وسط ما تعيشه تونس من احتقان وحرب لوائح تحت قبة البرلمان، ومن صراع بين رئاسة الجمهورية في قرطاج ورئاسة البرلمان في باردو، ومن ضبابية تسود مصير الائتلاف الحكومي بسبب الخلافات المتصاعدة بين أعضائه، وبعد انتصار التونسيين على جائحة كورونا، انطلق قطار الحراك الاحتجاجي الاجتماعي من جديد وهذه المرة من بوابة الجنوب وبالتحديد من منطقة الكامور في ولاية تطاوين، كبرى ولايات البلاد من حيث المساحة وأغناها من حيث الثروات الباطنية (حيث تساهم حقول الولاية بـ40% من إنتاج تونس من النفط و20% من إنتاجها من الغاز).
في الواقع، لم تكن هذه المرة الأولى التي تشهد فيها منطقة الكامور البترولية هكذا احتجاجات، فتقريبًا في مثل هذه الفترة من سنة 2017 انتهى اعتصام دام لمدة شهرين في أول اعتصام تعرفه المنطقة، حيث أغلق المحتجون محطة لضخ الوقود وعطلوا نشاطها كوسيلة للضغط على السلطة آنذاك من أجل تنفيذ مطالبهم في التشغيل والتنمية، وما سبب خروج الناس حاليًّا إلى الشارع إلا لاتهامهم حكومة الفخفاخ بالتراجع عن الاتفاق المبرم مع حكومة يوسف الشاهد قبل 3 سنوات الذي يقضي بتشغيل 3000 شخص ضمن شركات البستنة و1500 شخص ضمن الشركات البترولية (على مراحل) وتخصيص 80 مليون دينار سنويًا للمشاريع التنموية والاستثمارية بالجهة.
تجربة قفصة
في الأمس القريب، كانت ولاية قفصة (جنوب غرب البلاد) مسرحًا لأحداث مشابهة من حيث المطالب والشعارات، وهي الولاية التي اقترن اسمها في التاريخ الحديث بالفوسفات، حيث توجد أكبر مناجم البلاد من هذه المادة في مدن قفصة أو ما يعرف بالحوض المنجمي.
أمام الاحتجاجات والاعتصامات والتعطيل المستمر للإنتاج الذي ما زال متواصلًا إلى يومنا هذا، كانت الوصفة العلاجية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ 2011 هي شراء السلم الاجتماعي عبر الانتداب بالجملة ودمج آلاف العاطلين عن العمل من أبناء الولاية ضمن الشركات المتفرعة عن شركة فوسفات قفصة مثل شركة البستنة والغرس وشركة النقل.
لكن عوضًا عن حل المشكلة، كان هذا الخيار غير المدروس (خيار الحبوب المسكنة كما أسميه شخصيًا) كارثيًا على عدة أصعدة، فمن ناحية أهمل أخطر أزمة تعاني منها ولاية قفصة ألا وهي أزمة التلوث الناتج عن نشاط استخراج وتحويل الفوسفات التي أضرت كثيرًا بأهاليها صحيًا وبيئيًا، من ناحية ثانية لم تعتمد خططًا لتنويع قاعدة الإنتاج الاقتصادي بالولاية حتى لا تبقى معتمدة بشكل كامل على الفوسفات، ومن ناحية ثالثة فاقمت هذه الانتدابات كاهل شركة فوسفات قفصة على مدى السنوات الماضية وجعلتها شركة خاسرة وعبئًا كبيرًا على الدولة.
يعاد تقريبًا استنساخ نفس الوصفة العلاجية التي طبقت في قفصة ولم تقدم حلولًا جذريةً لمشاكل أهلها
ففي الوقت الذي تضاعف فيه عدد موظفي وعمال الشركة ثلاث مرات خلال 5 سنوات (من 5000 عامل سنة 2010 إلى 15000 عامل سنة 2015) مع كتلة أجور تقدر بنحو 400 مليون دينار سنويًا، بالكاد سجلت الشركة في 2019 نصف حجم إنتاج سنة 2010 البالغ 8 ملايين طن مع خسائر تقدر بـ200 مليون دينار سنويًا وذلك نتيجة استمرار الاعتصامات وتهالك معدات الإنتاج، هذا دون الحديث عن أهم رأس مال خسرته الشركة ألا هو سمعتها في السوق العالمية.
تطاوين.. كلاكيت تاني مرة
للأسف اليوم في تطاوين، يعاد تقريبًا استنساخ نفس الوصفة العلاجية التي طبقت في قفصة ولم تقدم حلولًا جذريةً لمشاكل أهلها، فالحديث ما زال يدور عن انتداب الشباب العاطل في شركات البستنة والغراسة، علمًا بأن الأخيرة صارت نموذجًا يجسد إهدار المال العام، حيث يتلقى العاملون بهذه الشركات رواتب مقابل عدم إنجاز أي عمل وهي عبارة عن بطالة مقنعة، فأي بستنة في أراض تعتبر صحراوية جدباء وأي غراسة في بلد يعاني من أزمة شح مياه، والخوف كل الخوف أن تؤدي هذه الوصفة إلى نفس المآلات من حيث إغراق الشركات العاملة في تطاوين بالموظفين وتحولها إلى مؤسسات خاسرة.
على الأغلب، هذه الاحتجاجات في تطاوين لن تكون الأخيرة وقد تندلع غدًا احتجاجات مماثلة في ولايات أخرى من الجنوب تمتلك ثروات مثل قفصة أو قبلي، فمن جهة لا يمكن أبدًا إنكار ما عانته هذه الولايات من تهميش تاريخي ممنهج على مختلف الأصعدة سواء فيما يتعلق بالاستثمار في الإنسان (التعليم والصحة) أم في الحجر (البنية التحتية من طرقات وسكك وشبكات صرف صحي…)، لكن من جهة أخرى ما يقدم إليهم اليوم هو فقط حل ظرفي ولحمة مسمومة، وحتى أبسط لكم الصورة بشكل أوضح، تونس تبدو كعائلة وجدت كنزًا في باحة منزلها لكن عوضًا عن استثماره تدريجيًا في مشاريع مربحة تخلق ثروة إضافية، نحن بصدد استنزاف تلك الثروة والتهاوش عليها بعقلية الغنيمة.
في العمق من هذا المشهد الاحتجاجي بتطاوين، نستقرء أيضًا أزمة مبادرة فردية تعاني منها شريحة كبيرة من شباب تونس، أزمة حوكمة وحسن استغلال ثروات تونس الطبيعية، أزمة تعريف الدور الاجتماعي للمؤسسة الاقتصادية، وأزمة تفكير لدى النخبة السياسية التونسية التي وإن فكرت فبعقلية “أنا ومن بعدي الطوفان” خوفًا على رصيد أصواتها ووجودها في السلطة.
لهذا، وبدلًا من تكرار نفس الأخطاء وتحميل ميزانية الدولة ما لا يطاق (التي يرتقب أن يبلغ عجزها قرابة 4 مليارات دينار)، أظن أنه حان الوقت للكف عن الرهان على القطاع العام لخلق الوظائف والتوجه بدلًا منه نحو تشجيع المبادرة الفردية الخاصة والرهان على الإبداع الشبابي.
تمويل المشاريع الصغيرة بدلًا العمالة المقنعة
في هذا الصدد، أقترح تحويل وجهة الأموال التي كانت ستدفع كأجور لعمال شركات البستنة نحو تمويل مشاريع صغرى ومتوسطة ينتفع منها أبناء الولاية (على شكل قروض ميسرة، خطوط تمويل…)، ووجب أن لا ننسى أن الدول المتقدمة أو الصاعدة يتكون اليوم نسيجها المؤسساتي في معظمه من المؤسسات الصغرى والمتوسطة، وهذه الأخيرة إن وجدت الدعم الكافي من الممكن أن تتحول إلى قاطرة نمو الاقتصاد التونسي في المستقبل.
الإصلاح سوف يطرح بدوره الأسئلة العميقة مجددًا، أسئلة لطالما تهربت النخبة السياسية من طرحها بشجاعة
بالإضافة إلى ذلك، اعتماد الخيار الذي أقترحه سيكون له حسب تقديري ثلاث فوائد رئيسية: أولًا، الفائدة العظمى تتمثل في إزالة عقلية التواكل على الدولة السائدة في شتى أرجاء تونس منذ عهد الاستقلال، وذلك عبر منح فرصة لهؤلاء الشبان والشابات حتى يمتلكوا مصيرهم بأيديهم ويخلقوا القيمة المضافة داخل المجتمع ويكونوا من رواد الأعمال، ثانيًا، هذه المشاريع الصغيرة والمتوسطة سوف تساهم في تنويع قاعدة الإنتاج في هذه الولايات التي لطالما اعتمد نشاطها الاقتصادي على ما تنتجه من ثروات باطنية، ثالثًا، الشركات التي سوف تساهم في برامج تمويل هذه المشاريع ستكون أسست لمعادلة رابح/رابح عوض التأسيس لمعادلة خاسر/خاسر التي أسست لها شركة فوسفات قفصة ونرى نتائجها الوخيمة اليوم.
لكن هذا وجب أن لا يحجب عنا حقيقة أن ما تعانيه المناطق الداخلية بتونس سببه منظومة فاشلة أو (كما يقال بالمصري خربانة) على كل مستويات (السياسية، الأمنية، الاقتصادية، الإدارية، الخدماتية…) منذ 50 عامًا وإصلاحها لن يكون أبدًا بالأمر الهين، ولن يكون في غضون عام أو عامين ولا عقد أو عقدين، إصلاحها لا يحتاج فقط الإمكانات بل الإرادة قبل كل شيء، إصلاحها يحتاج المصارحة لا المغالطة، إصلاح لن يكفي فيه عزم الحاكمين إن لم يؤيده عزم المحكومين.
هذا الإصلاح سوف يطرح بدوره الأسئلة العميقة مجددًا، أسئلة لطالما تهربت النخبة السياسية من طرحها بشجاعة، أسئلة تتجاوز حدود معالجة المشكل الآني وهذه الحلول التخديرية والترقيعية التي دأبت كل حكومات ما بعد الثورة على الالتجاء إليها كلما اندلعت احتجاجات اجتماعية في إحدى الولايات المهمشة تنمويًا وخدماتيًا ومعيشيًا.
هذه الأسئلة تدور حول تعريف دور الدولة في الحياة الاقتصادية ومراجعة مفهوم الدولة الاجتماعية الراعية وكذلك مفهوم التنمية المستدامة (الذي بقي مجرد شعار) وعن دور القطاع الخاص في دفع عجلة التنمية ومصير المديونية التي غرقت فيها البلاد وحسن ترتيب الأولويات.