تؤثر القرصنة بشكل مذهل على الاقتصاد، بما يفوق بمراحل نتائج الحروب والنزاعات الدولية المدمرة، ويمكن قياس ذلك من تأثر بصماتها خلال السنوات الماضية، بسبب تسلل المنتجات المقلدة والمقرصنة وسرقة الملكية الفكرية، ما خلق استنزافًا هائلاً للاقتصاد العالمي.
وتزاحم مليارات القراصنة، المليارات التي تضخ في النشاط الاقتصادي المشروع، ولهذا تسمى الأموال والأرباح الناتجة عن أعمال مقرصنة بالاقتصاد السري، الذي يحرم الحكومات من الإيرادات ويخلق بالتبعية أعباءً أعلى على دافعي الضرائب، فضلًا عن وقف مئات الآلاف من الوظائف المشروعة، نهاية بتعريض حياة المستهلكين للخطر.
التزييف والقرصنة
منذ عام 2011 وتقارير التأثير العالمي من جراء التقليد والقرصنة تكشف حجم استنزاف النمو بمعدل مذهل على الرغم من الجهود المتزايدة للقطاع الخاص والحكومات والمنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية.
تبتلع عمليات التزييف والقرصنة في القطاعات المختلفة بجميع بلدان العالم، مليارات الدولارات على مستوى العالم من قيمة التجارة الدولية والمحلية في السلع المقلدة والمقرصنة التي قدرت عام 2013 بأرقام فلكية بلغت من 710 إلى 917 مليار دولار بالإضافة إلى ذلك وبلغت القيمة العالمية للقرصنة الرقمية في الأفلام والموسيقى والبرمجيات في نفس العام نحو 213 مليار دولار.
بأرقام العام الماضي 2019، ووفقًا لأحدث تقرير عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومكتب الملكية الفكرية التابع للاتحاد الأوروبي، ارتفعت التجارة في السلع المقلدة والمقرصنة بشكل مطرد، والغريب أنها لم تتأثر بركود الاقتصاد الدولي، بل وصلت أرباحها إلى 3.3% من حجم التجارة العالمية.
تقارير منظمة التعاون الاقتصادي تتوافق مع تقارير صادرة عن غرفة التجارة الأمريكية، التي كشفت أن القرصنة عبر الإنترنت تكلف الاقتصاد الأمريكي وحده ما يقرب من 30 مليار دولار سنويًا، ولفتت إلى أن مشاهدة مقاطع الفيديو المقرصنة بلغت أكثر من 200 مليار مشاهدة.
كشف التقرير أن البرامج التليفزيونية المقرصنة هي الأعلى طلبًا، وتحقق أكثر من 230 مليار مشاهدة كل عام في جميع أنحاء العالم، وهذه الأرقام جعلت العديد من المسلسلات والبرامج العالمية الشهيرة تحاول التصدي بنفسها لهجمات القرصنة، ونجح بالفعل مسلسل مثل Game of Thrones في بذل جهود كبيرة للحد من القرصنة لتأمين مكاسبه.
لكن رغم جهود البرنامج، فإن المعركة مع القراصنة في هذه المجالات أصعب مما يتخيلها أحد، خاصة أن المستهلك في أغلب دول العالم يقبل على الخدمة المقرصنة نكاية في رفع أسعار الاشتراكات عليه، لا سيما أن هناك العديد من الوسائل للهروب من المساءلة القانونية.
يمرر القراصنة بسهولة أكواد تستطيع التغلب على أنظمة حظر الاشتراك غير المدفوع، وتساهم صعود المنصات الرقمية في كسر كل معاني الملكية الفكرية، ولهذا لم يكن غريبًا خروج آخر الإحصاءات المختصة بصناعة الأفلام العالمية لتؤكد وجود نحو 26.6 مليار مشاهدة غير قانونية للأفلام المنتجة في الولايات المتحدة وحدها.
في الاتحاد الأوروبي الأزمة واضحة للغاية، حيث تخسر بلدانه نحو 60 مليار يورو سنويًا بسبب القرصنة في 13 قطاعًا اقتصاديًا رئيسيًا، وفقًا لتقييم دراسة جديدة أجراها الاتحاد الأوروبي.
وتحدد دراسات مكتب الاتحاد الأوروبي للملكية الفكرية، الضرر الناجم عن التجارة في التزييف بالاتحاد الأوروبي، وتكشف أنه يطال كل شيء تقريبًا، لا سيما مستحضرات التجميل والملابس والسلع الرياضية والألعاب والمجوهرات وكذلك المشروبات الروحية والنبيذ أو الأدوية أو الهواتف الذكية.
المشكلة الكبرى التي تواجه المُشرع والتنفيذي في الوقت نفسه صعوبة إثبات الأرقام التي تتحدث عنها الدراسات المختلفة، أو تتبع مصدر البيانات وربط ذلك بالانخفاض الملحوظ في الإيرادات العالمية من الصناعات المختلفة
وفقًا لنتائج الاتحاد، تكلف قرصنة المنتجات والعلامات التجارية هذه الصناعات على أراضيها نحو 60 مليار يورو أو 7.5% من حجم مبيعاتها سنويًا، ما يدمر لها سنويًا نحو نصف مليون وظيفة.
يتنوع القراصنة في السطو على نماذج الأعمال التجارية، ولم تعد مكاسبهم منحصرة في السلع باهظة الثمن، ولكن طالت أيديهم بشكل متزايد المنتجات اليومية الرخيصة مثل المنظفات والشامبو بالإضافة إلى ذلك بجانب نسخ المكونات المختلفة وقطع الغيار المربحة بدلًا من المنتجات بأكملها.
وعلى عكس ما كان يشاع في العالم خلال العقود الماضية أن الصين أكثر البلدان انتهاكًا للعلامات التجارية، الآن أصبحت المعادلة مختلفة، حيث تتزايد المنتجات المقلدة التي يتم تصنيعها أو الانتهاء منها بشكل متزايد في الاتحاد الأوروبي، وتفضح سجلات الجمارك شحنات البضائع المشبوهة التي تمرر بين بلدانه.
وتزدهر يوم بعد الآخر، مبيعات التقليد غير القانوني، خاصة على منصات التداول عبر الإنترنت وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح لدول الاتحاد بصمة خاصة في انتشار تكنولوجيات التصنيع الجديدة التي تبسط وتقلل الإنتاج للمزورين، وكذلك تتفنن في إيجاد قنوات نقل بعيدة عن الرقابة الحكومية.
تكمن المشكلة الكبرى في المشاعر المعادية للعلامة التجارية على نطاق عالمي، مما يعزز الاعتقاد بأن الشركات الكبيرة فقط تستفيد من العلامات التجارية
صعوبة تشريع القوانين ضد القرصنة
تحاول العديد من البرلمانات الدولية وعلى رأسها الكونغرس الأمريكي إدراك اللحظة الفارقة، وتسارع بعمل مشاريع قوانين مختلفة مثل SOPA وعدد آخر لا يحصى من القوانين في محاولة لوضع حد للتأثيرات الاقتصادية من جراء القرصنة.
المشكلة الكبرى التي تواجه المُشرع والتنفيذي في الوقت نفسه صعوبة إثبات الأرقام التي تتحدث عنها الدراسات المختلفة أو تتبع مصدر البيانات وربط ذلك بالانخفاض الملحوظ في الإيرادات العالمية من الصناعات المختلفة.
خطورة القرصنة على الوظائف
ترصد المؤسسات المعنية التأثيرات الكبيرة على سوق العمل، لا سيما أن القرصنة تزيح النشاط الاقتصادي المشروع عن طريق التزييف، وتقدر صافي خسائر الوظائف في عام على الصعيد العالمي بين 2 و2.6 مليون وظيفة، وهناك توقعات بصعود مضاعف لخسائر الوظائف من 4.2 إلى 5.4 مليون بحلول عام 2022 بحسب الرئيس التنفيذي لـالاتحاد الدولي للعلامات التجارية (INTA) إتيان سانز دي آسيدو.
ويجمع اتحاد INTA أكثر من 7 آلاف منظمة عالمية بدءًا من الشركات المتعددة الجنسيات الكبيرة والشركات المتوسطة والصغيرة، مرورًا بالجامعات والمراكز البحثية المعتبرة، ولهذا يتوقع الاتحاد زيادة المنتجات المزيفة داخل التجارة العالمية خلال عام 2022 إلى نحو 5% من إجمالي الدخل العالمي، ما سيؤثر بالطبع على جميع قطاعات الأعمال في أنحاء العالم كافة.
يكشف الرئيس التنفيذي لشركة INTA أن التزييف والقرصنة جرائم لا تضر الشركات فحسب، بل تؤثر أيضًا على المستهلكين، حيث تسمح العلامات التجارية بتحديد أصل المنتجات، وهو ما لا يتوافر في العلامات المقلدة، وبالتالي يخسر الاقتصاد سواء من خلال القضاء على الوظائف التي تم إثباتها بالأرقام، ويخسر المستهلك هو الآخر.
تكمن المشكلة الكبرى في المشاعر المعادية للعلامة التجارية على نطاق عالمي، مما يعزز الاعتقاد بأن الشركات الكبيرة فقط تستفيد من العلامات التجارية، وهذه الأفكار والقناعات تتناغم مع صعود “الشعبوية”، التي لا تدرك ماذا تعني العلامات التجارية سواء للشركات الكبيرة أم الصغيرة والمتوسطة، ولا تعرف تأثيرها على سوق الوظائف.
يجادل “سان دو دي” في ضرورة خوض قتال شرس من أجل تمكين العلامات التجارية بما يفيد الجميع، خاصة أنها “تساهم” في التنمية الاقتصادية للبلدان، من خلال خلق فرص العمل وزيادة الأرباح التي تحصل عليها الشركات.
يقترح رئيس الاتحاد ضرورة إيجاد تشريعات قوية تستأصل هذه المشكلة العالمية، فضلًا عن تدريب متخصصين على كشف الزيف والقرصنة، وتحديد قضاة متخصصين لقطع دابر هذه الأنشطة، وخاصة القرصنة الرقمية التي تحتل نصيب الأسد وتتسبب في فقدان ما يصل إلى 1.2 مليون وظيفة وفقًا لدراسة قدمت في بروكسل من نقابات وممثلين عن الصناعات الإبداعية.
وتتوقع الدراسة خسارة مضاعفة لهذا العدد إذا لم تتغير قوانين الحماية الفكرية حتى تصبح أكثر مرونة بحيث تلعب على أخطاء القراصنة وتغلق لهم الثغرات التي ينفذون منها.
التعاون العالمي بين الصناعات والحكومات لتوعية المستهلكين بمخاطر القرصنة، إلى جانب التوسع في الخيارات القانونية للتعامل مع حالات التعدي، والتوعية بضرورة الحد من هذه الآثار السلبية، لا يتضارب أو يتناقض مع أهمية الاستمرار في العمل بطريقة إبداعية وبناءة لتمكين الحالمين والمبتكرين والمبدعين في جميع أنحاء العالم، ولكن بآليات قانونية وأخلاقية ومشروعة.