تاريخ العلاقات بين أوروبا والدولة التركية بجذورها العثمانية مليء بالعديد من الأحداث والمواقف التي تفسر بشكل كبير حالة العداء الفجة التي تكنها دول القارة العجوز حيال الأتراك، وهو الموقف المبني على خلفيات تاريخية كان العثمانيون فيها يبسطون أقدامهم على معظم أجزاء أوروبا.
وبينما يمارس الأوروبيون حالة التطاوس بشأن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، فإن عودة للخلف قليلًا تميط اللثام عن لوحات فنية رائعة من الكرم والضيافة قدمتها الدولة العثمانية لسفراء أوروبا في الفترة من القرن الـ15 وحتى الـ19، كانوا فيها في معية السلطان العثماني.
كانت الدولة العثمانية في هذا الوقت ركنًا أساسيًا في السياسة الأوروبية ومكونًا عظيمًا من مكونات الحكم في دول القارة، بل كان قصر السلطان وديوانه قبلة ملوك أوروبا وقادتها، طالبين المشورة وسائلين الدعم ومتوسلين الرضا، فلا قرار إلا بإذن ولا توجه إلا بأمر.
غير أنه وبعدما تعرضت له الإمبراطورية العثمانية من ضعف نتيجة العديد من الأسباب، قوبل هذا الكرم بالغدر، وحسن الضيافة بالخيانة، فتحول سفراء أوروبا إلى جواسيس على الدولة التي أوت ضعفهم وتحملت إقامتهم وقدمت لهم الحياة على طبق من ذهب في وقت كانت تعاني أوروبا من مغبة العوز والخضوع والاستسلام.
دبلوماسية الأقوياء
في منتصف القرن الخامس عشر وبالتحديد حين فتح العثمانيون القسطنطينية عام 1453، ترسخت أقدامهم في أوروبا بشكل كبير لا سيما بعدما دانت لهم أملاك بيزنطة والصرب ومناطق شاسعة في البلقان، وباتوا رقمًا صعبًا على خريطة العالم التوسعية في هذا التوقيت.
نظرة أوروبا للدولة العثمانية حينها كانت مفعمة بالاحترام والتقدير، بل كان ملوك القارة العجوز يخطبون ود السلطان العثماني للحفاظ على مصالح بلدانهم الاقتصادية والسياسية، ومن هنا نشأت الدبلوماسية كإستراتيجية للتواصل بين الطرفين، الطرف الأقوى نفوذًا ويمثله السلطان والطرف الآخر الساعي لكسب دعم وتأييد واحتضان الطرف الأول وهي حكومات أوروبا.
الدبلوماسية القوية.. أرسى العثمانيون هذا المفهوم الجديد في مسار علاقاتهم بدول أوروبا، وهو ما وثقته لغة الخطابات الرسمية من السلطان إلى ملوك القارة، حيث كانت تنتشي عظمة ومكانة كبيرة، فلم تعترف تلك المراسلات بالمساواة لأي من ملوك أوروبا إلا ملك فرنسا، فرانسوا الأول، وهو الذي عقد معاهدة تحالف مع السلطان سليمان القانوني، ولذا تمتع بهذه المكانة الكبيرة.
أما بقية حكام أوروبا فحاولوا جاهدين الحصول على لقب الملك في مراسلات العثمانيين لهم، ومنهم الإمبراطور الروماني المقدس كارلوس الخامس (1500-1556) الذي سعى لمنافسة عظمة العثمانيين، إلا أنهم لم يعترفوا له بذلك، حتى بعد وفاته، حيث أطلق القانوني على ورثة منصب الإمبراطور اسم ملك فيينا.
روسيا كذلك كانت ضمن طابور الساعين لخطب ود العثمانيين، فلطالما تقدمت بمناشدة للسلطان بمنح لقب باديشاه (أعظم ألقاب السلطان) إلى قيصر أو قيصرة روسيا في المعاهدات والمخاطبات السياسية، ولما لم تحصل على الموافقة، عاودت المطالبة به أكثر من مرة بعد ذلك.
هذه الرؤية المملوءة بالعظمة في التعامل مع ملوك أوروبا انعكست على الاتجاه العام لدى السلطان العثماني في تقييمه لمفهوم “السفارة والسفراء” حيث كان يعتبر السلطان أن إرسال سفراء عنه لدول أوروبا علامة على الخضوع، لذا لم يرسل أي سفير معتمد في أي بلد آخر، بل اكتفى بإرسال المبعوثين حاملي الرسائل فقط، ولم يتم إنشاء أي سفارات عثمانية إلا عام 1793 حين افتتحت الإمبراطورية سفارة لها في لندن ثم بعد ذلك في باريس وفيينا وبرلين.
السفراء.. ضيوف السلطان
في الجهة الأخرى كانت الدولة العثمانية تستقبل سفراء دول أوروبا في هذا التوقيت، وكانوا ينزلون بمثابة ضيوف السلطان، يتحمل نفقة إقامتهم ومعيشتهم بالكامل، إلى الحد الذي كان يتسارع فيه السفراء إلى العمل لدى الإمبراطورية العثمانية لما يحظاه هناك من منح وعطايا.
“إِنَّ قَصرنَا عالي النوافذ، مفتوح دائمًا، بلا حُجُب أمام الصديق والعدو على حدّ سواء”، بهذه العبارة وثق السلطان مراد الثالث (1546 – 1595) خلال رسالة بعث بها إلى الملكة إليزابيث الأولى (1533 – 1603) ملكة إنجلترا وأيرلندا عام 1579 ملامح الكرم والجود الذي كان ينتشي به قصر السلطان.
وفي الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية العثمانية تمتد من وسط أوروبا إلى قلب إفريقيا مرورًا بالشرق الأوسط، ومنه إلى الهند ثم التحول أقصى الغرق إلى المغرب وبلاد ما بين النهرين، تحولت القسطنطينية إلى قبلة لسفراء العالم من لندن وباريس وستوكهولم وسمرقند وغوا (في الهند) وفارس ومن فيينا ووارسو وموسكو وأصفهان.
كان تعامل السلطان مع سفراء أوروبا أكبر من مجرد التعامل مع سياسيين أجانب، بل كان يسمح لهم بالقيام بأدوار أكبر وأكثر أهمية في الحياة اليومية للإمبراطورية، فقد كانوا يتقاضون تكاليف معيشتهم اليومية ويدعون إلى الحفلات، كما كان يرافق بعضهم السلطان في حملاته العسكرية.
الهيبة الكبيرة للدولة العثمانية في هذا الوقت دفعت السلطان لأن يغلظ عقوبته بحق السفراء ممن يثبت خيانتهم له أو التعاون مع أعداء الإمبراطورية، فقد يجد سفير الدولة نفسه سجينًا في قلعة الأبراج السبع حال صدور أي قرار من شأنه أن يضر بالدولة، وقد حدث ذلك مع سفراء بعض الدول منهم سفراء الإمبراطورية الرومانية المقدسة في الأعوام 1541 و1596 و1716، والسفراء الفرنسيون في الأعوام 1616 و1659 و1660 و1798، والسفراء البنادقة في العامين 1649 و1714، والروس في العامين 1768 و1787.
في حضرة السلطان
مثول السفير بين يدي السلطان كان مرتبة الشرف العظمى التي ينالها أي مبعوث رسمي لدى وصوله القسطنطينية، حيث تشهد طقوس الاستقبال مراسم أسطورية، يركب فيها السفير على خيول السلطان ثم يدخل وسط حاشية كبيرة إلى فناء القصر ويتناول طعام العشاء مع الصدر الأعظم.
وكان يُقيم السفير ومكانته لدى السلطان من خلال عدد القفاطين التي كان يرتديها، وهي التي تشبه أوسمة الفروسية عند البريطانيين، فكان المارة والمقربون يحكمون على مقام السفير في القسطنطينية بعدد ونوعية القفاطين التي يحصلون عليها عندما يدخلون القصر الإمبراطوري لتقديم احتراماتهم.
ومن المشاهد التي وثقت هذه الطقوس في القرن السابع عشر حصول السفير الفرنسي على 24 قفطانًا، لذا كان يتمتع بمكانة كبيرة لدى السلطان، يليه السفير البريطاني الذي حصل على 16 قفطانًا، وكل من الهولندي والبندقي على 12 قفطانًا لكل واحد منهما، كانوا يرتدون القفاطين فوق الملابس الأوروبية عند لقاء السلطان علامةً على احترامه.
ومن الطقوس التي حرص عليها السلطان أنه كان يحدد مواعيد مقابلة السفراء في اليوم الذي يدفع فيه رواتب الجنود، حيث يصطفون في طوابير منتظمة وبصورة تبعث الهيبة وتلقي بالرعب في نفوس السفراء، وهو ما تم نقله فيما بعد لحكومات أوروبا بعد ذلك.
الكرم العثماني لسفراء أوروبا لم يتوقف عند تحمل نفقة المعيشة للسفير وأسرته وفقط، بل كان السلطان يمنح الدول ذاتها بعض الامتيازات والعطايا، التي تضمنت مزايا تجارية ودينية وقضائية وسياسية، لكن مقابلة الكرم بالخيانة والأمان بالغدر كان الجزاء، حيث استخدم السفراء والقناصل هذه المنح في الإضرار بالسلطنة فيما بعد.
لوحة السفراء
خريطة النفوذ العالمي في القرن السادس عشر دفعت بعض الفنانيين إلى توثيق هذه المرحلة عبر عدد من الأعمال الفنية، من بينها “لوحة السفراء” التي رسمها الرسام الألماني هانز هولباين الأصغر (1497-1543) عام 1533 للميلاد، حيث شهدت تلك الفترة زخمًا كبيرًا من الأحداث الجسام.
اللوحة وعبر مفرداتها الفنية الضمنية سلطت الضوء على المنعرجات الحاسمة بين القوى العالمية آنذاك وزعمائها الكبار على رأسهم سليمان القانوني وسليم الأول وكارلوس الخامس وليوناردو دافنشي وبيري ريس ووالأخوان بربروسا وكولومبوس وماجلان وكورتيز ماكيافيللي وفيليب الثاني.
الرسام الألماني هولباين الأصغر يصور في لوحته رجلين فرنسيين واقفين، في العشرينيات من العمر، وهما جان دو دنتيفيه السفير الفرنسي إلى إنجلترا، وإلى يمينه جورج دوسلف وهو دبلوماسي فرنسي آخر، وبينهما بعض مراكز القوى التي أثرت في الخريطة العالمية في هذا الوقت وفي مقدمتها الدولة العثمانية وكيف قاد سفراء أوروبا لديها في إحداث تغيرات كبيرة في مسار الأحداث وقتها.
وكانت الدولة العثمانية في وقت رسم اللوحة تبسط نفوذها على كل من البلقات والمجر وبعض العواصم الأوروبية، غير أن الهزائم المتتالية التي تعرض لها ملك فرنسا آنذاك، فرانسيس الأول، على يد ملك الهابسبورغ، كارلوس الخامس، دفعته إلى الاستنجاد بالسلطان العثماني سلميان القانوني رغم أنه كان من المستهجن حينها أن يتحالف نصراني مع مسلم، لكن الميكافيللية الأوروبية انتصرت في النهاية حفاظًا على هيبة ملوك القارة.
كان سفراء أوروبا لدى السلطان العثماني هم حلقة الوصل، وفي ظل ما كانوا يتمتعوا به من مكانة لدى السلطان نجحوا في إبرام اتفاق معه لعقد تحالف عثماني فرنسي، جرت على إثره معارك ضارية في البحر المتوسط وشمال إفريقيا، ونجح الجيش الفرنسي بدعم جيش العثمانيين في محو عار الهزيمة على أيدي الهابسبورغ.
الخيانة جزاء الكرم
لم يحفظ سفراء أوروبا صنيع العثمانيين بهم، ولم يقابلوا الكرم إلا بالغدر والأمان إلا بالخيانة، حيث استغلوا المنح والمكانة التي منحها لهم السلطان لإفساد العلاقة بينه وبين الرعية، بل تجاوزا ذلك إلى إضعاف الإمبراطورية وإحداث الوقيعة بين طوائف الشعب عبر تأليب الأقليات.
وتحولت السفارات الأوروبية في القسطنطينية إلى أوكار للتجسس ومقرات للتآمر على السلطان ونظام حكمه، فكانوا يتجسسون لصالح حكومات بلدانهم وينقلون كل أخبار وأسرار البلاد إلى حكام أوروبا، حتى أطلقوا على الشارع الذي كان مقرًا للسفارات الأوروبية في العاصمة اسم “عش الدبابير”.
تدخل السفراء في تفاصيل العلاقة بين الأقليات غير المسلمة والنظام، وساهموا في تشويهها بصورة كبيرة، كما حرضوهم على التمرد، عبر دعمهم بالسلاح والمال، في محاولة لخلخلة السلطنة من الداخل بعدما فشلوا في مواجهتها بشكل مباشر وبالطرق العسكرية المعروفة.
وفي السياق ذاته بذلوا جهودهم المكثفة لضرب الاقتصاد العثماني من خلال ربطه بالسوق العالمية، حيث جندوا رجالات لهم للعبث في مقومات الاقتصاد، ما أدى في نهاية الأمر إلى زلزلة أركانه بصورة تعززت أكثر مع الغزو الفكري الذي تعرض له مواطنو السلطنة.
كل هذا أدى في نهاية الأمر إلى إضعاف الإمبراطورية التي احتضنت سفراء أوروبا ووضعتهم في مكانة مرموقة ليردوا هذا الجميل بالغدر والخيانة، وهي الصفحات التي لا تمحوها محاولات التصدير المتواصل للصورة المشرقة عن أوروبا وحضارتها المزعومة، التي تجيب بشكل أو بآخر عن جانب أو أكثر من التساؤلات المتعلقة بخلفيات كراهية أوروبا للعثمانيين.