ربحت الجزائر الجمعة إحدى قضايا الذاكرة التي تخوضها ضد فرنسا البلد المحتل السابق، بعد أن تمكنت من استرجاع جماجم 24 شهيدًا من أبطال المقاومة الشعبية في القرن الـ19، كانت تحتفظ بهم باريس منذ سنين في “متحف الإنسان” الذي تغيب عنه الإنسانية، لأنه يؤرخ بفخر لمنهجية قطع الرؤس التي استلهمتها لاحقًا تنظيمات كداعش وباتت باريس تسابق للتنديد بها اليوم، لكن التاريخ يثبت أن عقيدة قطع الرؤوس وتصويرها مصدرها فرنسا التي قطعت رؤوس هؤلاء الشهداء لرفضهم احتلالها، وعرضت بشاعة جرائمها بكل اعتزاز في متحف ليراه الجميع.
قد يعتقد البعض ممن ليست لهم خلفية عن هذا الموضوع أنه ربما لا يستحق كل هذا الاهتمام الذي حظي به في الجزائر، لأنه لا يعلم أن هذا الملف يعكس تخلي فرنسا عن تعنت سلكته لسنوات بشأن هذا الملف وبتقاعس رسمي جزائري أيضًا، لكن يبدو أن جزائر ما بعد حراك 22 من فبراير/شباط 2019 ستبني أسسها على إنهاء الهيمنة الفرنسية المستمرة حتى ولو كانت العملية تتم ببطء وبتدرج كبير.
قصة ومفاوضات
يتبادر إلى ذهن الكثير سؤال لماذ تم استرجاع جماجم هؤلاء الأبطال الـ24 ولم تستعد رفات جثامينهم كاملة، والجواب أن الاستعمار الفرنسي عمد قطع رؤوس هؤلاء القادة انتقامًا منهم لرفضهم الاحتلال الفرنسي في 5 يوليو 1830، الذي كان عبر مقاومات شعبية للقبائل خلال القرن الـ19 عبر جميع أنحاء الجزائر.
وكان الاستعمار الفرنسي يحاول أن يكون عمله الإجرامي عبرة لكل من يرغب في رفض احتلاله الغاشم، غير أن ذلك لم ينفع حتى ولو دام اغتصابه 130 سنة، واستمر بإبقائه هذه الجماجم لأكثر من 170 سنة في متحف “الإنسان” بباريس.
وفق ما كشفته وسائل إعلام فرنسية عام 2016، فإن متحف الإنسان يحوي 18 ألف جمجمة، منها 500 فقط تم التعرف على هويات أصحابها، وهو رقم لا يختلف كثيرًا عما فعله تنظيم داعش في السنوات الأخيرة، وتحدثت تقارير سابقة أنه يوجد ضمن آلاف الجماجم هذه بين 31 – 36 جمجمة تعود لقادة من المقاومة الشعبية الجزائرية خلال القرن الـ19.
تضمنت القائمة الإسمية للرفات التي تم استرجاعها جماجم محمد لمجد بن عبد المالك المعروف باسم شريف “بوبغلة” و”رأس محنطة” للضابط الجزائري عيسى حمادي والشيخ بوزيان قائد مقاومة الزعاطشة بمنطقة بسكرة وموسى الدرقاوي وسي مختار بن قويدر الطيطراوي ومحمد بن علال بن مبارك مساعد الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة.
وكانت هذه الجماجم تؤخذ على أنها غنائم حرب قبل أن توضع بمتحف الإنسان بباريس.
ولعل من القادة البارزين الذين استرجعت جمجمته الشريف ببوغلة الذي قطعت رأسه وهو حي عام 1854، بالنظر إلى الخسائر التي كبدها للاستعمار الفرنسي بوسط البلاد خاصة في منطقة القبائل سواء عندما كان يقود المقاومة أم عندما انضم لمقاومة لالة فاطمة نسومر، إضافة للشيخ بوزيان قائد مقاومة الزعاطشة الذي قطعت رأسه ورأس ابنه وسي موسى الدرقاوين وتم التمثيل بها في معسكر الجنود بالزعاطشة ثم في بسكرة جنوب الجزائر “ليكونوا عبرة لمن يحاولون السير على خطاهم”، ففي 26 من نوفمبر/تشرين الثاني 1894 ارتكب الجيش الفرنسي مجزرة راح ضحيتها ألف شخص من أهالي منطقة الزعاطشة قتلًا بالخناجر.
وأثير هذا الملف في 2011، ليباشر عدة نشطاء وحقوقيين جمع توقيعات لاسترجاع هذه الجماجم، رافقه تحرك رسمي واضح في 9 من يونيو 2016، حسب وزارة المجاهدين حينما تم تبادل مراسلات مختلفة وعقد اجتماعات تنسيقية عديدة بين القطاعات المعنية (الوزارة الأولى ووزارتي الشؤون الخارجية والمجاهدين)، لإدراج القضية ضمن المباحثات الجزائرية الفرنسية وإيجاد السبل المناسبة لاسترجاع هذه الرفات.
أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما زار الجزائر في ديسمبر/كانون الأول 2017 استعداده لتسليم جماجم شهداء المقاومة الشعبية، لتتبعها مفوضات بين البلدين، كانت فيها باريس تبدي تعنتًا واضحًا حسب تصريحات وزير المجاهدين الطيب زيتوني، مع عدم جدية نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في التكفل بهذا الملف، غير أن حراك 22 فبراير 2019 الذي كان ينادي بقطع العلاقات مع باريس وثار ضد التواطؤ الفرنسي مع نظام بوتفليقة، أجبر إدارة ماكرون على إعادة حساباتها بهدف التأقلم مع الوضع الجديد في الجزائر، خاصة مع بروز موجة في شمال إفريقيا والعالم تستهجن كل ما له علاقة بالاستعمار والعنصرية.
ورغم الأهمية التي يشكلها استرجاع رفات الشهداء، فإنها تبقى نقطة من بحر خلاف الذاكرة بين البلدين، ومنها الأرشيف الذي ترفض فرنسا تسليمه للجزائر، وتوقفت المفوضات بشأنه منذ ثلاث سنوات بسبب تنحية مدير الأرشيف الفرنسي، وبقاء هذا المنصب شاغرًا في واقعة لا يمكن أن تحدث في باريس إلا إذا كانت تخفي وراءها مآرب أخرى.
احتفاء رسمي وشعبي
منذ أن أعلن الرئيس عبد المجيد تبون الخميس استلام الجزائر رفات 24 شهيدًا من فرنسا ونقلهم للدفن في مربع الشهداء بمقبرة العالية في العاصمة الجزائر، عاش الجزائريون رغم الضنك السياسي والصحي الذي تعيشه البلاد بسبب ضبابية المشهد في البلاد وجائحة كورونا حالة من الغبطة والاحتفاء بعودة هؤلاء الأبطال إلى بلادهم.
وفي الجانب الرسمي، تم نقل الرفات على متن طائرة عسكرية حطت بمطار الجزائر الدولي هواري بومدين وسط استعرض عسكري بالمناطيد، وبحضور الرئيس تبون وكبار المسؤولين في الدولة الذي استقبلوا وصول الموكب الذي أقل هذه الرفات.
وقال الرئيس تبون: “مضى على حرمان هؤلاء الشهداء من حقهم الطبيعي والإنساني في الدفن، أكثر من 170 سنة “، وأكد أن الدولة عازمة على إتمام استرجاع رفات المقاومين حتى يلتئم شمل جميع شهدائنا فوق الأرض التي ضحوا من أجلها بأعز ما يملكون.
وأضاف “احتفالات هذه السنة بعيد الاستقلال ستكون أيضًا لحظة من اللحظات الحاسمة في تاريخ الأمة، فهي تتميز باسترجاع رفات مجموعة من شهداء المقاومة الشعبية الأبطال الذين تصدوا لبدايات الاحتلال الفرنسي الغاشم في الفترة ما بين 1838 و1865”.
وتحتفل الجزائر الأحد المقبل بالذكرى الـ58 لاستقلالها عن الاحتلال الفرنسي بعد كفاح طال 132 سنة.
أما رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق السعيد شنقريحة فقال فور وصول الرفات إلى الجزائر: “ها هم أبطال المقاومة الشعبية يعودون إلى الأرض التي ضحوا من أجلها بأرواحهم وحياتهم، والعلم الوطني يرفرف فوق أرواحهم الطاهرة التي سرقها الاستعمار البغيض وهربها وعرضها في متحفه منذ أكثر من قرن ونصف قرن للتباهي والتفاخر دون حياء ولا أخلاق ولا اعتبار لكرامة الإنسان، إنه الوجه الحقيقي لجرائم الاستعمار ووحشيته”.
وسيتمكن المواطنون السبت من إلقاء النظرة الأخيرة على رفات الشهداء قبل دفنهم الأحد بمقبرة العاليا.
وغصت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات تحتفي بهذا الحدث العظيم، فقد كتب الصحفي هشام موفق “عيشوا هذه اللحظات ولا تضيعوا دقيقة منها.. املأوا قلوبكم بحب الشهيد والامتنان له، وارفعوا منسوب حب الوطن، فهذا يوم يغيظ المنافقين”، أما الكاتب الصحفي حكيم مسعودي فقد اعتبر “إعادة الرفات ودفنهم ليس فقط تكريمًا للشهداء الأبطال بل إعادة اعتبار لنا نحن أحفادهم الأحياء”.
وعلى تويتر، تم تداول وسم #الشهداء_يعودون بكثرة، ليكون ضمن التغريدات الأكثر تداولًا في الجزائر، وغردت المذيعة البارزة في قناة الجزيرة خديجة بن قنة قائلة: “من بين 14 ألف جمجمة مرصوصة فوق أدراج “متحف الإنسان” في باريس منذ 170 عامًا.. تعود اليوم إلى الجزائر 24 جمجمة، لتفتح جروح الذاكرة في أروقة محكمة التاريخ. الشهداء العائدون سيجدون جزائر أخرى غير تلك التي استشهدوا من أجلها كي يعيش الإنسان حرًا شامخًا في وطنه”.
وإذا كان هذا المشهد التاريخي قد حرك روح الاعتزاز بالجزائر وطنًا، فإن الأهم أن ينعكس على أداء الجميع في تحقيق حلم الشهداء الذين من المؤكد أنهم ضحوا بأنفسهم من أجل وطن قوي ليس كالذي تقبع فيه البلاد اليوم، لذلك من الواجب أن تكون هذه اللحظة التاريخية فرصة لتدارك الأخطاء وبداية لتحقيق الهدف المنشود الذي طال انتظاره.
واقع جديد
في الحقيقة، لا يتوقف استلام الجزائر 24 رفات من شهدائها على تسوية ملف تاريخي عادي إنما ينبئ بدخول علاقات البلدين مرحلة جديدة تناقش فيها مختلف الملفات على أعلى مستوى حتى الشائكة منها، بالنظر إلى أن السلطة الجديدة في الجزائر تبدو مصرة على معالجة ملف الذاكرة كليًا، ويظهر ذلك من خلال تعيين مدير الأرشيف الوطني عبد المجيد شيخي مستشارًا للرئيس تبون مكلفًا بالذاكرة الوطنية.
وقال شيخي: “لا توجد إرادة حقيقية لدى الجانب الفرنسي لطي ملف الأرشيف نهائيًا، لكن الجزائر لن تتراجع أبدًا عن مطالبتها باسترجاع أرشيفها”، وأضاف أنه ستنعقد ربما في الشهر الحاليّ اللجنة الكبرى الجزائرية الفرنسية، وستكون مسألة استرجاع الأرشيف الوطني ضمن الملفات التي سيتم التطرق إليها خلال أشغال هذا اللقاء.
أصبح ملف الذاكرة ضمن أولويات الرئاسة الجزائرية، فمؤخرًا تم اعتماد يوم 8 من مايو يومًا للذاكرة تخليدًا لـ45 ألف جزائريًا قتلوا في مجازر ارتكبها الاحتلال الفرنسي في 8 من مايو 1945 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لما خرج الجزائريون يطالبون بالاستقلال عن فرنسا الاستعمارية.
ويبقى هذا الاهتمام بتاريخ البلاد خاصة زمن الحقبة الاستعمارية دون جدوى في حال لم يتوج بسن قانون تجريم الاستعمار الذي سيسمح بمطالبة فرنسا بالاعتذار والتعويض عن جرائمها طيلة 132 سنة.
في المقابل، انتبهت باريس لإمكانية خروج الجزائر عن هيمنتها، خاصة بعد الاحتجاجات الأخيرة ضد سياستها واستدعاء السفير الجزائري في باريس للتشاور، الأمر الذي جعل إدارة ماكرون تفكر في إنهاء مهام سفيرها في الجزائر الذي أصبح غير مرغوب فيه.
وبعد حراك 22 فبراير، لم تخف السلطات الجزائرية رغبتها في التخلي عن هيمنة الفرنسية على مناهج التعليم في البلاد، وأعلنت السعي لاستبدالها بالإنجليزية في أقرب الأوقات، كما استعملت الجزائر حق الشفعة لمنع شراء توتال الفرنسية حصة لأناداركو الأمريكية في حقول بترول بالجزائر، وهو ما كان رسالة واضحة لإدارة ماكرون التي بدأت خيوط التحكم في دول شمال إفريقيا تضيع منها بطرح البرلمان التونسي لائحة لمطالبة باريس بالاعتذار والتعويض عن فترة الاستعمار، وضياع خيوط اللعبة في ليبيا من بيدقها خليفة حفتر لصالح قوات حكومة الوفاق الوطني.
الأكيد أن الكثير من الجزائريين ذرفوا دموعهم أمس عند مشاهدتهم صور عودة رفات الشهداء إلى أرضهم التي ضحوا من أجلها، في لحظة وطنية قد لا يفهمها آخرون، لكن الأهم اليوم أن تعمل السلطة على أن تكون الجزائر الجديدة التي تتحدث عنها في مستوى ما تمناه الشهداء وتوقف شعور الغربة وعدم اكتمال الاستقلال الذي يشعر به الجزائريون اليوم في وطنهم.