لوقتٍ طويل، وبمساحة جغرافية غير صغيرة، بين مصر وليبيا، وربما بعض الدول العربية، انتشر خبرٌ عسكري، يتحدث عن فقدان دولة تركيا معدات بحرية قبالة السواحل الليبية، وبالأخص غواصتين مأهولتين، مما سبب جدلًا كبيرًا في أوساط العالم الافتراضي، لذلك نحاول في هذا التقرير أن نبحث معًا عن مصدر هذا الخبر ومدى دقته.
بداية القصة
في الـ8 من يونيو/حزيران الحاليّ، أي منذ نحو ثلاثة أسابيع، نشر حساب مهتم بالشؤون العسكرية، وبالتحديد في مجال الاستخبارات البشرية، وهو حقل يُعنى بالبحث عن المعلومات الحساسة داخل المساحات غير التقليدية والمصادر المفتوحة، وبمعاونة كوادر مدنية، يعود لشخص يدعى “إدوارد”، يدون على موقع “تويتر” الذي بات بيئةً خصبةً لهذا النوع من المعلومات، من موقع جغرافي قريب من جزر الباهاما، خبرًا عن تعرض غواصتين تركيتين للتشويش قبالة السواحل الليبية.
حتى توقيت نشر التغريدة، كان الخبر عاديًا، إذ يعج المجال الحيوي الليبي بطبيعة الحال بعدد كبير من القوى الدولية والإقليمية التي تصعد ضد خصومها، بأفضل الأدوات العسكرية، ضمن إستراتيجية أوسع تضمن ألا يتحول التصعيد الرمزي المستمر إلى حربٍ مادية مدمرة.
لكن، في وقتٍ متأخر، تحولت هذه التغريدة إلى قصة أخرى أوسع، وبات التشويش الذي لم يؤكده أحدٌ قط، إغراقًا لغواصات تركية ومادةً للتندر من الأداء العسكري لأنقرة في ليبيا، عبر عدد من “الأوسمة” على موقعي “تويتر” و”فيسبوك”، وبخاصة بين فئة معينة من المستخدمين المصريين.
وقد تلقفت عددٌ من المواقع المقربة من النظام المصري أو المملوكة لأجهزته السيادية مثل “اليوم السابع” هذا الخيط الشعبي المطروح على مواقع التواصل الاجتماعي، لتغزل منه قصةً صحفية عن إخفاقات أنقرة العسكرية في ليبيا، وتجاوزاتها للشرعية الدولية، بناءً على هذه المتوالية التي بدأت من جزر الباهاما.
تضطر الغواصات إلى الاقتراب من سطح البحر وإخراج هوائياتها، للاتصال مع القطع العسكرية الصديقة، جوًا وبحرًا
حقيقة التشويش
كما ذكرنا، فإن جهةً ذات صفة رسمية متعلقة بالمشهد الليبي لم تؤكد حدوث التشويش، لكن عددًا من المحللين العسكريين، بعضهم ينتمي، للمفارقة، إلى المعسكر المصري (بوابة الدفاع المصرية/ منصة غير رسمية) في ليبيا، الذي يضم – بالتبعية – كلًا من الإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا، أكدوا أن تعرض الغواصات، تحديدًا، للتشويش حدث معتاد في البيئات الأمنية المضطربة.
ويرجع هذا في الأساس إلى صعوبة تداول البيانات اللاسلكية، من وإلى الغواصات التي تعمل بالأساس في أغوار بعيدة تحت سطح المياه، إذ تحد الاتصالات على موجات منخفضة التردد، تحت الماء، من إمكانية التواصل، كمًا ونوعًا، فتكون الرسائل بطيئة من حيث السرعة، وعلى نمط الترددات النصية، باتجاه واحد (الاستقبال أو الإرسال)، مع حد أقصى للاختراق يقدر بـ20 مترًا.
لذلك، تضطر الغواصات إلى الاقتراب من سطح البحر وإخراج هوائياتها، للاتصال مع القطع العسكرية الصديقة، جوًا وبحرًا، على موجات مرتفعة أو فائقة التردد، مما قد يجعلها عرضةً للتشويش من قطع عسكرية شبيهة لدى الأطراف المعادية.
ويمكن حدوث هذا، مع الإقرار بقدرة الغواصات، من الناحية الفنية، على الاتصال العسكري الآمن، من خلال وسائل بديلة مثل “البيرسكوبات” و”الطافيات” الموصلة بكابلات من الألياف الضوئية طويلة المدى، مع السونارات والموجات الصوتية والليزر الأزرق، بالإضافة إلى عدد من الطرق التي اعتمدتها “أكواد” الاتصال تحت الماء الخاصة بحلف الناتو، التي تعد تركيا نفسها أحد أبرز أعضائه.
ليبيا في حد ذاتها باتت بيئة خصبة للشائعات المتداولة بين طرفي الصراع، وخاصة فريق حفتر الذي صار يستمرئ هذا الأسلوب
جدل الشائعات
أدت هذه الحادثة تحديدًا إلى انقسامٍ واضح في صفوف التيار الشعبي المؤيد للنظام السياسي المصري، فبينما رأى فريق اليمين القومي الجديد، أن ترويج “الشائعات” عن هزائم تركيا العسكرية في ليبيا جائزٌ من الناحية الأخلاقية، باعتبار أن جماعة الإخوان المسلمين تستخدم نفس هذا السلاح ضد النظام المصري (على حد قولهم) ومشروع سياسيًا في إطار الحرب النفسية على تركيا التي يكيل السيسي لها الاتهامات من بين الحين والآخر، رأى تيار آخر مؤيد للدولة، ولكن أقل تطرفًا، أن ينأى بنفسه عن ترويج هذه الأخبار غير الصحيحة، حتى لو تعرض للهجوم من الفريق المتطرف واتهامات بعدم الوطنية وعدم الصلابة في مواجهة خصوم البلاد، بسبب اعتقاده بعدم جدوى هذه الأساليب وعدم جوازها أخلاقيًا.
وفي خضم هذا التراشق، أخبرنا أحمد سعدون، مدون عسكري ومدير منصة “قوات المظلات” غير الرسمية ومراقب للوضع في ليبيا، أنه، من ناحية فنية بحتة: “يصعب تصور غرق غواصة حديثة، وفقدان طاقمها الذي يتألف من عشرات الأفراد، نتيجة حدوث تشويش عابر، دون أن يعلم المراقبون، فضلًا عن أن تفقد إحدى البحريات غواصتين دفعة واحدة”.
وبحديثه مع “نون بوست”، قال سعدون: “ليبيا في حد ذاتها باتت بيئة خصبة للشائعات المتداولة بين طرفي الصراع، وخاصة فريق حفتر الذي صار يستمرئ هذا الأسلوب، إلى درجة ترويجه شائعة عن إسقاط درون تركية، بعد قيامه باستهداف مسيرة صينية تابعة لهم من طراز “وينج لونج” عن طريق الخطأ، خلال المعارك السابقة لوقف إطلاق النار الأخير”.
وبحسب ما رصده سعدون “فقد تزايدت وتيرة إنتاج الشائعات العسكرية عن تركيا، بعد نجاح الأخيرة في ترجيح كفة حكومة السراج منذ دخولها الفعلي في المشهد، نهاية العام الماضي، حتى إن أبرز هذه الأخبار مؤخرًا، كانت عن فقدان أنقرة قطعة بحرية تسمى مراد بك، وطائرتي شحن عسكري، وكلها أخبار غير صحيحة”.
ورغم تداول هذه الأخبار بكثافة داخل الأوساط المحلية، فإنه يرى أن “هذه الأخبار تفقد خصوم حكومة الوفاق في ليبيا كثيرًا من مصداقيتهم، ولا تؤتي أكلها في التأثير السلبي على الأتراك، لأنهم، وإن كانوا على اتصال مع الإعلام العربي على المستوى الرسمي، فإن عموم الشعب لا يتابعه، والعسكريون منهم قادرون على تمييز هذه الأخبار وفحصها”.
البحرية التركية خاضت مناورتين بحريتين عقب حادثة التشويش غير المؤكدة، إحداهما مع البحرية الإيطالية بمشاركة سلاح الغواصات
مستقبل البحرية التركية
تمتلك تركيا واحدة من أقوى البحريات في منطقة المتوسط، إذا لم تكن الأقوى، بقوام رئيسي يتكون من 16 فرقاطة و10 كورفيتات و14 غواصة، كما تخطط لتعزيز هذا الأسطول بعشرات القطع الجديدة، وعلى رأسها 6 غواصات ألمانية الصنع من طراز “Type -214” الأحدث في العالم، وحاملة الطائرات المحلية “الأناضول”.
وبحسب ما أكده لنا سعدون، فإن البحرية التركية خاضت مناورتين بحريتين عقب حادثة التشويش غير المؤكدة، إحداهما مع البحرية الإيطالية بمشاركة سلاح الغواصات، والثانية بشكل منفرد، وهي الأضخم، في الـ11 من يونيو، بمشاركة 17 طائرة متنوعة من طائرات الشحن والتزود بالوقود جوًا والحرب الإلكترونية والمقاتلات، بالإضافة إلى القطع البحرية، لمدة 8 ساعات متواصلة، بغرض محاكاة عمل جسر جوي وبحري، من تركيا إلى مصراتة.
ويتوقع مراقبون عسكريون أن يوسع سلاح الغواصات التركية من نشاطاته خلال الفترة القادمة، ليجمع بين العمل في منطقة شرق المتوسط الإستراتيجية ومضيق البوسفور، لقطع الطرق على الغواصات الروسية التي تتذرع مؤخرًا ببعض بنود معاهدة “مونترو” الموقعة مع تركيا، للعبور من المضيق في طريقها من البحر الأسود إلى البحر المتوسط، خلال رحلاتها نحو القواعد البحرية السورية.