ترجمة وتحرير: نون بوست
دخلت الروائية المشهورة، بوروشيستا خاكبور، المشهد الأدبي مع رواياتها أبناء ومواد أخرى قابلة للاشتعال (2007) والوهم الأخير (2014)، وباتت اليوم تحظى بشعبية بفضل قصصها الخيالية التي تتطرق إلى قضايا الهوية والانتماء. كما وثّقت مذكراتها، التي تحمل عنوان “مريض” ونشرت سنة 2018، صراعها مدى الحياة مع مرض لايم.
استوحت عنوان كتابها “الألبوم البني” من عنوان كتاب جوان ديديون لسنة 1979 “الألبوم الأبيض”، الذي يسلط الضوء على تراجع الهوية الأمريكية في الستينيات، ويضم كتاب “الألبوم البني” مقالات نشرت على مدى سنوات أصبحت فيها خاكبور “المتحدثة باسم شعبها وهو دور لم تحلم به أبداً ولم تطالب به مطلقا”.
خلال سنة 1978، ولدت خاكبور في طهران لأبوين مواليين لنظام الشاه، وكانا من أبناء الثورة. تزامن حفل عيد ميلادها الأول مع رحيل الشاه من إيران في 16 كانون الثاني/ يناير 1979، وهي وضعية اعتبرتها عائلتها مؤقتة، وهي الطريقة التي نظر بها والد خاكبور إلى منفاه اللاحق إلى لوس أنجلوس بعد ذلك بسنتين.
كان والدا خاكبور من المهنيين العلمانيين والمتعلمين في طهران الذين انتقلوا إلى منطقة منخفضة الدخل في باسادينا.
من جانب آخر، كان والدا خاكبور علمانيين ومتعلمين، من الأطفال الذين نشأوا في المدينة وعملوا في منظمة الطاقة الذرية في إيران. بينما كان والدها “يخشى من استخدام كلمة النظام الملكي”، كان ولائهما يميل نحو الشاه. قبل الثورة، كان والدا خاكبور يستمتعان بالسهر حتى بزوغ الفجر، ويشتريان الملابس باهظة الثمن ويعيشان في حي طهران الراقي. وكانت المشكلة الوحيدة التي يواجهانها هي جهاز السافاك، وهي منظمة سرية تخدم مصالح الشاه، وكانت مسؤولة عن عمليات الاختفاء القسري للكثير من المعارضين بين عشية وضحاها.
سرعان ما انتهت الحفلات، واستُبدلت موسيقى المغنية الايرانية كوكوش بصوت صفارات الغارات الجوية التي تشير إلى حرب مع العراق. سنة 1979، أطاحت انتفاضة شعبية ضد الشاه بالنظام واستغل رجال الدين الثورة لتركيز دولة دينية. كان والدها، أستاذ الرياضيات، في الخامسة والثلاثين من عمره عندما قرر مغادرة إيران بسبب الوضع السياسي. ومع ذلك، كان يعتقد دائمًا أنه سيعود، ومازال يأمل في ذلك، على حد تعبير خاكبور.
في هذا السياق، كتبت خاكبور عن والدها: “كان كل شيء يقوم به بشكل صاخب، حتى ضحكته. لقد كان يعزف الموسيقى الأصلية بصوت عال للغاية، ويُصلى بكل ما أوتي له من قوة، وعندما كان يتحدث عن بلاده، لم يكن يقصد هذا أبدا”.
من الغنى إلى الفقر
بعد ذلك، أضحى منفى والدي خاكبور “المؤقت” دائمًا، لا سيما بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وتعزيز النظام سلطته. نشأت خاكبور مع شعور قوي بالهوية الإيرانية، لكنها واجهت تحدي التوفيق بين هويتها الإيرانية والعيش في أمريكا. عندما وجدت نفسها ممزقة في هذا العالم لا سيما بعد أن تركت وراءها منزلها وممتلكاتها في إيران، تمسكت بالكتب لترسيخ ذاتها. في هذا الإطار، قالت خاكبور إن “القراءة والكتابة كانت كل ما لدينا”. منذ سن مبكرة، استخدمت الكتب والكتابة هربًا من الواقع الذي عاشت فيه.
في الواقع، تكرس خاكبور الكثير من وقتها لمحاولة تقبل العيش في أمريكا، وتقبل ما يعنيه أن تكون بنيًا في مجتمع ذي أغلبية بيضاء. خلال فترة الثمانينات، عندما كانت تعيش في لوس أنجلوس، تتذكر العزلة التي كانت تعاني منها باعتبارها الإيرانية الوحيدة في المدرسة التي كانت تزاولها في مدينة باسادينا، وتعيش في منطقة ذات دخل منخفض في مدينة غنية في الغالب. كما ذكرت خاكبور كيف كان معلمها ينعتها بالواشية، نظرا لاتباعها القواعد بشق الأنفس والإحراج الذي تشعر به عندما تركب جملًا في حديقة الحيوان عندما كانت طفلة، خوفًا من ربطها بالصورة النمطية المتصلة بالشرق الأوسط باعتبارها من “فرسان الجمال”. في هذا الصدد، تساءلت خاكبور قائلة “كيف أعرف هذا المصطلح؟ لا أعلم كيف أعرف هذا المصطلح “.
من ناحية أخرى، تتذكر خاكبور كيف اعتادت على قص شعر دماها الأسود، وتطلق عليها “أسماء فارسية مثل بحارة، بانافشة، سكيباريه”. وكان ذلك نابع من شعورها بالحاجة إلى التمثيل في مجتمع لا يضم أشخاصًا يشبهونها. على الرغم من أنها تمكنت من تكوين صداقات في المدرسة وتحاول الاندماج، كانت تعاني من العنصرية التي تطاردها بسبب بشرتها البنية، والتمييز الذي ستواجهه كفتاة أصيلة من أبرز الدول التي تحظى بسمعة مشوهة في الشرق الأوسط.
في خضم العدد الهائل من أزمات هويتها، لا تعثر خاكبور على شخصيتها فقط، بل تبني نفسها أيضا
اشتهرت لوس أنجلوس، التي تعرف منذ فترة طويلة بأنها نواة للمغتربين الإيرانيين، بكونها موطن الإيرانيين الأغنياء الذين يعيشون في ويستوود وبيفرلي هيلز، والمعروف باسم طهرانجلس. يقدم مسلسل شاهات الغروب وهو برنامج تلفزيوني واقعي من إنتاج رايان سيكرست، لمحة عن حياة سكان طهرانجلس، الذين يتسوقون في متاجر لوس انجلوس باهظة الثمن ولا تعتبر جراحات الأنف من الأشياء غير المألوفة.
لكن على الجانب الآخر من المدينة، نشأت خاكبور في “مشاريع جنوب باسادينا”. وتصف العيش في شقتها الرثة التي تحتوي على الكثير من العفن وسجادة متحللة. كانت حياة خاكبور بمثابة تحول من الغنى إلى الفقر، ناهيك عن أنها كانت تعيش على وقع الحنين إلى الحياة في إيران” قبل أن تدمر الثورة كل شيء”. على غرار بعض الموالين للنظام الملكي في طهرانجلس، الذين كان دعمهم لنظام الشاه مرتبطًا بثروتهم الخاصة، كانت خاكبور تلقب نفسها بالفارسية، مستمتعة بشعورها بالفخر القومي والرجعي لبلاد فارس القديمة الذي يعد قورش الكبير والملك دارا الأول من رموزها والإمبراطورية الفارسية التي يعتبر تخت جمشيد والآيس كريم الفارسي بالزعفران والفستق من الأشياء المشهورة فيها! والسجاد! […] هل ذكرت القطط الفارسية؟”.
لكن مع تقدمها في العمر، أضحت أكثر نضجا حيال هويتها الإيرانية، بدلاً من سعيها إلى إضفاء طابع عاطفي على ماض فارسي من المحتمل أن يكون غير موجود أساسا. باتت تستوعب تقلص درجة حنينها للنظام الملكي الإيراني، وتصر على تقبل “الحاضر الذي يشكل معضلة بالنسبة لها” باعتبارها تنحدر من أصول إيرانية. وتشمل المشاكل التي تواجهها العقوبات القاسية المفروضة على البلاد، والاحتجاجات من أجل الديمقراطية أثناء فترة الثورة الخضراء ومحاربة رهاب الإسلام في الولايات المتحدة.
في الواقع، سئمت خاكبور من النفاق الذي يطغى على سكان لوس أنجلوس. في سنة 1996، بدأت رحلة خاكبور نحو تقبل مكانتها في أمريكا حين انتقلت إلى نيويورك للالتحاق بالكلية، حيث وجدت المنزل الذي كانت تبحث عنه منذ طفولتها، الذي كان ملاذ آمن لروح خلاقة مثلها. لكن تقبل هويتها ما زال أمرا بعيد المنال بالنسبة لها.
في مدينة نيويورك، انتقلت خاكبور من مكان إلى آخر وتسكعت في النوادي الليلية وتجولت في المدينة، وتعاطت المخدرات واستكشفت ميولاتها الجنسية. كما خضعت لتدريب في مجلة “فايب” المختصة في عالم الهيب هوب، وحصلت على وصلات شعر مضفورة حتى الوركين.
ذات مرة، اعتقد أحد منسقي الأغاني أن خاكبور ثنائية الأعراق، فكان ردها أن تبنّت الكذبة على أنها حقيقة ولكن شعورها بالذنب دفعها إلى قطع اتصالها مع منسق الأغاني. في نهاية المطاف، توقفت عن الهرب وقررت أخيرا تقبل هويتها ككاتبة عشرينية من أصل شرق أوسطي تعيش في واحدة من أكبر المدن في العالم.
بمعنى ما، إن كتاب “الألبوم البني” يدور حول المنافذ التي يشغلها الأشخاص ذوو البشرة البنيّة في الولايات المتحدة، وصراعهم مع المقياس المتأرجح بين الأسود والأبيض، والعار المستمر الذي طمسه الفخر بوطن قديم ممنوعون من العودة إليه بشكل دائم، ولعبة التمويه وإعادة اختراع الهوية وتغيير الرموز.
بقدر ما يتعلق الأمر بهوية خاكبور في الشرق الأوسط، فإنه يتعلق أيضا بكونها أمريكية وبقرار اعتناق هوية مزدوجة، وكيف أنها في خضم العدد الهائل من أزمات هويتها، لا تعثر خاكبور على شخصيتها فقط، بل تبني نفسها أيضا. حيال هذا الشأن، كتبت خاكبور: “الدرس الأول: يمكن أن أكون على طبيعتي، وهذه الطبيعة موجودة حقا وبكل صدق وبشكل رهيب”.
بدأت رحلة خاكبور لقبول مكانها في الولايات المتحدة في الحقيقة عندما انتقلت إلى نيويورك للدراسة في الجامعة سنة 1996.
بعد مرور سنة على تخرجها من الجامعة، كافحت خاكبور لتكون كاتبة نهمة، حصلت على عمل مستقل ولكنها بقيت “عاطلة عن العمل بشكل ميئوس منه”. لقد راقبت في رعب عملية اصطدام طائرة بالبرجين التوأمين من خلال الجدار الزجاجي للطابق الخامس والعشرين لإحدى ناطحات السحاب في إيست فيليدج. وبينما شاهدت البرج يحترق تحت وقع الصدمة التي تقاسمتها معها المدينة بأكملها، أدركت خاكبور في تلك اللحظة أنها أصبحت من سكان نيويورك. وفي هذا الصدد، قالت: “لقد أفقت ورأيت كل شيء ولم أنظر إلى الخلف أبدا. لقد تطلب اكتشاف من أنا انهيار عالم كامل من حولي”.
بالفعل، انهار عالمها. بعد تلك الحادثة، وقع اختيار رواية خاكبور للنشر، لكن النجاح لا يبشر دائما بالرونق والارتياح. فعندما سطع نجمها، تدهورت صحتها وأنفقت التسبقة المالية التي حصلت عليها في البحث عن تشخيص لمرضها واضطرت إلى بيع إرث عائلتها من إيران لتغطية نفقاتها.
كشفت خاكبور عن واقع التجويع الذي يميز العيش على الكتابة. فقد عملت كمربية لتسديد تكلفة العيش في مدينة نيويورك وكافحت مع الشقق الرطبة التي أدت إلى تفاقم مرضها. وعلى طول الطريق، التقت خاكبور بأصدقاء وغرباء يشاركونها تجربتها كشخص ذي بشرة بنية في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان بينهم صديقها الفلسطيني العراقي، وهو مدان سابق ومدمن متعافي، الذي توفي بسبب جرعة زائدة من المخدرات قبل وقت قصير من توقيع خاكبور على صفقة كتابها.
في العزلة المستقلة التي توفرها لها وظيفة الكاتبة، وجدت خاكبور جوانب إيجابية. بعيدا عن أصدقائها وعائلتها الفارسية، وأثناء عيشها في مبنى في هارلم يسكنه مسلمون في الغالب، تلقت دعوة لعيد رأس السنة الفارسية “نوروز” على بابها. ومع ذلك، حتى عندما كانت خاكبور تبني مكانتها في الولايات المتحدة الأمريكية، كانت لا تزال تتعامل مع التمييز كشخص من أصول إيرانية ومسلمة وشرق أوسطية، وسط تزايد الكراهية للإسلام بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر (وذلك على على الرغم من أن والدها المهتم بالزرادشتية رباها على الأغنوستية) وتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مع إضفاء الطابع المؤسسي على الحرب الدولية على الإرهاب.
تظل مشاعرها متضاربة، كما هو الحال دائما. رغم ردة فعلها الأولية من الصدمة عندما شاهدت نساء يرتدين البرقع في بروكلين، إلا أنها تجد نفسها تدافع عن تلك الثقافة المشتركة عندما تكون مهددة، ثم يتحول كل ذلك – على حد تعبيرها – “إلى عاطفة قوية، وغضب واقي، عندما أرى مجموعة من المراهقين يضحكون ويشيرون إليهن”.
إن هوية خاكبور الإيرانية ليست أقل إثارة للخلاف. في الواقع، يصادف أن عم خاكبور هو الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، الذي غالبا ما يُنسب إليه الفضل في بدء برنامج إيران النووي. وعلى الرغم من دوره في الشؤون العالمية المثيرة للانقسام، إلا أنه بالنسبة إلى خاكبور كان “أحد الأقارب الذين وافقوا على شعري ذي الخطوط الأرجوانية وتمردي، ولم يُصدم عندما رآني أدخن”.
في قراءات كتابها الأول بعنوان “أبناء وأشياء أخرى قابلة للاشتعال” الصادر سنة 2007، سُئلت خاكبور حول رأيها في محمود أحمدي نجاد، الذي ظهر في الأخبار في ذلك الوقت بفضل إلقاء خطاب في جامعة كولومبيا، ووقع التشهير به كرمز للديكتاتورية الإيرانية من قبل الصحافة الغربية. ولكنها تعلمت الآن أن تتجنب الأزمات النفسية المتعلقة الهوية بدلا من استيعابها. وعندما طُرح عليها السؤال الذي لا مفر منه في القراءة، قالت: “لم أقم بمواعدة محمود أحمدي نجاد مطلقا، وبالتالي ليس لدي نظرة ثاقبة عمن كان وما يفكر فيه”.
العيش في الولايات المتحدة خلال عهد ترامب
في كانون الثاني/ يناير 2017، عندما حظر دونالد ترامب السفر من ست دول ذات أغلبية مسلمة، بما في ذلك إيران، خشيت خاكبور من أن تصبح لاجئة مرة أخرى، في الوقت الذي قبلت فيه الولايات المتحدة كوطن لها. وقالت خاكبور: “يمكننا تخطي بذلك. لقد فعلت ذلك أنا وعائلتي من قبل”، لكنها لا تعرف ما إذا كانت تريد الفرار من منزل بنته بنفسها “مرتين”.
مع تصاعد القومية البيضاء بعد فوز ترامب في الانتخابات، ووحشية الشرطة، علّقت خاكبور على طموح البعض من “ذوي البشرة البيضاء” الذين ينحدرون من الشرق الأوسط في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنها يمكن أن تُقبل بشكل محدود على أنها بيضاء، فإنها ترفض الأفكار التي تقول إن الإيرانيين جميعهم من ذوي بشرة “قمحية اللون”.
في عملها الفريد، “الألبوم البني”، قررت خاكبور أن تخلق مساحة لها بصفتها إيرانية أمريكية بنية اللون وليست بيضاء، وتقف ضد الظلم الذي يتعرض له المنبوذين من المجتمع. تحدثت عن رؤية العلم الكونفدرالي المعلق في نفس الحي الذي يعيش فيه والداها، وصعود حركة “حياة السود مهمة”، ومواجهة حادثة عنصرية في الجامعة، أين تُدرّس الكتابة. في الواقع، أراد الطلاب طردها بعد أن انتقدت مؤلفا أبيض ذي أعمال عديدة. صحيح أن خاكبور لم تفقد وظيفتها، إلا أن الحادثة مثلت صدمة بالنسبة لها.
إن العيش في الولايات المتحدة خلال عهد ترامب ليس بالأمر السهل. ولكن بدلا من الاستسلام، تحارب خاكبور من أجل مكانها في وطنها الدائم. وكتبت خاكبور عن الولايات المتحدة قائلة: “لقد أحببت هذا البلد بالحب الفاتر، المائي، الحاضر والغائب الذي تضفيه على أي بلد عندما يكون البلد الوحيد الذي تعرفه. لقد تقبلته ولكني لم أظن أنه قد لا يتقبلني، حتى وقت لاحق. الحب صعب والقبول أصعب والانتماء لا يزال الأصعب من بينها”.
المصدر: ميدل إيست آي