أعادت حكومات العالم صياغة يومياتها وأجندتها السياسية بعدما ضرب فيروس كوفيد-19 النظام العالمي، وبينما اتبعت الغالبية سياسة التقوقع تحت شعار “بلادنا أولًا”، انتهزت تركيا الفرص التي تولد من رحم الأزمات، فرسمت خريطة دبلوماسية جديدة فيها مكان للجميع، موسعةً نطاق سياستها الخارجية في اتجاهات متعددة.
وضمن هذا الإطار الإستراتيجي لعبت تركيا دورًا استباقيًا وذكيًا خلال الأزمة، فحتى الآن لا يبدو أن الوباء أثر على طموحات أنقرة الإقليمية التي نشطت خلال العقد الماضي من سوريا إلى ليبيا، ومن شرق البحر الأبيض المتوسط إلى القرن الإفريقي، واعتمدت في الغالب على الدبلوماسية الإنسانية والقوة الناعمة، ولعل المنطقة الأخيرة التي تضم جيبوتي وإثيوبيا والصومال وإريتريا من أبرز المناطق التي انتهجت فيها تركيا هذه الصيغة.
الجهود التركية في “الانفتاح على إفريقيا”
أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مكالمات هاتفية مع 10 قادة أفارقة منذ بداية الوباء، وأرسلت حكومته مساعدات إنسانية لـ20 دولة إفريقية من أصل 50 دولة، وفي هذه الأثناء توالت تصريحات المدح والدعم، واستبشرت جميعها بتوقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم لتعزيز التعاون في مجالات مختلفة حتى بعد انتهاء الوباء.
إفريقيا ستحتل صفحة خاصة في السياسة الخارجية التركية، وستكون الشراكة معها مثالًا يحتذى به في النظام العالمي ما بعد كورونا.
وبتلك الحزمة من الاستثمارات، تطبق أنقرة الطموحة سياسة “الانفتاح على إفريقيا” التي تبنتها عام 1998، وتهدف إلى تعزيز الوجود الدبلوماسي والتجاري التركي في جميع أنحاء القارة وتحسين العلاقات الثقافية والأكاديمية، ومع عدم وجود دعم سياسي قوي خلال تلك الفترة بقي البرنامج حبرًا على ورق، ولكن بعد الانتخابات العامة لعام 2005، تحسن المناخ السياسي في تركيا، فقد أخذ فوز حزب العدالة والتنمية انعطافة مهمة في مسار السياسة الخارجية.
ورغم التقدم الملحوظ الذي أحرزته خلال 14 عامًا، لا يزال المسؤولون الأتراك مثل وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو يرى أن إفريقيا ستحتل صفحة خاصة في السياسة الخارجية التركية، وستكون الشراكة معها مثالًا يحتذى به في النظام العالمي ما بعد كورونا.
أشار جاوش أوغلو أيضًا إلى الجهود المضنية التي تبذلها الحكومة التركية “لتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إفريقيا، وزيادة المساعدات التنموية والإنسانية لها، ورفع عدد المنح الدراسية للطلاب الأفارقة وزيادة رحلات الخطوط الجوية التركية من دول القارة وإليها”، لافتًا النظر إلى “ارتفاع عدد السفارات التركية في إفريقيا من 12 عام 2002 إلى 42 حاليًّا، فيما ارتفع عدد سفارات الدول الإفريقية لدى أنقرة إلى 36، بعدما كان 10 فقط في 2008”.
وأوضح كذلك جاوش أوغلو أن عدد الزيارات رفيعة المستوى بين تركيا وإفريقيا من 2015 حتى 2019 تجاوز 500، فيما تضاعف حجم التجارة البينية 6 مرات خلال السنوات الـ18 الأخيرة، ومضيفًا أن وقف المعارف التركي يدير 144 مؤسسة تعليمية و17 سكنًا للطلاب في جميع أنحاء إفريقيا، كما تخرج آلاف الطلبة من 54 دولة بالقارة في الجامعات التركية ضمن برنامج المنح التركية، وذكر أن عدد مكاتب الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا” في القارة بلغ 22.
يأتي هذا الاهتمام التركي المتزايد في ظل تسابق القوى الإقليمية والدولية على الأراضي الإفريقية مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والهند والبرازيل وإيران و”إسرائيل”، نظرًا لأهمية هذه المنطقة التي تعتبر منبعًا للثروات الاقتصادية والتوازنات الأمنية والسياسية.
ورغم امتداد الاستثمارات التركية العملاقة في الداخل الإفريقي بشكل عام، فإن الصومال تحديدًا يعد بوابة تركيا إلى القارة السمراء ومركزها الإستراتيجي الذي تسعى من خلاله إلى بسط نفوذها وتصوير نفسها كقوة فاعلة ومؤثرة على المسرح العالمي.
الصومال مثالًا.. ما بدأ بالتعاطف انتهى بالتعاون
زار أردوغان مقديشو لأول مرة عام 2011 وسط موجة جفاف ومجاعة مدمرة، وهو أول زعيم غير إفريقي يزور العاصمة التي مزقتها الحرب منذ عقدين، ولرمزيتها في السياسة الخارجية لا يغفل المسؤولون الأتراك عن ذكرها في خطاباتهم بشكل متكرر، لا سيما أن بلادهم من أبرز الدول المانحة للصومال منذ ذاك العام، فبحسب بيانات وزارة الخارجية التركية، بلغ حجم المساعدات الإنسانية إلى الصومال نحو مليار دولار أمريكي.
وما بدأ كمبادرة إنسانية للمنهكين من الحرب الأهلية نما إلى سياسة أكثر شمولًا، فقد سخرت أنقرة كل طاقاتها للمساهمة في مشاريع إعادة الإعمار ومشاريع تنموية أخرى مثل افتتاح المدارس التعليمية وبناء المساجد وإنشاء أكبر مركز تدريب عسكري خارج الحدود لإعادة بناء وتأهيل الجيش الصومالي وتحسين بنيته التحتية وأنظمته اللوجستية، وبتكلفة قدرت بنحو 50 مليون دولار أمريكي.
كما عملت شركات تركية في موانئ مقديشو الجوية والبحرية، وغمرت أسواقها بالسلع التركية الصنع، وتتوجه الخطوط الجوية التركية مباشرة إلى العاصمة – أول شركة طيران دولية كبيرة تقوم بذلك -، وقبل عامين عينت تركيا مبعوثًا خاصًا للصومال في 2018 وهو الأول في السياسة الخارجية التركية.
تركيا لا تملك ماضيًا استعماريًا مثل فرنسا وبريطانيا، ولا يثير توسعها القلق كما هو الحال مع الصين أو إيران بسبب ما يحيط بهما من مخاوف أمنية.
وانطلاقًا من عام 2014 شهد الطرفان فصلًا جديدًا من التعاون، حيث تخطت العلاقات حاجز المساعدات الإنسانية وصاغت عددًا من التبادلات التجارية، ففي عام 2019 بلغ حجم التجارة الثنائية 200 مليون دولار للمرة الأولى، أما الاستثمار التركي في الدولة الواقعة في القرن الإفريقي فيبلغ 100 مليون دولار، كما يتم تشغيل الميناء والمطار في العاصمة مقديشيو من شركات تركية، وذلك وسط ترحيب واسع وملحوظ من الشعب الصومالي الذي كان يبحث عن بدائل مختلفة عن الدور الغربي والصيني والإيراني في البلاد.
يعود ذلك إلى طريقة تركيا في تقديم نفسها للصوماليين، فهي لا تكف عن التذكير بالقواسم المشتركة بينهما على الصعيد التاريخي والثقافي والجغرافي والديني، ما يجعلها الأقرب إليهم مقارنة مع القوى الخارجية الأخرى، الأهم من ذلك أن تركيا لا تملك ماضيًا استعماريًا مثل فرنسا وبريطانيا، ولا يثير توسعها القلق كما هو الحال مع الصين أو إيران بسبب ما يحيط بهما من مخاوف أمنية.
مكاسب المبادرات الإنسانية
اختلفت الرؤية السياسية إلى الوجود التركي في الصومال بين عامي 2015 و2017 مع اندلاع حرب السعودية على اليمن وبداية الأزمة الخليجية، فمع ظهور تركيا كحليف أساسي لدولة قطر، تحول الصومال إلى ساحة معركة أخرى للتنافس السياسي بين التحالفات المتعارضة، وأبرز دليل على ذلك هو اختيار الإمارات العربية المتحدة الاستثمار في ميناء بربرة في أرض الصومال، (صوماليلاند) الانفصالية.
أنقرة إحدى الدول التي اعتمدت على الفيروس المستجد لتسجيل المزيد من النقاط في السياسة الخارجية.
لم تمنع جائحة كورونا استمرار المنافسة بين القوى الخارجية في الصومال، حيث تشير التقارير الدولية إلى أن تركيا وقطر والإمارات من بين المانحين الرئيسيين للمساعدات الطبية في إفريقيا، إذ انتقلت تحركاتهم من الساحة السياسية إلى الحقل الإنساني من خلال تقديم حزم المعدات الطبية الكاملة مثل الأسرة ومجموعات فحص الفيروس وأقنعة طبية وأثواب واقية وقفازات ومطهرات ومعقمات كحولية، وكانت أنقرة إحدى تلك الجهات التي اعتمدت على الفيروس المستجد لتسجيل المزيد من النقاط في السياسة الخارجية.
وبالنظر إلى أداء تركيا خلال تلك الفترة انطلقت التوقعات التي تشير بأنها ستلعب دورًا رئيسيًا في عالم ما بعد كورونا، معتمدةً على سرديتها السياسية القائمة على مبادئ الإنسانية التي لها نغمة إسلامية مسالمة وبعيدة عن خطابات الهيمنة الغربية.
لذلك يمكن القول إن تركيا، رغم المشاكل التي تواجهها في الداخل بسبب وضعها الاقتصادي المتقلب، كانت قادرة إلى حد كبير على استعراض مرونتها وقدرتها على التأثير والتفوق من جهة، وتوليد مشاعر الثقة والأخوة في إفريقيا من جهة أخرى، ونتيجة لذلك دعا الصومال تركيا للتنقيب عن النفط في مياهه الإقليمية، ما يدلل على تحقيق تركيا إنجازًا في منطقة تتنازع فيها القوى الخارجية على الموانئ والموارد الطبيعية والقواعد العسكرية، خاصةً أن حاجة تركيا إلى الطاقة هي العامل الرئيسي وراء قرارها في الحفاظ على علاقاتها مع القرن الإفريقي.
ومع ذلك، ليس واضحًا بعد إلى أي مدى ستربح تركيا مالياً من عمليات التنقيب في حقول النفط الصومالية، لكن ستفيد هذه التجربة أردوغان على المدى الطويل في دفع تركيا للانخراط في عمليات الاستكشاف والحفر في الكتل البحرية المكتشفة حديثًا، وبالتالي لن يكون مستغربًا إذا أصبحت في المستقبل القريب فاعلًا ووسيطًا رئيسيًا في الدبلوماسية الإنسانية، وشريكًا أساسيًا في عمليات التنقيب عن موارد الطاقة.