سرقة تاريخ الشعوب من أسوأ ما روجته القرصنة للبشرية، بعدما زحفت مثل السرطان ولم تترك مجالًا واحدًا إلا واقتحمته وزيفت فيه قدر ما تستطيع، ونهبت كل ما استطاعت الوصول إليه من ممتلكات وآثار وجعلت منها تجارة على نطاق عالمي، لا تردعها قوانين أو حدود أو جنسيات.
الاستيلاء على الإرث الثقافي للبلدان
الاستيلاء على الإرث الثقافي للبلدان الأخرى، أمر ثابت في تاريخ البشرية ولا يمكن اتهام القرصنة باختراعه، لكنها روجته على نطاق واسع وكانت إحدى الإدوات في يد الهيمنة والاستغلال الاستعماري للمجتمعات، واعتبرت هذه التجارة أهم ثوابتها بجانب تجارة الرقيق وغيرها.
الغريب أن البلدان الأوروبية التي طالما دافعت عن الثقافة، هي أكثر الدول التي انتهكت تاريخ بلدان العالم وخاصة العالم الثالث والأقليات العرقية والثقافية ونقلت عبر القراصنة آثارًا ولوحات نادرة ومررتها إلى قوى المجتمع المختلفة، وكانت بعض الأوساط الثقافة والمحسوبين عليها، يتحججون بأن الثقافة ليست ملكية خاصة لمجتمعات معينة، وهي الحجج التي استخدمها الأثرياء لعمل حالة من السيولة الثقافية في الواقع العالمي وشرعنة ملكيتهم لما تقع أيديهم عليه من ممتلكات الشعوب الأخرى.
استخدم هؤلاء الرأسمالية وما تضمنته من مفاهيم اعتبروها نخبوية وبرجوازية لتبرير نهب ثقافات الشعوب، ما فضح زيف الكثير من مثقفي الغرب الذين لم يتحركوا لمواجهة “الاستعمار الثقافي” الذي مرر سرقات كنوز لا تقدر بثمن من شعوب كانت تحت قبضة مستعمرات بلدانهم، وأغلبها نهبت في ظروف مضطربة لهذه البلدان، وأصبحت حتى الآن مملوكة لكبرى المتاحف الكبيرة الغربية دون سند من حق أو منطق.
تشير تحليلات التدفقات الدولية لأسواق الإرث الثقافي غير المشروع أن هناك وضعًا عالميًا تشكل منذ أواخر القرن التاسع عشر، واستغل الاستعمار في جمع التراث الثقافي وخاصة “الآثار” من آسيا وإفريقيا، في تحدٍ غريب للسيادة السياسية والكرامة الثقافية، ودون أي اكتراث بما تمثله هذه التصرفات من تهديد مباشر للهويات التاريخية والاجتماعية لهذه البلدان.
وطوال عقود والآثار تتدفق بكل أنواعها من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، ما جعل حركة الاتجار من المصدر إلى السوق تبدو كأنها عمليات “خصخصة” تتحكم في مصير تاريخ البلدان وتنزعها من ملكية الوصاية الجماعية إلى الملكية الخاصة، ما شرعن تجارة نهب الآثار وبيعها.
التطور الكبير للسوق العالمية للآثار، وضعته الكثير من الحركات القومية على رأس أدلتها لكشف مساوئ التوسع الاستعماري الأوروبي الذي كان ينشط في جمع الممتلكات الثقافية واستثمارها لتغذية إشباع حاجة النخبة الأوروبية للتفرد، التي بدورها استغلت مفاهيم “الرأسمالية” لشرعنة تجارة السلع الثقافية وإعادة صياغتها في سلاسل بيع يملكها كبار الرأسماليين الثقافيين الذين استثمروا أموالهم في تمرير التراث الثقافي للمجتمعات إلى المراكز التجارية الدولية الرئيسية في الولايات المتحدة وأوروبا.
كانت تدفقات القطع التراثية المنهوبة تهبط على أوروبا وأمريكا من جامعي التحف الذين أتقنوا كيفية معرفة الآثار الكلاسيكية وتهريبها من بلدان بآسيا مثل نيبال وتايلاند وكمبوديا والهند وباكستان، أو إفريقيا مثل مصر والسودان وغانا وبلدان جنوب الصحراء.
أشهر الآثار التي عانت من هذا النهب المنظم الآثار المصرية التي ضبطت كثيرًا في قبضة المزادات العلنية، آخرها مزاد نظمته دار كريستي للمزادات بالعاصمة البريطانية لندن العام الماضي لتمثال نادر لأشهر ملوك الفراعنة “توت عنخ آمون” يعود لـ3000 عام.
احتجت مصر بشدة وبذلت العديد من الجهود ولكن بالنهاية تم بيع التمثال بالفعل مقابل 6 ملايين دولار، وهي الصفقة التي اعتبرها زاهي حواس وزير الآثار الأسبق “يوم أسود لعلم الآثار” وخاصة بعدما فشلت كل جهود القاهرة لإعادته.
فشل استرجاع الآثار المهربة لم تكن أزمة مصرية، لكنها طالت العديد من الدول العربية مثل العراق والسودان، والأخير فشل تمامًا ولأعوام متتالية في إعادة مومياء الأميرة ريديس زوجة الإله آمون بحسب الإرث التاريخي الفرعوني المصري والسوداني، الملقبة بسيدة مصر العليا والسفلى، التي يعتقد أنها موجودة بمتحف الفاتيكان في روما، رغم الحملات الرسمية والعلمية وحتى نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي لاسترجاعه.
هذا التمثال الشهير واحد من نحو ستة آلاف قطعة أثرية من الآثار السودانية المسروقة والمهربة خارج البلاد، الموزعة على 43 متحفًا عالميًا في أوروبا وأمريكا بحسب دراسة موثقة أعدتها الباحثة لسودانية غالية جار النبي المسؤولة السابقة عن قطاع المتاحف بهيئة الآثار السودانية.
اليونسكو وحماية التراث الثقافي من عبث القراصنة
في مارس 2017 اعتمد مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار 2347 المتعلق بحماية التراث الثقافي، واعتبرته الجهات الثقافية في العالم انتصارًا غير مسبوق، لا سيما أن الحصول على مثل هذا القرار استغرق نحو قرن ونصف من الزمان، حتى تقتنع البلدان المختلفة بأخلاقية الفكرة وحق الشعوب في الاحتفاظ بتاريخها.
يمكن القول إن النزاعات المسلحة التي اندلعت منذ الثمانينيات في آسيا الوسطى “أفغانستان”، وتطورت بعد ثورات الربيع الربيع العربي، وسيطرة تنظيم داعش ومن هم على شاكلته على أجزاء من الشرق الأوسط وخاصة العراق وسوريا ومالي في غرب إفريقيا، وانعكاسات ذلك على تدمير الجماعات الإرهابية العديد من المواقع التاريخية، وبالتبعية رواج القرصنة والاتجار في القطع الأثرية، ولّد حالة من التضامن النادر بين أطراف المجتمع الدولي.
انتفض العالم لحماية الذاكرة الثقافية للبشرية، وعبر عن ذلك بقرار حماية الثراث الذي اعتمد من مجلس الأمن الدولي وبموجبه اعترف هذا الكيان رفيع المستوى بأن الدفاع عن التراث الثقافي أمر حتمي للأمن الدولي.
هذا القرار التاريخي ليس سهلًا كما يتوقع البعض، وإن كانت التكنولوجيا الحديثة ساهمت في خلق حالة من الأسى على مظاهر تدمير التراث العراقي والسوري من أعضاء داعش، وولدت داخل كل مهتم بالفنون والتاريخ والثقافة حالة من القهر على هذا الاغتيال الجاهل والمتعمد للتاريخ.
لكن ما يؤكد صعوبة الأمر المدى الطويل الذي استغرقته البشرية لتنضج وتفهم ماذا يعني سرقة التراث الثقافي للشعوب، حيث وضعت بذور أفكار حماية الممتلكات الثقافية وخاصة في أوقات الحروب نهاية القرن التاسع عشر من خلال اجتماع لـ15 دولة أوروبية في بروكسل عاصمة بلجيكا في يوليو عام 1874 لدراسة مشروع الاتفاقية الدولية المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب.
رفض إعلان بروكسل آنذك عمليات الاستيلاء أو التدمير المتعمد للآثار التاريخية والأعمال الفنية والعلمية أو اتخاذ إجراءات بشأنها، وخاصة في أوقات الحروب، ولكن لم تلتزم أغلب البلدان الموقعة بما أقر، ليضطر القيصر الروسي نيكولاس الثاني للحديث عن القضية خلال المؤتمر الدولي للسلام الذي عقد في هولاندا بعد نحو ربع قرن من الاتفاقية الأولى، وتحديدًا عام 1899 وتحدث عن ضرورة تحديد قوانين وأعراف الحروب ومنها التأثير الثقافي على البلدان المتضررة.
وافق المؤتمر على مبدأ حصانة الممتلكات الثقافية وحث الجميع على اتخاذ جميع الخطوات اللازمة لتجنيب المباني المخصصة للدين أو الفن أو العلم أو الأغراض الخيرية أو المعالم التاريخية والمستشفيات قدر الإمكان ويلات الحروب، لكن لم تتطور الاستجابة البشرية لذلك، فطرحت مبادرة أمريكية عام 1935 تحت اسم معاهدة حماية المؤسسات الفنية والعلمية، التي اعتبرت أن الملكية الثقافية كنوز للشعوب يجب أن تحترم وتحمى في وقت الحرب.
منذ عام 1960 وحتى بداية الثمانينيات بذلت اليونسكو جهودًا كبيرةً للحفاظ على التراث الثقافي العالمي، تخوفًا من التدمير الذي تعرضت له البلدان خلال الحرب العالمية الثانية، وطال التراث الثقافي للبشرية جمعاء.
الجهود الدولية، قادت المحكمة الجنائية الدولية للحكم على ميودراغ جوكيتش آخر قائد للبحرية اليوغسلافية، بالسجن 7 سنوات عام 2004 بعدة تهم منها التدمير والهجمات غير القانونية على أهداف مدنية وتدمير أو الإضرار المتعمد بالمؤسسات التاريخية خلال حصاره لمدينة دوبروفنيك الكرواتية عام 1991.
كانت هذه أول إدانة على الإطلاق للتدمير المتعمد للتراث الثقافي للمدينة البائسة التي أطلق عليها مئات قذائف الهاون وخاصة البلدة القديمة في دوبروفنيك التي أُدرجت في نفس العام على قائمة التراث العالمي المعرض للاندثار.
نفس التهم أيضًا قادت المالي الجهادي أحمد فقي المهدي إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2016 بتهم تتعلق بتدميره عشرة مواقع دينية في مدينة تمبكتو عام 2012 التي حاصرها وهو وأتباعه من جماعة أنصار الدين التي كانت تنتمي إلى تنظيم القاعدة، وحكم عليه بالسجن تسع سنوات، وكان هذا حكمًا تاريخيًا، لأنه اعتبر ما حدث من تدمير للمواقع التاريخية في المدنية بمثابة جريمة حرب.
لكن القرار الذي مهد لإنهاء هذه المهزلة التاريخية، ما حدث في مدينة تدمر السورية التي دمرها تنظيم داعش في أغسطس 2015، وشهدت نقطة تحول في الضمير العالمي، ليأخذ موقفًا جادًا لحماية التراث الثقافي، ويتحرك في ضوء جهود اليونسكو لاستصدار قرار من مجلس الأمن بدعم من 50 دولة حول العالم لحظر التجارة في الممتلكات الثقافية القادمة من العراق وسوريا.
هذا التضارب يؤكد ضرورة السعي لإيجاد إجماع دولي قوي حاسم دون المزيد من الثغرات والجدل، على أن الشعوب الأصلية هم أصحاب تراثهم الفكري والثقافي
تحدي القرصنة لمنظومة الأمم المتحدة
رغم تحرك الجهات الدولية وسن القوانين بشكل مستمر التي تراعي حقوق ومصالح الشعوب وخاصة في مجالات الحماية الثقافية لعدم السماح للقراصنة بانتهاك الإرث الثقافي للبلدان المختلفة، يتم التحايل عليها من المؤسسات الخاصة مثل الجامعات والمتاحف والشركات التجارية.
يحدث ذلك بسبب تضارب الواقع السياسي المعقد في الكثير من البلدان الغربية نفسها وانقسامات السلطة الفيدرالية داخل الولايات وتوحش المنهج الرأسمالي في تسليع كل شيء، الأمر الذي تستغله الشركات العالمية والمؤسسات الخاصة، خاصة في وجود فجوات حقيقية بين النظريات والقوانين وتطبيقاتها على أرض الواقع.
يفتقد القانون الداخلي لكل دولة أوروبية، إلى آليات الإنفاذ اللازمة للتعامل مع حقائق الأرض، وتبرر هذه الدول الثغرات التي ينفذ منها القراصنة للاستيلاء على الإرث الثقافي للبلدان الأخرى، بالتغير المستمر لأسس وقناعات النظام العالمي بسبب سياسات الاستعمار الجديد الذي يتمثل في الجهات الفاعلة الناشئة غير الحكومية التي توجه سياسات القرن الحادي والعشرين وتتحكم في تشكيل القوانين وإعادة تعريف الأخلاق.
هذا التضارب يؤكد ضرورة السعي لإيجاد إجماع دولي قوي حاسم دون المزيد من الثغرات والجدل، على أن الشعوب الأصلية هم أصحاب تراثهم الفكري والثقافي، بما يفرض عليهم ضرورة الاجتهاد أكثر لتحديد طبيعة حقوق الملكية الفكرية للشعوب الأصلية وتدوينها وخلق “عولمة” جديدة تطارد القراصنة وتوحد أعراف الاحترام لحقوق الشعوب الأصلية في امتلاك تراثها التاريخي والثقافي.