سألت أصدقاء وزملاء وطلبة في الجامعات أيضاً وفي أكثر من بلد عربي خلال الأشهر الماضية عن رأيهم في مسألة انفصال إسكتلندا عن بريطانيا، وهي التي سيحسمها الاستفتاء التاريخي يوم الخميس 18 سبتمبر الجاري. المثير والملفت للانتباه أن الغالبية الكاسحة ممن سألتهم حتى هذه اللحظة يؤيدون بقاء اسكتلندا مع المملكة المتحدة. وعندما أستفسر عن الأسباب التي تبرر هذا التأييد لا تُطرح حجج تفصيلية أو تشي بأن صاحب الرأي على اطلاع ولو معقول بالجوانب المختلفة سواء للرأي الداعم للانفصال أم المؤيد له.
والانطباع الذي أعتقده وهو وجود مزاج عربي واسع وعميق ضد فكرة الانفصال ومُنحاز لفكرة الوحدة بشكل شبه غريزي، وهو الأمر الجدير بالتأمل. فعلى رغم الانهيارات المتتالية للمشروع القومي العربي على المستوى السياسي والإحباطات التي تعرض له، والاستغلال الإيديولوجي للشعارات القومية من قبل أنظمة ديكتاتورية شوهته، إلا أن فكرة الوحدة العربية، وفكرة الانتماء إلى فضاء ثقافي واحد لا تزال متجذرة في الوجدان العربي. ولن يُعجب هذا الكلام كثيرين نعوا الفكرة العربية وأعلنوا موتها مراراً، ولكنها في ضوء التذرّي والتفسخ الطائفي والديني والاثني والسياسي الذي تواجهه المنطقة تثبت أنها الفكرة الأكثر صلابة وديمومة. صحيح أن الإيديولوجيا القومية عانت من أمراض عديدة، كالتوحيد القسري، وغياب الديمقراطية، وإقصاء الأقليات، ولكن ذلك لم يؤثر في جوهر التأييد العميق للفكرة. صحيح أن ليس ثمة تصور مطروح لترجمتها سياسياً وعملياتياً على الأرض في الوقت الحاضر، ولكن ذلك يؤدي إلى شطبها من جدول الخيارات المستقبلية بدليل تمظهراتها القوية في فضاءات الثقافة والإعلام والتواصل واللغة.
في تلك الحوارات العابرة مع زملاء وأصدقاء وطلبة حول المسألة الإسكتلندية كنت أورد حجج مؤيدي الانفصال سواء تلك الاقتصادية أو الهوياتية وذات العلاقة بالشعور الوطني الإسكتلندي المتأصل ضد الملكية، وضد سيطرة إنجلترا التاريخية وبطشها بمن جاورها. كما كنت أسحب الحجج إلى مساحة أخرى حيث موقف “بريطانيا العظمى” السلبي والمدمر في أحيان كثيرة إزاء القضايا العربية، وأن انسلاخ اسكتلندا عن التاج البريطاني يحررها سياسياً من المواقف البريطانية، وذلك في الغالب الأعم سيخدم القضايا العربية. فالمزاج الإسكتلندي قريب من الإيرلندي في تأييده لقضية فلسطين وفي نزعته المعادية للسياسة الأميركية التوسعية هنا وهناك. وإن تقلص بريطانيا جغرافياً وديموغرافياً سيؤدي إلى تقلص دورها ونفوذها العالمي الذي كان في الغالب الأعم على الضد من المصلحة العربية. ومع ذلك بالكاد كانت هذه الحجج تؤثر في الموقف الأعرض وهو غير المؤيد للانفصال، والمائل بوضوح لفكرة الوحدة.
ثمة تقديرات ربما تكون غير دقيقة بوجود حوالي 700 ألف عربي يعيشون في اسكتلندا ويحملون الجنسية البريطانية ويحق لهم التصويت يوم الخميس القادم. والبعض يرى أن هذا العدد كفيل بأن يرجح كفة النتيجة إن مالت أغلبيته الكاسحة إلى رأي معين وصوتت باتجاه الانفصال أو استمرار الوحدة. وربما كانت في هذه التقديرات بعض المبالغات ولكن سيكون من المثير فعلاً، بحثياً ومعرفياً، استكناه رأي “عرب اسكتلندا” في مسألة الانفصال ومعرفة لمن تصوت أكثريتهم، ولماذا؟ وفي الوقت نفسه سيكون من المُعلم والمفيد لو أجريت بعض الاستطلاعات المسحية العلمية لاستكشاف المزاج العربي حول فكرة هذا الانفصال. بل وربما توسيع ذلك إلى قضايا “انفصالية” وخلافية أخرى مثل مطالبات إقليم الباسك وانفصاليي كرواتيا.
والانطباع الأولي والتخميني، لدى كاتب هذه السطور على الأقل، هو أن نتائج مثل تلك المسوحات فيما لو أجريت ستؤشر إلى تفضيل واضح لفكرة الوحدة، حتى من دون الانخراط في التفاصيل وفي الأسباب التي تجعل كثيرين من سكان تلك المناطق يطالبون بالاستقلال والانفصال. وهذا يحيلنا مرة أخرى على معاودة فتح ملف فكرة الوحدة العربية وهي على رغم طوباويتها السياسية وعدم طرحها كبرنامج سياسي من قبل أي دولة أو حزب ذي جماهيرية حقيقية، لا تزال تعيش في الوجدان العربي العميق. وهي تعيش أيضاً وتؤيدها بقوة، وبما يلفت الانتباه أكثر، بعض الشرائح الشبابية العربية التي ولدت في المهجر ولا تتقن في مجملها اللغة العربية أصلاً.
وهذا يفتح باب نقاش آخر حول “الهوية العربية” وتعريفها، ويذكر بنقاش معمق أداره الكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز في كتابه عن “نقد الخطاب القومي”. وفيه يرفض بلقزيز، وعلى خلاف مع كثير من المقاربات القومية الكلاسيكية، أيَّ تعريف يجذر الهوية بأطر جوهرانية وثقافوية تاريخية، تركز مثلاً على العرق، أو اللغة، أو الدين، أو التاريخ، فـ”عرب اليوم” يتجاوزون تلك التعريفات الحصرية والمقيدة، فأين يقع -مثلاً- أبناء العرب في المهاجر ممن لا يتكلمون العربية؟ وأين يقع غير العرب من المواطنين الذين ربما لا يتقنون العربية ولا ينتمون عرقياً لأي جنس “عربي”؟ وأين تقع الهوية الدينية في كل هذا اللبس؟ وأين يقع المسيحيون العرب إذا ما أدمجنا الإسلام في تعريف الهوية العربية؟ الجواب الحاسم عند بلقزيز هو أن الهوية الحديثة تعرف فقط ضمن إطار سياسي ومواطني: الدولة الوطنية الديمقراطية هي مناط تعريف الهوية، وهذه الهوية تصبح ماهيتها سياسية قانونية في المقام الأول، وتتراجع أي مكونات ثقافوية أو تاريخية لتأخذ المقعد الخلفي. وعندما نعيد تدوير هذا النقاش النظري في ضوء مثال وحالة عملية وواقعية تقوم حول تأييد حالة وحدة معنية لا علاقة للعرب بها على حالة الانفصال، فإن ذلك يدلل على أن الفكرة والنقاش حولها لم يموتا بل لا زالا على قيد حياة متحدية.
نُشر هذا المقال في موقع عربي 21