في الـ25 من يونيو/حزيران الحاليّ قال رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو إن “إسرائيل” والإمارات ستتعاونان في البحث والتطوير والتكنولوجيا في مجالات “ستحسن الأمن الصحي في المنطقة بأكملها”، لافتًا خلال حضوره مراسم عسكرية جنوب البلاد، أن هذا الإعلان جاء نتيجة اتصالات مطولة أجريت خلال الأشهر الأخيرة.
تصريح ربما ليس الأول من نوعه لكنه وضع أبو ظبي في مأزق، كونه بجانب صدوره أولًا من جانب تل أبيب، فهو يتزامن مع مساعٍ إسرائيلية لضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، والمقرر بدء مناقشتها جديًا أول يوليو/تموز القادم، استنادًا إلى خطة السلام الأمريكية المزعومة، وهو ما دفع الجانب الإماراتي لإعلان تفاصيل هذا التعاون بعد أقل من 24 ساعة من تصريحات نتنياهو.
رحلات وشحنات
وفي اليوم التالي، الجمعة 26 من يونيو/حزيران أوضحت وكالة الأنباء الإماراتية أن شركتين من القطاع الخاص الإماراتي ستتعاونان مع شركتين إسرائيليتين في مشاريع طبية، منها ما يتعلق بمكافحة الفيروس المستجد، لافتة إلى أن هذه الشراكة العلمية إنما تأتي “لتتجاوز التحديات السياسية التاريخية في المنطقة ضمن أولوية إنسانية وتعاون بناء يهدف إلى التصدي لجائحة كوفيد 19 والتعاون لأجل صحة مواطني المنطقة”.
الوكالة بررت هذه الخطوة بأن مصلحة الإنسان والبشرية وحمايتها يجب وضعها في مقدمة الأولويات بعيدًا عن أي خلافات سياسية من الممكن القفز عليها لعبور تلك المرحلة الحرجة التي تواجهها الإنسانية، وهو الأمر الذي أرجعه الكثيرون إلى رغبة إماراتية ملحة في استغلال ظروف الجائحة لتحويل مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني من السر إلى العلن بصورة رسمية.
صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية كشفت في تقرير لها أن أبو ظبي رغم عدم جمعها علاقات دبلوماسية رسمية مع تل أبيب، زودتها بـ100 ألف جهاز لفحص الفيروس، كاشفة أن الشحنة وصلت على متن طائرة أوكرانية في رحلة مباشرة من أبو ظبي إلى تل أبيب، بترتيب من الموساد الإسرائيلي يوم 26 من مارس/آذار الماضي في ذروة تفشّي الوباء.
وكانت شركة الاتحاد للطيران الإماراتية قد سيرت – لأول مرة في تاريخها – رحلة مباشرة من أبو ظبي إلى مطار بن غوريون في مايو/آيار الماضي، زاعمة إيصال معونات طبية للفلسطينيين لمواجهة فيروس كورونا، وهو ما نفت السلطة الفلسطينية أي علم لها بها ورفضت استقبالها.
تحركات إماراتية مكثفة خلال الآونة الأخيرة تستهدف في المقام الأول الدفع بقطار التطبيع دون توقف رغم ادعاء أبو ظبي عكس ذلك، وذلك عبر توظيف المستجدات الإقليمية والدولية لإسراع الخطى في هذا المسار، بما يعبد الطريق أمام تحقيق أجندة أبناء زايد التوسعية، عازفة على عدة أوتار لشرعنة خطواتها في مقدمتها الوتر الإنساني الذي يجافي الحقيقة شكلًا ومضمونًا.
كان بإمكان الإمارات أن تستثمر في التعاون مع دول أكثر تقدمًا من دولة الاحتلال مثل ألمانيا أو بريطانيا، لكن اختيار الكيان الصهيوني تحديدًا يشير إلى أبعاد أخرى بعيدة تمامًا عن الوتر الإنساني المعزوف عليه
دلالة التوقيت
توقيت إعلان هذا التعاون العلني لأول مرة تزامنًا مع اقتراب موعد الضم لأراضي الضفة كان مثار الكثير من التساؤلات التي كشفت عن رسائل مبيتة، سياسية واقتصادية، من وراء هذه الخطوة، وهو ما ذهب إليه المحلل السياسي الأردني حسن البراري، الذي أشار إلى أن الإمارات وكأنها تكافئ دولة الاحتلال على ممارستها الاستيطانية.
البراري خلال مداخلة تليفزيونية له في برنامج “مسائية DW” المذاع على قناة “DW عربية” كشف أن التحرك الإماراتي هو امتداد لما وصفه “سياسة الاستجداء التطبيعي مع تل أبيب” وهو ما تم توثيقه خلال المقال الذي نشره سفير أبو ظبي في واشنطن، يوسف العتيبة، في صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية.
وأوضح أن الموقف الإماراتي الحاليّ يخالف شكلًا ومضمونًا الإجماع العربي الرسمي مع مبادرة السلام العربية التي أطلقها ملك السعودية الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، عام 2002، بين “إسرائيل” والفلسطينيين، التي تهدف لإنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود 1967 وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع “إسرائيل”.
سعى ابن زايد من خلال المحادثة بينه وبين الأسد أن يخلق انطباعًا أنها كانت من أجل التضامن الإنساني مع الدولة العربية الشقيقة في مواجهة تفشي كورونا
وبسؤاله عن البُعد الإنساني في التحرك الإماراتي في هذا التوقيت الحرج الذي يسعى العالم فيه لمواجهة الوباء المنتشر، حيث سعت كل من أبو ظبي وتل أبيب للمشاركة في التوصل إلى علاج فعال يقضي على هذا الفيروس، أشار المحلل الأردني أنه كان بإمكان الإمارات أن تستثمر في التعاون مع دول أكثر تقدمًا من دولة الاحتلال مثل ألمانيا أو بريطانيا، لكن اختيار الكيان الصهيوني تحديدًا يشير إلى أبعاد أخرى بعيدة تمامًا عن الوتر الإنساني المعزوف عليه من الإعلام الإماراتي والعبري.
وفي الجهة المقابلة، يقلل المحلل البحريني، عبد الله الجنيد، من حجم هذه الخطوة، لافتًا إلى أنها ليست أكثر من تعاون طبي استثنائي لا أكثر، وهو ما رد عليه البراري بالإشارة إلى أن التطبيع الطبي محطة أولى للتطبيع الاقتصادي الكامل وبالتبعية التطبيع السياسي وهو ما ينعكس على مستقبل القضية الفلسطينية برمتها.
الجنيد حمّل نتنياهو مسؤولية تضخيم هذا التعاون، لافتًا إلى مساعيه لتوظيفه سياسيًا خدمة لأجنداته الخاصة، موضحًا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يمر بنوع من العزلة الدولية عندما أعلن نيته ضم الأراضي الفلسطينية، وهو يسعى للتحايل على هذه العزلة بتحقيق انتصار سياسي في ملف التطبيع مع الدول العربية.
التطبيع مع نظام الأسد
البُعد الإنساني ذاته كان مبرر الدعم الذي قدمته أبو ظبي لنظام بشار الأسد في سوريا، حيث كشف موقع “أوريان21” الفرنسي – من خلال تقرير مفصل عن نتائج تحقيق أجرته لجنة “العدالة والحرية للجميع” الفرنسية – عن وجود مساعدات وشراكات عسكرية وأمنية بين أبو ظبي والأسد.
التقرير أشار إلى أن الإمارات وفور إعادة فتح سفارتها في دمشق أواخر 2018، قدمت مساعدات طبية وغذائية للمستشفيات في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، كذلك تولت تمويل مشروعات إعادة بناء بعض المباني ومحطات الكهرباء والمياه في العاصمة السورية.
وكان ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، قد أجرى اتصالات بالأسد في 27 من مارس/آذار الماضي، هو الأول من نوعه منذ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 2012، وفق ما أعلن ابن زايد على صفحته الرسمية على موقع “تويتر”، وهو الاتصال الذي أثار حينها الكثير من التساؤلات عن دوافعه الحقيقية بعيدًا عن المعلن إعلاميًا.
خطة ابن زايد تتمثل في دفع 3 مليارات دولار للأسد مقابل استئناف الهجوم على إدلب آخر معاقل المعارضة
وبعد أسبوعين فقط من إعلان هذه الخطوة اقترح ابن زايد دعم الأسد بـ3 مليارات دولار مقابل العودة إلى القتال في محافظة إدلب السورية على الحدود مع تركيا، وعدم الرضوخ لاتفاقيات موسكو/أنقرة بشأن إدلب، وفق ما ذكر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، ما يضرب بدعاوى الإنسانية التي ترفع أبو ظبي شعارها تبريرًا لتطبيعها مع النظام السوري عرض الحائط.
وقد كشف الموقع البريطاني في تقريره المنشور بداية أبريل الماضي مساعي ابن زايد للحيلولة دون توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، في حين تواصل مع الأسد منذ ذلك الوقت، ليُشجِّعه على استئناف هجومه، فقبل أيام قليلة من إبرام الاتفاق أرسل ولي العهد الإماراتي علي الشمسي – نائب شقيقه مستشار الأمن القومي طحنون بن زايد – للتفاوض على صفقةٍ مع الأسد في دمشق.
وبحسب المصادر التي نقل عنها الموقع فإن خطة ابن زايد تتمثل في دفع 3 مليارات دولار للأسد مقابل استئناف الهجوم على إدلب آخر معاقل المعارضة، وكان من المقرر تسليم مليار دولار منها قبل نهاية مارس/آذار الماضي، فيما يتم جدولة المبلغ المتبقي لاحقًا.
وكالعادة.. سعى ابن زايد من خلال المحادثة بينه وبين الأسد أن يخلق انطباعًا أنها كانت من أجل التضامن الإنساني مع الدولة العربية الشقيقة في مواجهة تفشي كورونا، علمًا بأن دمشق ذاتها أنكرت أكثر من مرة تفشي المرض على نطاق واسع في البلاد وقت الاتصال، بداية مارس/آذار.
ورغم التحذيرات الأمريكية لأبو ظبي لثنيها عن التطبيع مع النظام السوري، تجنبًا للوقوع تحت مقصلة قانون “قيصر”، فإن الدولة الخليجية تحايلت على تلك الضغوط بعدم تعيين سفير رسمي لها في دمشق، مكتفية بوجود قائم بالأعمال تجنبًا لإغضاب واشنطن، وإن كانت في الوقت ذاته تمارس عبثها في الداخل السوري في أكثر من ورقة.
وهكذا تواصل أبو ظبي توظيفها السياسي لشعارات الإنسانية والدعم من أجل البشرية لتحقيق أهداف ومآرب أخرى تتنافى في كثير منها مع ما ترفعه بين الحين والآخر لكسب التأييد الدولي، ولو على حساب الموقف العربي، وتحسين صورتها التي تعاني من تشوهات عدة في أكثر من اتجاه بفضل السياسات الخارجية والداخلية التي يتبعها أبناء زايد منذ رحيل والدهم.