ترتبط قيمة آيا صوفيا ارتباطًا وثيقًا بمكانة مدينة إسطنبول ولا أراهما ينفصلان عن بعضهما البعض مجازًا، فإسطنبول كمكان تحمل بُعدًا ينقل صورةً عن الشرق والغرب والقديم والحديث أينما جالت العين فيها، في المزارات القديمة والأبراج العصرية، وآيا صوفيا هي الأخرى هكذا، تعرّف عن أزمان وحقبات شكّلت إسطنبول التي نعيشها اليوم، وأقول نعيشها لأنها قصة لا تنتهي أبدًا، حكايات وصور تروي نفسها عند كل مشربية وحائط رخامي ومسجد وبحر من بحورها، فآيا صوفيا نموذج مصغر عن المدينة، ولا يستغرب هذا الكم الكبير من الاهتمام الذي تناله في كل موضوع يثار حولها.
تتناقل الصحافة التركية والعربية والأوروبية منذ عدة سنوات الدعوات المحلية لتحويل هذا المَعلم الأثير إلى جامع، أو ربما من الأدق القول إعادته إلى حالته السابقة، نظرًا لتاريخ المكان الطويل في التحول من مقام إلى آخر، وهنا سأفرد الحديث عن عمارة آيا صوفيا ودلالاتها وحتى لأجرؤ على القول بأن لها أسرارًا لم تكتشف حتى وقت قريب وما زال الكثير مخفيًا بين جدرانها، أما الصراع المتمثل في الأخذ والرد السياسي منه والثقافي بشأن ملكيتها وتحويلها فإن له أهلًا أتموا الحديث فيه فأوفوا بما قدموا.
صورة مجازية
يختلف المؤرخون بشأن تاريخ تشييد البناء وماهيته قبل أن يكون بشكله الحاليّ وحتى قبل أن تبنى آيا صوفيا، إذ تقول الروايات إن المكان في الأصل كانت تقوم عليه كنيسةٌ قديمة في عهد قسطنطين الأول (قسطنطين العظيم) عام 370 ميلاديًا الذي كانت مدينة القسطنطينية بالنسبة إليه حلمًا لجعلها عاصمة الإمبراطورية البيزنطية خلفًا لروما، أو لتكون روما الجديدة، وبالفعل تمت تسمية المدينة نسبةً له، وحملت الكنيسة اسم “ميغالي أكليسيا” أي الكنيسة الكبيرة، تضررت الكنيسة عام 404 جراء حريق اندلع خلال أعمال شغب كانت تطالب بإبعاد يوحنا كريسوستوم، رئيس الأساقفة في القسطنطينية ويلزم هذه الكنيسة، وهو ابن لأبوين سوريين يونانيين، بعد اتهامه بالانتماء لجماعة معادية للمذهب الأرثوذكسي، ليكون هذا الحريق الأول الذي يطال المكان.
رئيس الأساقفة في القسطنطينية، يوحنا كريسوستوم
أُعيد بناء المبنى وتوسيعه بعد الحريق ليشمل باحة خارجية ومن ثم تم ترميمه بالكامل عام 415 ميلاديًا أثناء حكم ثيودوسيوس الثاني. لاحقًا وفي عام 532 ميلاديًا احترق البناء مرة أخرى في تمرد نيكا أو ثورة نيكا التي كانت نتيجة إقرار الإمبراطور عدة قوانين وضرائب تصبّ في صالح واحد من فريقين أو جماعتين يتهم أفرادها من وزراء ونبلاء في قضايا فساد إدارية مما أدى إلى نشوب اقتتال بين الطرفين راح ضحيته عشرات آلاف الضحايا واحتراق العديد من الأبنية.
يُذكر أن الساحة التي كان الفريقان يستعرضان فيها ألعابهما مثل “سباق العربات” وغيرها، هي الساحة التي تمتد اليوم بين متحف آيا صوفيا وجامع السلطان أحمد.
الساحة الواقعة بين جامع السلطان أحمد وآيا صوفيا تظهر بها المسلّة المصرية
لوحة لواحدة من السباقات التي كانت تقوم تلك الفترة
بعد سيطرة الإمبراطور جستنيان الأول على الأوضاع في البلاد، سعى لبناء صرح يستعيد من خلاله محبة شعبه فأمر بإعادة ترميم الكنيسة لتكون كاتدرائية أرثوذكسية شرقية تحمل اسم “آيا صوفيا” استمر بناؤها نحو 6 سنوات من مهندسين اثنين قادمين من آسيا الصغرى هما إيسو دور المليسي وأنثيميوس التراليني، فجستنيان أرادها أن تكون مختلفة عن طراز الكاتدرائيات الأرثوذكسية في روما، ساعيًا لتكون مَعلمًا تتميز به العاصمة.
بعد هذا الترميم بدأت آيا صوفيا تكتسب شكلها الحاليّ الذي نعرفها اليوم عليه، لكنها عام 558 ميلاديًا تعرضت لانهيار جزئي في قبتها الرئيسية بعد زلزال ضرب القسطنطينية ومن ثم تلاها انهياران جزئيان في الجزء الشرقي، ما دفع جستنيان لترميمها مرة أخرى وتكبير القبة، وبالتالي إعادة هيكلة باحتها الخارجية بما يناسب الأساسات الجديدة.
لم تنته المصائب التي حلت على هذا المَعلم البهيّ حتى نال ما نالته المدينة التي تضمه، ففي أثناء الحملة الصليبية الرابعة التي شنها مسيحيو البندقية والجيش الصليبي لاستعادة بعض المدن مثل عكا والقدس مرّوا بمدينة القسطنطينية وتوقفوا فيها وحاصروها حصارًا شديدًا في أغسطس 1203 فنهبوا خيراتها وأقاموا حربًا بين طوائفها بعد فشل مخططهم بإزالة الشعب إمبراطور المدينة ألكسيوس بانتفاضة شعبية بينما كانوا يرجون منه المال لنصرة حملتهم والإكمال إلى القدس.
لم يصل بالحملة إلى الأراضي المقدسة (القدس وعكا) إلا قلة قليلة من رؤوس الجيش الصليبي رغم تخلي البابا في روما عنهم ونزع اسم جيش الكنيسة عنهم، لكنهم وقبل مغادرتهم القسطنطينية غزوا قصور المدينة وكنائسها في أبريل من عام 1204 وفقدت حينها آيا صوفيا الكثير من ذهبها.
التحول وما صحبه
بقيت آيا صوفيا على حالها هذا منذ بداية القرن السادس عشر حتى دخول السلطان محمد الثاني للقسطنطينية وجعلها عاصمة للدولة العثمانية في 29 من مايو 1453، وفعليًا كان هذا التحول الكبير هو ما صنع مزيج العمارة البيزنطية والعثمانية داخليًا وخارجيًا للمبنى، فمع دخول السلطان للمدينة بحث عن مكان ليصلي فيه صلاة شكر لله على انتصاره بعد حصار المدينة قرابة شهر، فلم يجد إلا هذا البناء المقدس المهيب ليتم فيه صلاته ويؤكد استحواذه على أكبر قلاع الإمبراطورية البيزنطية. وكان هذا الفعل شائعًا ذلك الوقت في دلالة على تمام الانتصار واستلام زمام الحكم، بالأخص في معركة فاصلة كانت من كبرى أهداف الخلافة الإسلامية التي لم تتحقق لا في زمن الخلافة الأموية ولا العباسية، بل العثمانية.
في هذه الفترة كانت آيا صوفيا في صورة إسطنبول الصغيرة فتغير اسمها من “سانت صوفيا” إلى “آيا صوفيا” مع تغير اسم المدينة من القسطنطينية إلى “إسلامبول”، وكما تحولت من كاتدرائية تدلّ على قوة الإمبراطورية البيزنطية أصبحت في ليلة وضحاها جامعًا ستتغير ملامحه كليًا مع مرور السنوات، كما هو الحال مع إسلامبول التي أصبحت هي الأخرى عاصمة الدولة العثمانية بدلًا من مدينة أدرنة. وكانت هذه خاتمة العصور الوسطى وفاتحة العصور الحديثة.
لم يسعف الوقت السلطان محمد الثاني في بناء جامع ليصلي فيه المسلمون، فاتخذ من آيا صوفيا مسجدًا صلوا فيه صلاة النصر وأمر بتغطية الرسومات والصلبان والنقوش المسيحية، وهنا يقع الجدال المستمر حتى يومنا هذا فيما إن كان قد أمر بإزالة معالم الكاتدرائية عنها قبل تملكها أم بعد، والحقيقة أن محمد الثاني لم يبدأ بالتجديد وإضافة المآذن ومسح ما أمكن من دلائل الدين المسيحي إلا بعد شرائها بالمال وتحويلها إلى جامع “وقف خيري” عام 1462 حسب وثائق في أرشيف الدولة العثمانية.
آيا صوفيا من الداخل بعد تحويلها إلى مسجد
في كتاب “إسطنبول البيزنطية بعيون الأجانب” للكاتب Semavi Eyice يصف الكثير من السائحين حالة الفقر والبؤس التي كان يعيشها سكان إسطنبول بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية والتي طالت آيا صوفيا، حتى أن محمد الثاني اقترح لترميمها 14.500 قطعة ذهب سنويًا.
غُطت الرسوم المسيحية وأُزيلت بعض اللوحات التي تحمل وجوهًا لقديسين و”ملائكة” بواسطة ألواح من الجص تارة والنقوش الإسلامية والخط العربي تارة أخرى حسب الحاجة، وأضيف في الوسط ثريات كبيرة لتوفير الإنارة اللازمة وهي الثريات التي تم الاقتباس منها لاحقًا في إنارة كل مساجد الدولة العثمانية وتحوي شمعدانات مصنوعة من المرمر الأبيض الذي يستخرج من بحر مرمرة (بحر يربط بين البحر الأسود وبحر إيجة)، بالإضافة إلى محراب يشير باتجاه مكة المكرمة ومنبر للخطابة.
أما من الخارج فكان التغيير حاسمًا وواضحًا يشي بهوية المكان بعد قيام مئذنة حمراء في الزاوية الجنوبية الشرقية من المبنى بأمر من محمد الثاني، ثم قيام ابنه بايزيد الثاني ببناء المئذنة البيضاء الموجودة على الجانب الشمالي الشرقي، وباقي المآذن على الجانب الغربي بتكليف من مراد الثالث وبناها المهندس المعماري العثماني الشهير سنان من الطوب ومغطاة بالرخام بطول يصل إلى نحو 60 مترًا لتكون أربع مآذن ثلاثة بيضاء وواحدة حمراء.
بقيت آيا صوفيا ككتدرائية لمدة 916 عامًا، ثم كجامع لـ482 عامًا، قبل أن تتم علمنتها، فلا هي كاتدرائية ولا هي جامع بل متحف للسواح أقرّه مجلس الوزراء التركي عام 1935 على خلاف ما يشيع بأن الرئيس مصطفى كمال أتاتورك من حوّلها.
عمارة ليس لها مثيل
يبلغ طول المبنى الرئيسي 82 مترًا وارتفاع القبة يصل إلى 55.6 متر، وقطرها نحو 31.7 متر، مصنوعة بالكامل من الطوب وقذائف الهاون، ولها 40 نافذة. يقوم المبنى كاملًا على أربعة أعمدة ضخمة يصل ارتفاع كل واحد منها إلى 24.3 متر مصنوعة من الرخام الأخضر بعضها تم تصنيعه في مدينة إسبارتا وبعضها في بعلبك، وتم إحضارها كلها من مصر حيث أخذت شكلها النهائي، وثمانية أعمدة أخرى من البورفيري الأحمر الكبير من معبد أرتميس في مدينة EFES التركية. وفي نهاية القرن العشرين تم اكتشاف أربع دعامات مخفية تقف مائلة ضد القبة العلوية مما يعني أنها أقدم دعامات موجودة في تاريخ الهندسة المعمارية.
سقف الصالة الرئيسية لآيا صوفيا من الداخل
القاعات المحيطة بآيا صوفيا وفيها الأبواب التي يدخل منها للصالة الرئيسية
يُدخل إلى المبنى من تسعة أبواب، وهو مبني على طراز البازيليكا (عمارة رومانية قديمة اشتهر بها الإغريق في تشييد صروحهم الدينية فنجدها كثيرة في روما ومماثلة لقبة مدينة الفاتيكان)، تأخذ من الداخل والخارج شكلًا مستطيلًا ويتقدم المبنى أتريوم ضخم أمامي (فسحة سماوية) محاط برواق طويل يؤدي إلى صالات جانبية يدخل منها إلى الصالة الرئيسية.
ترسو فوق الصالة الرئيسية القبة الضخمة التي تستند على المبنى، ومن الشرق والغرب تستند على أنصاف قباب صغيرة نسبيًا ترسو بدورها على عقود ودعامات سفلية تخفف الضغط على الحوائط، القبة من الداخل مغطاه بطبقة من الرصاص لحمايتها من العوامل الجوية، وفي أسفلها نوافذ لتوفير إضاءة طبيعية، في حين تقبع المعمودية التي كانت تستخدم قديمًا في جنوب الصالة.
الفناء الأساسي الذي يراه كل زائر عند دخوله أكبر بثلاث مرات من أيّ كاتدرائية قوطية في أوروبا، فيه درج يؤدّي للطابق العلوي تليه أربع بوابات على أربع زوايا وأربعة طرق لولبية لكن لم ينج منها إلا ثلاثة، وهي مصنوعة من الطوب وقذائف الهاون.
الصالة الرئيسية
استخدم الطابق العلوي في عهد بايزيد الثاني كمكان مخصص للنساء لتأدية الصلاة وتلقي علوم الدين، أما سابقًا فكان يقوم بوظيفة حجرات لرجال الدين أو لخدمة أغراض الصلاة. تتزين السقوف بنقوش من الفرسكو وهو واحد من أشكال الفن التي يتم فيها استخدام الجبس لكسوة الأسقف أو الحوائط والرسم عليها، وأصل التسمية من اللغة الإيطالية alfresco وتعني طري، أما رؤوس الأعمدة فمطلية باللون الأبيض ومزخرفة بأشجار الأبنوس وأوراق النخيل وبعضها مغطاة بالذهب ولا يشبه بعضها الآخر من الأعلى أبدًا لأنها تحمل أسماء بعض القديسين.
الطابق العلوي
بعد تحويلها إلى جامع غطيت الكثير من اللوحات بطبقات من الجبس ورسم فوقها زخارف بالخط العربي لكنها بدأت بالتساقط وظهور الرسومات أسفلها مما جعل منها الآن لوحات متداخلة في بعضها البعض.
قصر الماء البازلكي
تضم المنطقة المحيطة بآيا صوفيا العديد من الأماكن الأثرية التي تستحق الزيارة والاستكشاف كما الحال مع مبنى المتحف الداخلي. واحد من هذه الأماكن هو القصر البازلكي الذي يقع جنوب غربي آيا صوفيا إنما من الأسفل، يسمى “Basilica Cistern” وفي التركية “yerebatan sarayi” بني بالتزامن مع آيا صوفيا من قبل الإمبراطور جستنيان (527-565)، وقد سمي شعبيًا بالصهريج الكبير بسبب الأعمدة الرخامية التي ترتفع من الماء.
المكان عبارة عن مبنى ضخم يغطي مساحة تصل إلى 9800 متر مربع، سعته التخزينية نحو 100000 طن، ويحتوي على 336 عمودًا يرتفع كل منها 9 أمتار، تشكّل 12 صفًا يحتوي كل منها على 28 عمودًا، معظم الأعمدة تم جمع حجارتها من الهياكل القديمة والمنحوتة من أنواع مختلفة من الرخام فبعضها يتكون من قطعة واحدة وبعضها من قطعتين، والغالبية العظمى تأخذ شكلًا أسطوانيًا باستثناء عدد قليل منها في شكل زاوية أو محدد.
القصر البازلكي من الداخل
الدخول إلى الصهريج يبدأ بنزول 52 درجة حجرية وقد لبى احتياجات قصور المدينة من الماء حتى تم منح مياهه بعد وصول العثمانيين لإسطنبول لحدائق قصر توبكابي حيث عاش السلاطين، إذ لم يكن السلاطين العثمانيون يفضلون استخدام ماء هذا البئر لأنهم يرون في المياه المتدفقة بدلًا من الراكدة أكثر طهارة وفقًا لمبادئ التنظيف في الدين الإسلامي.
أعاد الرحالة الهولندي P. Gyllius اكتشاف الصهريج في أثناء تجوله حول آيا صوفيا في إحدى دراساته، بعد أن علم من السكان المجاورين لآيا صوفيا أنهم يستطيعون الحصول على الماء من آبار في الطوابق الأرضية لمنازلهم مما دفعه لدخول الصهريج بمساعدة السكان.
تجربة زيارة القصر فريدة من نوعها فلا هو قصر ولا خزان ولا صهريج بل مزيج من الثلاثة، تتوزع الأعمدة على كل الجوانب ويربط بينها جسر يمشي عليه المشاة في شكل أشبه بالمتاهة فلا يعرف السائر لا البداية ولا النهاية، فيما تنعكس الأضواء البرتقالية الموزعة في كل مكان على سطح الماء. خضع الصهريج لإصلاحات مختلفة منذ إنشائه، الأولى خلال حكم الدولة العثمانية، بإشراف المهندس محمد آغا عام 1732، والثاني في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وفي عام 1987 نظفته بلدية إسطنبول وفتحته للزوار.
أعمال وبحوث
كثير من أسرار وخبايا آيا صوفيا ما تزال تكشف بعد بحوث ودراسات مستمرة على مدار عقود، حتى أن تم ذكرها في روايات عالمية مثل رواية “الجحيم” للكاتب الأمريكي دان براون التي حولت لاحقًا إلى فيلم تم عرضه في الكثير من دور السينما حول العالم. تناولت الرواية تشريحًا دقيقًا لمعالم المبنى وتاريخه وتم نسج أحداث الرواية بما يتناسب مع المكان حتى إن الكثيرين اعتبروا ما كشفته الرواية من مخابئ وغرف سرية جديرٌ بالاهتمام، ما دفعهم لزيارتها.
ومما جاء في كتاب “أسرار إسطنبول” للكاتب التركي فرحات أصلان، أنه وجد تحت مبنى آيا صوفيا ممرات سرية وأنفاق يتجاوز عمقها 70 مترًا تربط المدينة بجزر تقع في بحر إيجه، صُممت بهدف استخدامها كممرات لهروب الملوك في حال تم السيطرة على المدينة، إلى جانب إمكانية تحويلها لمخازن لحفظ الكنوز وتخزين الطعام أيام الحروب، وبالفعل هذا ما سبق أن تكلم عنه صانع الأفلام التركي غوكسيل غولين سوي، بعد رحلة بحث بدأها عام 1998 كأول رحلة استكشافية للبنية التحتية للمبنى استمرت مدة عشر سنوات لتنتهي في ديسمبر 2009.
آيا صوفيا ليست فقط ذلك الحيّز المكاني بل هي كل ما يقع في تلك المنطقة التي تضم أقدم الآثار وأجملها
توصل الفريق البحثي لاحقًا إلى وجود أنفاق يعود تاريخها لنحو 1700 عام، أي قبل بناء الكاتدرائية، وممرات تربطها بقصر “توبكابي” وقبور وجداريات لبعض الكهنة ومجموعة من الصهاريج، والممرات الواسعة، وأوضح الفريق أن آيا صوفيا تحوي تحتها مدينة كاملة من الأنفاق والممرات حتى أنها تعدّ أقدم مدينة في التاريخ بُنيت تحت الأرض.
آيا صوفيا ليست فقط ذلك الحيّز المكاني بما يحمل من فنون ودلالات ورسومات وحتى مغارات وأنفاق أرضية، بل هي كل ما يقع في تلك المنطقة التي تضم أقدم الآثار وأجملها من مشربيات ومسلات مصرية وحمامات عثمائية وقصور صغيرة خلفية، وحتى الفسيفساء المستخدمة في تزيينها التي يعتبرها الكثير من مؤرخي الفن مثالًا على الفسيفساء التي انتشرت نهاية القرنين الثامن والتاسع ولم تعد موجودة في أيّ مكان آخر في العالم ليست هي ما يجعل من آيا صوفيا صرحًا جميلًا ومهمًا، بل إن محافظة هذا المكان على سره وبهائه حتى هذا الوقت رغم كل الجدالات التي أُثيرت حوله وكل ما مرّ على المدينة من زلازل حقيقية ومجازية، يجعل منه مفخرة للمدينة وأهلها، وحقيق بالاعتناء والاهتمام بقيمته ورمزيته ويحارب من أجل إثبات أو نفي حرية التصرف به، فآيا صوفيا اليوم صورة مجازية وشاهد عيان على تاريخ المدينة وأبهتها وتنوّعها، وحكمًا بين خصمين.
أما الجدل القائم بشأن تحويلها إلى جامع فما زال مستمرًا، ومن المقرر أن يتم البت فيه خلال الأيام المقبلة، إلا أن هذا التحويل لن يكون سهلًا بالأخص أن المبنى الآن يخضع لعملية ترميم ضخمة ما زالت مستمرة منذ عدة سنوات، وإعادة إعطائه الشكل المناسب ليكون مسجدًا سيتطلب ميزانيةً كبيرة ووقتًا طويلًا بطبيعة الحال، فضلًا عن حكم قضائي تاريخي وإرادة سياسية.