شهدت خريطة اهتمامات المصريين تحولات جذرية خلال الآونة الأخيرة بفضل المستجدات الداخلية والإقليمية والدولية التي كان لها تأثير كبير في إعادة هيكلة المنظومة الفكرية والمجتمعية برمتها، وهو الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على توجهات الشارع المصري حيال العديد من الملفات.
وقد أظهرت نتائج استطلاع رأي حديث أجرته جهة مستقلة ونشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى انكفاء الشعب المصري تجاه قضاياه الداخلية على حساب القضية العربية الأم، القضية الفلسطينية، وهي التي كانت تتصدر لسنوات طويلة قائمة اهتمام المصريين، إعلاميًا وميدانيًا، هذا بخلاف فقدان الثقة الواضح في أداء الحكومة حيال عدد من الملفات الحساسة التي تمس حياة المواطن.
وتعكس نتائج هذا الاستطلاع حجم التغير الكبير الذي شهده العقل المصري خلال السنوات العشرة الأخيرة على وجه التحديد، حيث تعرضت فيها البلاد لموجات متلاطمة من الأحداث التي أعادت تشكيل الهوية المصرية وتموضعها بصورة كبيرة، ورغم ما يزعمه البعض بأن تلك التغيرات مؤقتة كونها مرتبطة بمواقف بعينها إلا أن السياق العام يذهب في اتجاه استمراريتها لفترة ليست بالقصيرة.
يذكر أن استطلاع الرأي هذا أجري في أواخر مايو/أيار وأوائل يونيو/حزيران 2020، على عينة من المصريين تتألف من 1000 مصري، وتضمنت أدوات الاستطلاع مقابلات شخصية، تم اختيارها وفقًا للإجراءات الاحتمالية الجغرافية العشوائية القياسية.
فقدان الثقة في الحكومة
النتائج التي استعرضها ديفيد بولوك، الزميل في معهد واشنطن، والمهتم بدراسة الحراك السياسي في بلدان الشرق الأوسط، في تقريره المنشور، كشفت تراجعًا كبيرًا في معدل ثقة المصريين بحكومتهم، حيث إن 75% من عينة الدراسة تعتبر أن الحكومة “لا تبذل ما يكفي من الجهد” بهدف “تأمين الرعاية الصحية والطبية” في إشارة إلى أداء الحكومة في التعامل مع فيروس كورونا المستجد.
لم يكن التعامل مع الوباء هو ملف الانتقاد الوحيد الذي يأخذه المصريون على حكومة بلادهم، حيث ذهبت النسبة الأكبر منهم إلى أن الحكومة خذلتهم في عدد من المجالات الأخرى، فيعتبر 59% أن حكومة السيسي “لا تبذل ما يكفي من الجهد” في موضوع “الحفاظ على القانون والنظام في أماكننا العامة”.
كذلك 64% يرون فشل النظام في مكافحة التطرف الديني، هذا بخلاف ما يزيد على 68% يعتبرون أن الحكومة لا تبذل الجهد الكافي في موضوع “الاهتمام بالرأي العام بشأن سياساتها” هذا بخلاف تعدد شكاوى الفساد وغياب العدالة وتراجع الظروف المعيشية للغالبية العظمى من الشعب المصري.
وكان فريق كبير من المتابعين قد وجهوا انتقادات حادة لتعامل وزارة الصحة المصرية مع فيروس كورونا، حيث تأخرت القاهرة في الاعتراف بوجود الوباء مقارنة بغيرها من الدول المجاورة، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات الإصابة إلى 66754 حالة حتى الإثنين 29 من يونيو/حزيران، النسبة الأكبر منها في الأشهر القليلة الماضية فقط، فيما توفي 2872 حالة.
فيما ارتفعت معدلات الفقر في البلاد لتصل إلى 32.5% من عدد السكان، بنهاية العام المالي 2018/2017، مقابل 27.8% لعام 2016/2015، وفق ما أعلنه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) وقد أرجعت وزيرة التخطيط المصرية، هالة السعيد، هذا الارتفاع إلى تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي في الفترة ذاتها.
الجزء الأكبر من دوافع تراجع الرغبة في الاحتجاج لدى المصريين يتمثل في الخوف من الاعتقالات والتنكيل، حيث تضج السجون المصرية بالمئات من المعارضين
انخفاض الرغبة في الاحتجاج
رغم ما يعانيه المصريون من فشل السياسات الحكومية المتبعة وهي ما أدت إلى تراجع واضح في مستوى معيشة المواطن، فإن ذلك لم يحرك فيهم دوافع الاحتجاج، حيث انخفضت رغبة الشعب في التظاهر أو الاعتراض على الوضع المعايش وفق ما كشف استطلاع الرأي.
وبحسب النتائج المنشورة فإن 42% من المصريين يعتبرون أنه “من الجيد أن شوارعنا لا تشهد الآن مظاهرات كما في بعض البلدان العربية الأخرى”، ولكن ما يثير الدهشة أن نسبة الذين يعارضون هذا الرأي مرتفعة وتبلغ 54%.
ويرى ما يزيد على نصف العينة أن الوضع في مصر أفضل نسبيًا منه في اليمن وسوريا، أما الثلث تقريبًا فلا يتوقعون أي نتائج إيجابية من الاحتجاجات، مستندين في ذلك إلى ما فشل الحراك المناهض للحكومة في العراق ولبنان في تحقيق الأهداف المنشودة منه، فالوضع على ما هو عليه دون تغيير على حد قولهم.
الجزء الأكبر من دوافع تراجع الرغبة في الاحتجاج لدى المصريين يتمثل في الخوف من الاعتقالات والتنكيل، حيث تضج السجون المصرية بالمئات من المعارضين، بعضهم كانت جريمته أنه سجل موقفه – شفهيًا – من خلال منشور له على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتقدر المنظمات الحقوقية الدولية والعربية أعداد المعتقلين في السجون المصرية ومراكز الاعتقالات بأكثر من 60 ألف مسجون ومعتقل منذ 2013 وحتى اليوم، فضلًا عن الملاحقات القضائية والأمنية لكل من يعبر عن رأيه بأي طريقة كانت، وهو ما توثقه الكثير من التقارير.
تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية
ظلت القضية الفلسطينية لعقود طويلة تتصدر قائمة اهتمامات المصريين، وهو ما كانت تجسده المظاهرات المستمرة في شوارع مصر وميادينها وداخل الجامعات والمدارس نصرة للقضية التي يعتبرها الشارع المصري قضيته الأم، وملف الكرامة الذي لا يمكن التخلي عنه مهما كان الثمن.
غير أنه في السنوات الأخيرة تراجع الاهتمام بتلك القضية شيئًا فشيئًا حتى بات التظاهر لأجلها أو إصدار بيان داعم لها دربًا من الخيال والمغامرة في آن واحد، وأحد الممنوعات التي قد تكلف صاحبها حياته وسنوات عمره ثمنًا لها، وهو ما كشفه استطلاع الرأي الأخير، وهو ما يتماشى مع العلاقات القوية التي تربط بين حكومة بنيامين نتنياهو ونظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وهي العلاقة التي وصفها الإعلام العبري بـ”الحميمية”.
يبقى التأييد الشعبي للتطبيع مع الكيان الصهيوني منخفضًا بصورة كبيرة رغم الجهود المبذولة من النظام في مصر وحلفائه للدفع بقطار التطبيع بكل قوة
جزء كبير من المصريين تسيطر عليه مشاعر اليأس بشأن إحراز تقدم في القضية الفلسطينية، فمن يملكون توقعات “إيجابية إلى حد ما” بشأن حلحلة الأزمة لا تتعدى نسبتهم 16%، وتنخفض هذه النسبة لدى أولئك الذين يؤيدون خطة سلام ترامب لتبلغ 9%.
ثلث العينة المستطلع رأيها تذهب إلى “الدفع باتجاه حلّ الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي” كأحد الحلول المناسبة لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، فيما تعتبر شريحة كبيرة منهم أن “الفلسطينيين والإسرائيليين هم المسؤولون عن استمرار الصراع”.
علاوة على هذا يبقى التأييد الشعبي للتطبيع مع الكيان الصهيوني منخفضًا بصورة كبيرة رغم الجهود المبذولة من النظام في مصر وحلفائه للدفع بقطار التطبيع بكل قوة، إذ لا تتعدى نسبة الموافقين على أنه “يجب السماح للأشخاص الذين يرغبون في إقامة علاقات تجارية أو رياضية مع الإسرائيليين بذلك” نسبتهم 6% فقط.
الملفات الخارجية
أما الملفات الخارجية فقد تباين الموقف الشعبي المصري حيالها متذبذبًا بين الدعم والرفض والتحفظ، وقد جاءت في معظمها مغايرة تمامًا لما كانت عليه، فبينما كان ينظر المصريون للولايات المتحدة على أنها رأس الأفعى التي يجب توخي الحذر في التعامل معها، هناك نصف المصريين تقريبًا يصفون العلاقات معها على أنها مهمة، لتأتي في المرتبة الثانية بعد الصين.
اللافت في نتائج هذا الاستطلاع تراجع أهمية روسيا بالنسبة لمصر رغم تقدمها في السنوات السابقة، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء العلاقات القوية التي تربط بين ترامب والسيسي، وتقاطع مصالح البلدين في العديد من الملفات، هذا بجانب بعض المخاوف التي أبداها المصريون بشأن الملف الليبي مع اختلاف وجهات النظر بشأن الموقف من تركيا، إذ وصف 39% من المصريين العلاقات الجيدة مع أنقرة بأنها “مهمة إلى حد ما” لبلدهم.
يعارض الشعب المصري توجه حكومة بلاده في الموقف من الملف القطري، حيث يعتبر ثلاثة أرباعهم أنه “لحلّ خلافاتنا مع قطر، يجب على الطرفين تقديم تنازلات من أجل التوصل إلى اتفاق”
أما بخصوص الملف الإيراني، فينقسم الشارع المصري بين من يرى في مقتل القائد الإيراني، قاسم سليماني، في يناير/كانون الثاني آثار إيجابية على المنطقة، وآخرون يرون عكس ذلك، وكانت استطلاعات رأي سابقة قد توصلت بشكل كبير إلى أن معظم المصريين يؤيدون حكومتهم في معارضتها لإيران و”حزب الله” والحوثيون.
ويعارض الشعب المصري توجه حكومة بلاده في الموقف من الملف القطري، حيث يعتبر ثلاثة أرباعهم أنه “لحلّ خلافاتنا مع قطر، يجب على الطرفين تقديم تنازلات من أجل التوصل إلى اتفاق”، وهي النسبة ذاتها التي توصل إليها استطلاع أجري في 2017 عقب نشوب النزاع مباشرةً حين أعلنت القاهرة ومعها الرياض وأبو ظبي والمنامة قطع العلاقات مع الدوحة في الخامس من يونيو/حزيران.
وهكذا.. تعاني خريطة اهتمامات المصريين من تغيرات واضحة، بعضها يعد انقلابًا ملموسًا على مرتكزاتها التاريخية، لكنها كما أشرنا بداية الأمر ترتبط بصورة كبيرة بالتطورات الأخيرة التي أجبرت العقل المصري على إعادة تموضعه، إما حفاظًا علي حياته وإما تجنبًا للصدام مع النظام، ليبقى السؤال: هل تبقى تلك التغيرات كثوابت مستقبلية أم أن الوضع سيعود إلى ماكان عليه قبل ذلك؟ هذا ما ستسفر عنه السنوات القادمة.