مساعي حثيثة يبذلها صندوق الاستثمار السعودي الذي يقوده ولي العهد محمد بن سلمان، لشراء أصول رياضية في مختلف دول أوروبا، ورغم ما تعانيه المملكة من أزمات اقتصادية حادة جراء انهيار أسعار النفط وتزايد معدلات العجز في الموازنة إلا أن الإصرار على المضي قدمًا في هذا الطريق أثار الكثير من الجدل.
ومنذ صعود نجم ولي العهد سعت المملكة إلى تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي، مستندة في ذلك إلى حزمة الاستثمارات التي تلقيها في صناعة الترفيه والرياضة، متجاوز ذلك المنطقة العربية والشرق أوسطية إلى آفاق أوروبا، خاصة بعد الانتقادات التي تعرضت لها الرياض بسبب سجلها الحقوقي المشين الذي بلغ ذروة نزيفه مع مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول أكتوبر 2018.
أشواط عدة قطعها ابن سلمان ورجاله المقربون في هذا المضمار، على رأسها تجربة مستشاره تركي آل الشيخ في مصر، والتي كتب لها الفشل الذريع في آخر فصولها، ليعيد وجهة دفته إلى أوروبا حيث نادي ألميرا الإسباني، أحد أندية دوري الدرجة الثانية هناك، غير أن فقدان شعبية هذا النادي لم تحقق الهدف المنشود من شرائه، رغم الملايين التي أُنفقت على تطويره.
وأمام تلك الوضعية لم يجد ولي العهد وعن طريق الصندوق السيادي لبلاده بدًّا من اختراق صناعة الرياضة في أوروبا، ليتصاعد الحديث مؤخرًا عن مساعي لشراء نادي “نيوكاسل يونايتد” الإنجليزي، عبر دفع نحو 340 مليون جنيه إسترليني (380 مليون يورو) إلى مالك النادي، مايك أشلي مقابل الاستحواذ على 80% من أسهمه.
لم يكن نيوكاسل هو الصفقة الأولى التي تسعى المملكة لشرائها داخل أوروبا، فقد سبق وأن جرت مفاوضات مع مالكي نادي “مانشيستر يونايتد” الإنجليزي، العام الماضي من أجل الاستحواذ على النادي،غير أن الصفقة لم يكتب لها النجاح، وهو ما دفع الصندوق السيادي للبحث عن فرص أخرى.
ورغم التحذيرات التي أطلقتها كيانات حقوقية، إقليمية ودولية، بشأن مساعي الرياض تجميل صورتها الخارجية وغسل سمعتها الحقوقية المشينة، من خلال الاستثمار في القطاع الرياضي دوليًا، إلا أن الأمير الشاب لم يلق لها بالًا، ماضيًا في مسعاه الذي يأمل من خلاله تصدير صورة إيجابية لبلاده يغض بها طرف الرأي العام العالمي عن جرائمها الحقوقية الموثقة التي كانت مثار انتقادات وجهت لها خلال السنوات الماضية.
نيوكاسل.. تساؤلات حول الإصرار
العديد من الأسئلة والمخاوف المثيرة للاهتمام فرضها إصرار ولي العهد السعودي للاستحواذ على النادي الإنجليزي، والذي بات على مقربة كبيرة من إنهاء تلك الصفقة، حيث انقسمت الأراء ما بين أغراض مادية في المقام الأول، وأخرى سياسية.
فريق أشار إلى الصفقة رخيصة الثمن وتعد فرصة جيدة لصندوق الاستثمار السعودي لاسيما في حالة الانكماش الاقتصادي المترتبة على جائحة “كورونا”، وهو ما أشار إليه الخبير الرياضي، البروفيسور “أندرو هاموند” حين ألمح إلى أن صندوق الثروة السعودي” قام بمحاولة اصطياد الصفقات مؤخرًا، ليشتري حصصًا في الشركات الأوروبية الكبرى عندما يكون سعر سهمها منخفضًا”.
رغبة ملحة لدى السلطات السعودية لتحسين صورة المملكة وتغيير العديد من التصورات الغربية السلبية حولها من خلال بناء سردية مختلفة تلقي بظلال إيجابية على سمعة البلاد
غير أن استباق مفاوضات إنهاء تلك الصفقة لما قبل جائحة كورونا ربما يقلل من فرضية هذا الاحتمال، وعليه ذهب فريق آخر إلى أن هناك أهداف أخرى أبعد من العامل المادي، على رأسها تقوية العلاقات الاقتصادية السعودية البريطانية، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
هذا الفريق أكد أن هذا المضمار يذهب في اتجاه رغبة ملحة لدى السلطات السعودية لتحسين صورة المملكة وتغيير العديد من التصورات الغربية السلبية حولها من خلال بناء سردية مختلفة تلقي بظلال إيجابية على سمعة البلاد التي تعرضت لشروخ كبيرة خلال الأعوام الأربعة الماضية.
وقبل شهر تقريبًا أفادت بعض الأنباء عن مساعي الصندوق السيادي السعودي شراء فريق كرة القدم الفرنسي “أولمبيك مارسيليا”، الذي يتنافس في الدرجة الأعلى من الدوري الفرنسي، مقابل 280 مليون دولار، غير أن رئيس النادي، “جاك هنري إيراود”، أكد ردًا على المحاولات السعودية بأن الفريق ليس للبيع.
حقوق بث الدوري الألماني
قبل أيام قليلة قالت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، إن السعودية أوشكت على الفوز بحقوق بث الدوري الألماني لكرة القدم، وهي الخطوة التي ربما تمثل نقلة كبيرة في مسار الاستثمارات في الرياضة الدولية، خاصة في ظل ما يتمتع به هذا الدوري “البوندزليجا” من شعبية كبيرة.
الصحيفة كشفت أن حصول الرياض على حقوق بث الدوري الألماني – حال نجاحها في إتمام الصفقة – سيكون التحرك الأقوى في خطتها الاستثمارية في مجال الرياضة العالمية بعد مئات الملايين التي أنفقتها في السنوات الأخيرة لتنظيم مباريات كرة قدم أوروبية، والملاكمة، وسباقات للسيارات داخل المملكة.
وكانت رابطة كرة القدم الألمانية قد أعلنت أنه سيمنح حقوق البث المحلية للمواسم الـ 4، ابتداء من 2021-2022، بانخفاض محتمل عن قيمة الاتفاق السابق، لافتة إلى أن قيمة العقد الجديد تبلغ 4.95 مليار دولار على مدى 4 أعوام، بانخفاض طفيف عن 5.22 مليار دولار في الاتفاق الأخير.
يذكر أن شركة “بي إن سبورت” القطرية هي الحاصلة على حقوق بث الدوريات الأوروبية ومنها الدوري الألماني خلال السنوات الماضية، فيما يشير البعض إلى أن التحركات السعودية تأتي في إطار منافسة الدوحة في استثماراتها الرياضية بعدما حققت نجاحات كبيرة خلال الفترة الأخيرة.
الرياض معروفة بمحاولاتها لـ”غسل العار عن طريق الرياضة” باستخدام بريق ومكانة الرياضة العليا كأداة للعلاقات العامة لتشتيت الانتباه عن سجل حقوق الإنسان السيئ لديها.
تعزيز القوة الناعمة
بمثل هذه الاستثمارات تستطيع السعودية التسلل إلى الملاعب الأوروبية من خلال حضور شعارات الدولة ورموزها على قمصان اللاعبين، فضلًا عن شريط الإعلانات حول الملعب، لتتفادي بذلك قوانين الفيفا التي تحول دون ارتداء أي قمصات عليها دلالات سياسية.
وعليه فإن الأندية الأوروبية وحقوق البث التي يسعى صندوق المملكة الحصول عليها ستكون أحد أبرز أدوات القوى الناعمة لولي العهد لتحسين صورة بلاده، وتجميلها بعد الإدانات التي تعرضت لها منذ أكتوبر 2018 وحتى اليوم، تلك الانتقادات التي دفعت شركات ومؤسسات عالمية إلى مقاطعة مؤتمر “دافوس” في السعودية العام الماضي، حين كان يفترض مناقشة بيع نادي “مانشيتر يونايتد” للعائلة الحاكمة في المملكة، إلا أن أصحاب النادي انسحبوا من المؤتمر.
في تقرير سابق لـ “نون بوست” كشف عن استنكار شديد قوبلت به التحركات السعودية بشأن الاستثمار في المجال الرياضي العالمي، وذلك من قبل المنظمات الحقوقية الدولية، حيث وصفت منظمة العفو الدولية (أمنستي إنترناشيونال) سعي ابن سلمان لشراء نادي نيوكاسل بأنه “محاولة لغسل العار عبر الرياضة”.
وفي تصريحات أدلت بها المنظمة لصحيفة “صن” البريطانية، قال رئيس حملات المملكة المتحدة في المنظمة ، فيليكس جاكنز إن الاستحواذ على نيوكاسل لن يشكل مفاجأة كبيرة، لافتًا أن الرياض معروفة بمحاولاتها لـ”غسل العار عن طريق الرياضة” باستخدام بريق ومكانة الرياضة العليا كأداة للعلاقات العامة لتشتيت الانتباه عن سجل حقوق الإنسان السيئ لديها.
وهكذا ورغم ما تحمله تلك الاستثمارات من مخاطر مالية في ضوء حالة الانكماش التي خيمت على صناعة الرياضة الأوروبية، فإن الأهداف التسويقية السياسية ومحاولة تجميل الصورة قد تكون الدافع الأبرز، في ضوء محاولات الأمير الشاب تقديم نفسه في حلة جديدة للمجتمع الأوروبي يغض الطرف بها عن صفحاته المشينة في سياق مشواره نحو اعتلاء العرش خلفا لوالده.