطلعها:
غاض القريض وأودت نضرة الأدب.. وصوّحت بعدري دوحة الكتب
اتصل ابن جني بالبويهيين وأقام فترة في كنفهم، وتوفي ببغداد سنة 392هـ، ودفن بجوار قبر شيخه أبو علي الفارسي، وذهب البعض للقول إنه توفي في الموصل، ورثاه الشريف الرضي بقصيدة بليغة مطلعها:
لتبكِ أبا الفتح العيونُ بدمعها.. وألسننا من قبلها بالمناطق
وهكذا أسدل الستار على حياة نحوي موصلي استطاع إثبات بصماته التي لا تمحى في العربية وعلومها.
صحيح أن الموصل لم تخط نفسها أساسات مدرسة نحوية خاصة بها، إلا أنها أنجبت نحويين كبارًا أثروا علوم العربية بنتاجهم الوافر ويكفيها أنها المدينة التي ولد فيها صاحب الخصائص ابن جني ووروي الثرى فيها صاحب الحماسة أبي تمام.