ما زالت دراسة الوجود الروسي الفيزيائي الحديث في المنطقة العربية مصدر بحث وتدقيق لكثير من الدول الغربية ومراكز أبحاثها، بشأن الكيفية التي عبّدت لها طريق الحضور في الشرق وصولًا لشمال إفريقيا، فهناك من يعزو ذلك إلى أنها قوة طموح تبحث عن منافسة في منطقة مضطربة ومليئة بالصراعات التي تحتمل وجود أطراف داعمة، لكن مجمل التحليلات من بسيطها إلى عميقها تذهب إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية فضلت مسار التدخل الضروري وقت الحاجة عن التدخل التام والمباشر، وهذا وضع السياسة الأمريكية في توصيف غير متسق مع قدرتها ونفوذها، ليأتي ملء الفراغ الذي اشتغلت عليه موسكو محققةً حلمًا قيصريًا عمره أكثر من قرنين من الزمن.
فما إن ثبتت روسيا أقدامها على الأرض السورية نهاية عام 2016 بعد حرب دامت أربعة أشهر أفضت إلى تهجير طال أهالي أحياء حلب الشرقية، حتى بدأت ملامح ظهور ساحة تدخل روسي جديد في ليبيا حرمت منها لسنوات بفعل قرار مجلس الأمن الذي تجازوها وأخذ خيار إيقاف آلة معمر القذافي العسكرية وحماية المدنيين.
العودة الروسية من البوابة الشرقية لليبيا
الحرب التي انتهجها الجنرال خليفة حفتر منذ عام 2014 في شرق البلاد، جعلته يبحث عن حليف يرسم معه النموذج التقليدي لحكام العرب في منتصف السبعينيات الذين كانوا يفخرون بالعلاقة مع الاتحاد السوفيتي آنذاك، وبالأخص أنه ذو خلفية فكرية قومية ناصرية، فلن يحيد عن توجه أسلافه، وكأن ربع قرن من العيش في أمريكا لم تغير ذهنيته فمهما دعمته أمريكا في وجوده الحديث في ليبيا، فهناك حدود لا يمكن تجاوزها عندما تلامس الديمقراطية وحقوق الإنسان، أما الروس فكل شيء مباح عندهم، فمجازر الشيشان وأوكرانيا وآخرها دمار حلب هي من شرعنت هيمنتها الحديثة.
في الحال نفسه الرئيس الشاب بشار الأسد المتابع لاختصاصه الطبي في بريطانيا والمدعوم في توريثه الحكم منها ومن أمريكا، مع اندلاع الثورة لم يجد أوفى له من حلفاء والده الروس يدافعون عنه وينفون كل جرائمه الموثقة عالميًا.
وقبل الربيع العربي ليبيا كانت من أهم أسواق تصريف السلاح الروسي في العهد القذافي، ومع اتساع رقعة الصراع وجبهاته المفتوحة واستمرار الحظر الدولي على توريده كان نقطة تقاطع رئيسة بين الروس وحفتر.
اجتماع حفتر بلافروف في موسكو
تسليح مبطن باستشارات وصيانة وتدريب
كان الاتفاق الذي أبرمه حفتر مع الجانب الروسي على متن حاملة الطائرات الروسية (الأميرال كوزنيتسوف) متضمنًا مناورات بحرية وجوية قبالة الشواطئ الليبية، لكن سريعًا ما اتضح غير المعلن منه أن هناك أسلحة ستصل للشرق الليبي، ما استدعى زيارة فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي لروسيا للوقوف على خلفية الاتفاق الموقع واستعداد حكومة الوفاق للقبول بوساطة روسية، الاتفاق كان توطئة حقيقية للامتداد الروسي من شمال المتوسط إلى جنوبه، الذي حمل كل أنواع الإمداد اللوجستي والعسكري بطريقة سرية وأخرى مسربة متقصدة إيصالها كرسائل قوة ضد الأوروبيين المتنافسين (فرنسا – إيطاليا) على ليبيا ومن خلفهما أمريكا.
لقاء حفتر مع الضباط الروس
لكن يبقى الاختلاف عن الشكل السوري أن كل نوعيات الدعم لم تنقطع منذ عام 2011، وتوسعت حتى وصلت إلى شكل من الوصاية من خلال اتفاقية حميميم لتصبح القاعدة العسكرية الروسية التي أعطيت بلا مقابل وإلى أجل غير مسمى، لم يغب عن حفتر ذلك، فطلب من الروس بناء قاعدة عسكرية في ليبيا، لكن لم يرد على طلبه وترك مؤجلًا، حسب ما كشف ليف دينغوف رئيس لجنة الاتصال الروسية المعنية بتسوية الأزمة الليبية.
وهنا للروس أسباب عدة أهمها عدم الذهاب إلى استفزاز مباشر لحلف شمال الأطلسي من ناحية ومن ناحية أخرى ما زالت معظم الجهات الداعمة لطرف حفتر متبدلة في المواقف والآراء، على عكس الثبات الذي حظي به الأسد عام 2013 بعد هجوم الغوطة الكيميائي.
الحرب على طرابلس
لم يكن قرار الحرب على طرابلس عملية مزاجية لشخص الجنرال الذي يبدو لمؤيديه أنه صاحب رأي مستقل في الحرب والسلم، بل طاف على دول الخليج من الإمارات إلى السعودية ومن الأخيرة حسب رأي نعمان بن عثمان مدير مؤسسة كوليام للأبحاث “أخذ حفتر الموافقة على الحرب وتمويلها بعد لقاء الملك سلمان بن عبد العزيز”.
وهنا جاء اتصال ترامب في بداية العملية داعمًا لحفتر وشكّل تشويشًا للرأي العام، بأن الولايات المتحدة التي تدعم حكومة الوفاق والسراج اليوم أصبحت تدعم حفتر، وكذلك الروس دفعوا بحفتر للحرب بعد تأكدهم من أن المؤتمر الجامع الذي كانت البعثة الأممية عازمة على عقده لا يفيدها ولا العملية السياسة القائمة على الانتخابات من خلال مشروع الدستور تحقق غايتها بوصول من يساعدها في السيطرة على إقليم طرابلس الذي طالما حلمت بالوصاية عليه منذ أيام ستالين عندما طالبه في مؤتمر بوتسدام عام 1945.
لقاء موسكو ومخرجات برلين
لم يستطع لقاء موسكو بين طرفي النزاع الليبي وقف إطلاق النار الذي كان يريد رعاته أخذه معهم إلى برلين ليكون أهم شيء يبنى عليه المؤتمر ويرسم خيارات نجاحه، لكن خليفة حفتر تنصل من التوقيع وسبب إحراجًا لروسيا في وقتها.
وكعادتها المؤتمرات الأوروبية ترسخ ثقافة البيانات المثالية التي تحتاج بيئة مستقرة لتطبيق بنودها، ولكن فعليًا لم يستطع أن يوقف القتال أو يحظر السلاح.
إعلان القاهرة وانحسار الدور الإقليمي
مع انتهاء العمليات في ضواحي طرابلس وترهونة وانسحابات قوات حفتر وعناصر الفاغنر باتجاه الشرق، ذهب طرفا الصراع باتجاهين مختلفين، حفتر وعقيلة يلجآن للسيسي ليخرج بمؤتمر صحفي قدم فيه إعلان القاهرة إلى جانبه المسؤولون الليبيون، لم يلق الإعلان صدى واسعًا، فأُلحق به تلويحٌ بالتدخل العسكري دفاعًا عن سرت.
لكن روسيا ترى في سرت خطًا أحمر ولن تقبل بمزاحمة السيسي لها في الهلال النفطي، وفي سياق التنصل من وقع الخسارة صرح أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية: “لقد اتخذ بعض أصدقائنا قراراتهم بشكل أحادي الجانب وقد رأينا ذلك مع حفتر في ليبيا”.
الأرضية الروسية وتوازن القوى
هذه المعطيات تضعنا أمام شكل من تحجيم اللاعبين الإقليميين (مصر – الإمارات) لصالح روسيا المتمددة وتركيا القادمة إلى ليبيا بموافقة أمريكية، وهي من اختبرت رفض وقبول الأمريكان لها في عدد من الحروب بسوريا، لكن حدة تصريحات ماكرون الرافضة للوجود التركي في ليبيا لم تخلق أي تأثير داخل الحلف أو على القرار الأمريكي.
هناك من يحاول إسقاط فكرة آستانة ليكون له شبيه بليبيا، فميزان المقارنة غير دقيق وهي بدأت بالسحب سياسيًا بعد الانتصار التدميري بحلب، أما في ليبيا فقد منيت بخسارة أمام العالم كله بالإضافة إلى أنه لا يوجد لها مكان تموضع ثابت في ليبيا إلا في حال حولت قاعدة الجفرة بشكل تام إلى حميميم ثانية وهذا يحتاج موافقة أمريكية دقيقة وقد يكون مستبعدًا في الفترة الحاليّة.
مؤتمر آستانة لحل الصراع السوري
سرت وحرب على النفط
يتضح من تأخر العمليات العسكرية بعد سيطرة الوفاق على الوشكة وتوقف خط سير العمليات وتحشيد كل طرف لقواته وهذا سبب خلافًا روسيًا تركيًا على سرت، فروسيا حرمت من النفط السوري ودعمت نظام بشار لاستعادة مواقع نفطية في دير الزور وشنت هجومًا على قوات “قسد” المدعومة أمريكيًا، فجاء الرد الأمريكي قاسيًا بطلعات جوية قتل بها 300 عنصر من قوات الفاغنر، فهم لا يريدون أن يصلوا إلى طريق مسدود مع الأتراك لأنها المفاوض عن أمريكا.
بالإضافة إلى أن لقاء الأفريكوم مع حكومة الوفاق رسم حدودًا واضحةً لفكرة العمليات نحو سرت لمحاربة الإرهاب والوجود الروسي في الجفرة.
لقاء حكومة الوفاق مع الأفريكوم
ذهبت روسيا إلى خط آخر هو دخول حقل الشرارة وإيقاف الإنتاج فيه مع السيطرة على أكثر نقطة عسكرية في الجنوب، لمعرفتها بهشاشة وتبدل الوضع الأمني فيه منذ اندلاع ثورة فبراير، لتكون المتحكمة باستجلاب المرتزقة من تشاد والسودان والدفع بهم لجبهات القتال التي تُحضر على تخوم سرت.
هذا التجريب استدعى وتيرة التنديد من السفارة الأمريكية في ليبيا وبعض الدول الغربية بإغلاق النفط، ليتبعه بيان المؤسسة الوطنية للنفط المطالب بتجنيب النفط الإغلاق بعد الخسائر الذي مُني بها الاقتصاد الليبي خلال العام المنصرم.
ليأتي تصريح المسماري عن قبولهم بفتح النفط مقابل التواصل مع المجتمع الدولي بشأن توزيع الإيرادات أي عودة النفط من بوابة تقسيم عوائد الثروات وعودة الكلام عن التهميش الذي تعاني منه المنطقة الشرقية بالأخص بعد تراجع التمويل الإماراتي بسبب الخسارات التي منيت بها قوات حفتر.
يتبين أن الروس دخلوا في عمق الوضع الليبي، لكن حدود الانكفاء سريعة، فمن ترهونة نقلوا عناصرهم تباعًا إلى حدود الجفرة، ولو حسم أمر سرت لصالح الوفاق فسوف تضطر للذهاب شرقًا، فيبقى لهم خيار حفتر السابق من إنشاء قاعدة عسكرية واستثمارات متوقفة منذ نهاية عهد القذافي.