يُذكرنا يوم 29 يونيو من كل عام، بواقعة أليمة ومفجعة في وجدان الشعوب المسلمة، وهي سقوط قرطبة، حاضرة الخلافة الأموية في الأندلس وكبرى قواعدها، بيد فرناندو الثالث عام 1236، وهو الشخص ذاته الذي أسقط إشبيلية بعد ذلك بأعوام.
كان لتلك الحادثة أثرها الكبير على العالم الإسلامي الذي اهتز من الداخل لسقوط قرطبة، كما كان لها أثر في ترتيب صفحات التاريخ الإنساني فيما بعد، حيث دخل الضعف في أواسط الحكم الإسلامي بالأندلس إلى أن سقط تمامًا، وتحول معظم سكان هذه البلاد من الإسلام إلى المسيحية بقوة الحديد والنار ومحاكم التفتيش.
الفتح الإسلامي لمدينة قرطبة
استطاع المسلمون في العصر الأموي بقيادة طارق بن زياد، فتح قرطبة عام 710م، بعد أن عبر بقواته إلى أيبيريا (التي أسماها المسلمون ببلاد الأندلس)، وقتل ملكها لذريق رودريك، وقد جعل الأمويون الأندلس ولاية تابعة لولاية المغرب، حتى جعلها عمر بن عبد العزيز تتبع للعاصمة الأموية في دمشق بشكل مباشر، فظلت كذلك حتى سقوط الدولة الأموية على أيدي العباسيين عام 750م.
وقد تضاعفت أهمية قرطبة السياسية والحضارية مع قدوم الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، الذي فر من العباسيين، فاستولى على مقاليد الأمور في الأندلس الإسلامية وجعل قرطبة عاصمة له عام 756م، وكان هذا بداية لعصر قرطبة الذهبي، حيث أصبحت عاصمة الأندلس الإسلامية بأكملها وأهم مدينة هناك.
استمر الحكم بيد الأمويين من سلالة عبد الرحمن الداخل في هذه الفترة، لكن تعرضت دولتهم للعديد من الثورات المتعاقبة وفقد أمراؤها مقاليد الأمور حتى تمكن أحد أحفاد الداخل، عبد الرحمن الثالث الملقّب بالناصر، من إعادة توطيد ملك الأمويين وإخضاع معظم الأندلس لسلطته في قرطبة.
كانت دولة قرطبة من أهم الدول الأوروبية في القرن العاشر الميلادي، حيث كانت منارة للعلم والثقافة في أوروبا، وعاصمة من عواصم الأدب والثقافة العربية والإسلامية، وأنجبت المدينة في هذه الفترة الشاعر ابن زيدون والشاعرة الأموية ولادة بنت المستكفي والفقيه ابن حزم والعالم عباس بن فرناس، كما انتقل إليها الموسيقي زرياب وأسس دار المدنيات.
ملوك الطوائف والمرابطون والموحدون
سقطت الخلافة الأموية في الأندلس بين العقدين 1020-1030م، بسبب ثورة البربر وتلاها نشوء “ملوك الطوائف” الذين قسموا الدولة إلى 22 دويلة، منها غرناطة وإشبيلية وألمرية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة والبرازين وبطليوس، وتنازع حكام إشبيلية وطليطلة المسلمين على قرطبة، حتى استقرت المدينة بيد ملك إشبيلية المعتمد بن عباد سنة 1078م.
ظهرت شخصية محورية في تاريخ الأندلس وقرطبة تحديدًا، وهي شخصية محمد بن يوسف بن هود
أدى التناحر والخلاف المستمر بين ملوك الطوائف في الأندلس، إلى أن تكون البلاد فريسة سهلة أمام مسيحيي الشمال، ولذلك سيطر زعيم دولة المرابطين في المغرب العربي على حكم بلاد الأندلس عام 1093م بما فيها قرطبة، ولكن سقطت دولة المرابطين على يد حركة إسلامية أخرى هي حركة الموحدين، فصارت قرطبة وباقي الأندلس بأيديهم عام 1121م.
أعاد الموحدون عاصمة الأندلس إلى قرطبة، فاستعادت بعضًا من مكانتها السابقة، وفي هذه الفترة ظهر في قرطبة الفيلسوف المسلم ابن رشد، والعالم الديني اليهودي ابن ميمون، أشهر الفلاسفة في العصور الوسطى.
وعلى أنقاض دولة الموحدين التي مُنيت بهزيمة مدوية في معركة العقاب عام 1212م، أمام الجيوش الإسبانية الأوروبية المتحالفة، ظهرت شخصية محورية في تاريخ الأندلس وقرطبة تحديدًا، وهي شخصية محمد بن يوسف بن هود.
قرطبة في عصر ابن هود
محمد بن يوسف بن هود، الملقب بالمتوكل على الله، كان من أجناد مرسية، وهو سليل بني هود ملوك سرقسطة أيام حكم الطوائف، استطاع أن يجمع حوله أهالي الأندلس عام 1228م، وأن يحارب بهم دولة الموحدين المنهكة وينتصر عليهم، وبعد هزيمته للموحدين، استطاع أن يقيم دولة كبيرة ضمت مدن الأندلس الكبرى كإشبيلية والموحدي وشاطبة وجيان وغرناطة ومالقة وألمرية، وأصبح بعد هذا النجاح زعيم الأندلس وقائد حركة تحريرها والدفاع عنها أمام أطماع النصارى الذين دخل معهم في معارك كثيرة.
حاول ابن هود أن يُضفي على زعامته الشرعية من الخلافة العباسية في بغداد، لتكون له قوة في محاربته لخصومه الداخليين، واستطاع أن يحصل على مرسوم من الخليفة المستنصر بالله العباسي يبارك له ولايته في الأندلس عام 1233.
وعلى الرغم من قوة ابن هود، فإنه لم يكن منفردًا بحكم الأندلس ولم تتحد قواعدها الكبرى تحت سلطانه، فقد نافسه في شرقي الأندلس أبو جميل زيان بن مردنيش الذي كان يحكم بلنسية، وفي وسط الأندلس وجنوبها كان محمد بن يوسف الأحمر الذي حكم جيان وما حولها، وكان يتطلع إلى حكم قواعد الأندلس الجنوبية، وعقد تحالفًا مع أبي مروان أحمد الباجي القائم على إشبيلية التي خرجت عن سيطرة ابن هود.
ودخل الخصمان في معارك متعددة، آخرها واحدة على مقربة من إشبيلية عام 1233م، انتصر بها الحليفان على ابن هود، ودخل ابن الأحمر إشبيلية بعد ذلك وقتل حليفه الباجي، فثار عليه أهل إشبيلية وأخرجوه منها، وأرسلوا إلى ابن هود يسلمون له مدينتهم لتكون تحت حكمه.
وبشكل مفاجئ، تصالح ابن هود وابن الأحمر عام 1234م، بعد فترات من استنزاف الأموال والدماء في معاركهما الداخلية، وفي هذه الفترة كان فرناندو الثالث ملك قشتالة، يكثف من شن الحروب على المسلمين، وكان ابن هود يرده في كل مرة بعقد اتفاقية وهدنة ويدفع له إتاوة عالية ويتنازل له عن بعض الحصون.
وكان فرناندو يهدف من وراء غزواته المتتالية أن يرهق المسلمين المرهقين أصلًا من حروبهم الداخلية ويستولي على حصونهم، حتى تأتي الفرصة المناسبة للاستيلاء على قرطبة حاضرة الأندلس وعاصمة الخلافة الإسلامية القديمة التي تُعاني من الإهمال منذ سقوط الخلافة الأموية.
بدلًا من أن يحارب بقواته قوات القشتالة، ظل واقفًا في مكانه لا يحرك ساكنًا ولا يتحرش بهم
وفضلًا عن ذلك كله، كانت الأحوال مضطربة جدًا داخل قرطبة، حيث كان أهالي المدينة معروفين بكثرة تمردهم وعدم اتفاقهم على رأي واحد، فتارة يبايعون ابن الأحمر وتارة أخرى يبايعون ابن هود، وكان فرناندو يُغذي بجواسيسه هذه الخصومات، الأمر الذي هيأ له الهجوم على قرطبة.
الغزو الصليبي على قرطبة وتخاذل ابن هود
في أواخر عام 1236م، أرسل فرناندو سرية من فرسان قشتالة المغامرين صوب قرطبة، لاستطلاع تحصينات المدينة، واستطاعوا الاستيلاء على العديد من أبراج المدينة بمساعدة أحد المتعاونين معهم الذين خانوا أهالي قرطبة وبدأوا بقتل بعض السكان المحليين.
تحصن فرسان قشتالة بالأبراج وبعثوا في طلب النجدة والإمداد، فجاءتهم الإمدادات السريعة بقيادة أساقفة الكنائس القريبة من قرطبة، حتى جاء ملكهم فرناندو بنفسه الذي قاد جيشه لحصار قرطبة، وكان ذلك اختراقًا لمعاهدته مع ابن هود.
قاوم أهالي قرطبة قوات قشتالة وأرسلوا لابن هود يطلبون منه النجدة باعتباره حاكم مدينتهم، فتوجه إليهم بجيش كبير أكثر من جيش فرناندو، يقدره المؤرخون بـ35 ألف مقاتل ومئتي فارس من المرتزقة النصارى بقيادة الفارس لورنسو خواريز، وهو فارس مسيحي نفاه فرناندو خارج قشتالة فانضم لخدمة ابن هود.
ومع كل هذه القوات، تصرف ابن هود تصرفًا فاجأ الجميع، وبقي محلًا للجدل حتى يومنها هذا، فبدلًا من أن يحارب بقواته قوات القشتالة، ظل واقفًا في مكانه لا يحرك ساكنًا ولا يتحرش بهم، رغم تأكيد بعض المؤرخين أن حشود القشتالة لم تكن بحجم جيش المسلمين.
ويختلف المؤرخون في السبب الذي جعل ابن هود يقف هذا الموقف المتخاذل، فيقول بعضهم إن قسوة الجو وهطول الأمطار بشدة ونقصان المؤن هو الذي حمل ابن هود على اتخاذ هذا الموقف، ويقول البعض الآخر إن اعتماد ابن هود على لورنسو خواريز كان السبب في ذلك، فابن هود أرسل خواريز ليقوم بجولة استطلاعية على جيش قشتالة، وهناك تواصل مع فرناندو واجتمع معه، وعرض عليه أن يُنفذ له خطة لخداع ابن هود ليحصل على رضا ملك قشتالة من جديد على حساب المسلمين.
يُعد مسجد قرطبة الذي صنفته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي، واحدًا من أهم الشواهد المعمارية على الإطلاق
وبالفعل، عاد الفارس الصليبي لابن هود واستخدم معه أساليب الحرب الدعائية من خلال تخويفه وترهيبه وتحذيره من ضخامة الجيش الإسباني وكارثة الاصطدام معه، ونجحت الخطة وتخاذل ابن هود عن نصرة قرطبة وترك أهلها يواجهون مصيرهم بأنفسهم، ثم تعلل بالانسحاب لنصرة أهل بلنسية الذين استغاثوا به من تهديدات خايمي الأول ملك أراجون.
سقوط قرطبة والتخاذل الثاني
بعد انسحاب ابن هود أخذ فرناندو الثالث في تشديد الحصار على أهالي قرطبة الذين قاوموه ببسالة، ولكنهم أوشكوا على التسليم بعد أن نفدت مؤنهم، إلا أنهم عادوا إلى المقاومة بعدما علموا أن مؤن الجيش الصليبي على وشك النفاد أيضًا، فتأملوا بأن يتسبب ذلك في إنهاك جيش القشتالة ومن ثم رحيله.
لكن أملهم تبدد وانهارت معنوياتهم بعد أن تحالف ملك قشتالة مع ابن الأحمر ضد ابن هود وقرطبة، فوجدوا أن ليس أمامهم إلا التسليم أمام حصار العدو وخيانه الصديق، ودخل فرناندو الثالث قرطبة يوم الأحد 29 يونيو 1236.
وفور دخولهم قرطبة، رفع الصليبيون صليبًا كبيرًا على قمة صومعة جامعها الأعظم الذي تم تحويله فورًا إلى كنيسة، وأمر فرناندو الثالث بنزع النواقيس التي كان المنصور بن أبي عامر قد أخذها من كنيسة شانت ياقب، وأمر وأن يحملها الأسرى المسلمون على كواهلهم حتى شانت ياقب لترد هناك إلى مكانها القديم.
وهكذا سقطت مدينة قرطبة وضاعت من يد المسلمين، بفعل تنازع الورثة المسلمين وتفرقهم وتخاذلهم، بعد أن حكمها أجدادهم وبنوا فيها حضارة استمرت لأكثر من خمسة قرون، ويُعد مسجد قرطبة الذي صنفته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي، واحدًا من أهم الشواهد المعمارية على الإطلاق، عن تلك الحقبة الفريدة في تاريخ الحضارة الإسلامية بمدينة قرطبة.