الطموح وإثبات الذات أم الأمومة، أيهما أولى؟ كيف أوفق بين العناية بطفلي ومتابعة دراستي؟ الأسرة ومسؤولياتها.. كيف أدير الأمر؟
أسئلة تواجه الأم التي اختارت الجمع بين دراستها وأمومتها، فلم يعد غريبًا وجود الأم على مقاعد الدراسة، بل بات من الأمور الشائعة في بلداننا، فالمرأة اليوم تلعب دورًا مهمًا في المجتمع على كل الأصعدة الاجتماعية والفكرية والسياسية، ما يعزز لديها الرغبة في إثبات ذاتها وتميزها الأكاديمي أو المهني، بالإضافة للأمان المادي والفرص الأقوى التي قد تحظى بها المرأة المتعلمة عن غيرها.
في هذا التقرير، نقترب من قصص ثلاث سيدات خضن تجربة الأمومة والدراسة معًا، تجارب مختلفة لكل واحدة منهن، كيف عشن التجربة؟ وكيف رتبن أولوياتهن؟ وكيف صمدن في وجه التحديات؟ ثم نسأل خبيرات تربويات واجتماعيات عن رأيهن في الموضوع.
كل شيء قابل للتعويض.. إلا!
“كنت حديثة الولادة لتوأمين، ولم أجد تعاونًا من المعيدين في الجامعة”، تقول غفران الزبكي، وتضيف لـ”نون بوست” أن الجامعة كانت تبعد ساعتين عن منزلها وكانت تأخذ طفليها معها إلى الجامعة كل يوم حتى ترضعهم، لم يكن في الجامعة استثناء لظرفها كاستثنائها من الدوام مثلًا، وبسبب تغيبها عن بعض الدروس رسبت في بعض المواد!
“لم يكن يزعجني التعب الجامعي بقدر التقليل من شأن دراستي من المجتمع المحيط بي، وإشعاري بالتقصير تجاه طفلتي وأنني لا أعطيها حقها من الرعاية”، هذا ما استصعبته سنى عثمان، في مشوارها الأمومي والتعليمي رغم بُعد المسافة بين منزلها والجامعة والجهد المضاعف الذي تبذله عند عودتها للمنزل، حيث كان عليها مواجهة انتقادات وتثبيط المجتمع من حولها.
“كل شيء قابل للتعويض، إلا الأوقات الجميلة برفقة أطفالنا”، هذه هي القناعة التي وصلت لها عهد زرزور عندما رُزقت بطفلها، حدثتنا عن تأنيب الضمير الذي شعرت به عندما اضطرت لتركه في الروضة وهو بعمر الأشهر والذهاب للجامعة لوقت طويل، فلم يكن يوجد بجانبها شخص قريب تأمنه عليه ما دفعها لإيقاف رحلتها بدراسة الماجستير حتى يكبر طفلها.
لم يكن سهلًا ولا مستحيلًا!
عندما تريد الأم أن تخطو هذه الخطوة لا بد أن تعد خطة للتوفيق بين الجانبين، فكيف عالجن الأمر؟
غفران كانت تصطحب ابنيها التوأم إلى الجامعة
غفران الزابكي طالبة إدارة صحية في العاصمة التركية أنقرة، تخبرنا عن مشوارها قائلة: “في بداية الأمر أخذت قرارًا بتقليل عدد الدروس بحيث أوفر الوقت للعناية بأطفالي والدراسة حتى لو اضطررت لتمديد سنوات دراستي”، وعن الصعوبات في أثناء الدوام الجامعي تتابع: “كنت حديثة الولادة لتوأم عندما بدأت امتحانات نهاية العام، وكنتُ مصرة على إتمام الامتحانات رغم تعب الولادة والجامعة التي تبعد عن منزلي ساعتين، كنت أذهب أنا وتوأمي وأمي إلى الجامعة يوميًا، ويبقى الطفلان في الخارج ينتظرانني مع جدتهما حتى أنتهي وأقوم بإرضاعهما”.
وعند سؤالها عن الدافع الذي جعلها مُصرة على إكمال تعليمها تقول: “المرأة عند جلوسها في المنزل دون أي إنجازات تشعر بالضعف والإحباط”، كما أخبرتنا أن وجود أمها وزوجها بجانبها لمساعدتها في تدبير أمور المنزل والأطفال قلل صعوبة الأمر عليها، وتتابع “بالتأكيد لم يكن سهلًا ولكن ليس مستحيلًا” .
سنى متأكدة من أن طفلتها التي ترافقها للاحتفال بتخرجها ستكون فخورة بها
ستكون ابنتي فخورة بي
أما بالنسبة لسنى عثمان وهي سيدة سورية مقيمة بمدينة إسطنبول في تركيا وتدرس تعويضات سنيّة، وأم لطفلة، فتخبرنا عن تجربتها قائلة: “الجامعة تبعد ساعتين عن منزلي ولا أستطيع الدراسة إلا حين تنام طفلتي ليلًا، وهذا لم يمنع تفوقي الدراسي وتخرجي بمعدل جيد رغم عائق اللغة”، وتضيف: “كنت آخذ ابنتي إلى الروضة وأذهب إلى الجامعة، فكنت أشعر بالاطمئنان في أثناء غيابي عنها وعند العودة للمنزل أبقى معها لنلعب ونمارس بعض الأنشطة وحين تنام هي أنا أبدأ بدراستي”.
وعن دور زوجها، تقول: “هو الآخر في عمله ولكن عند وجودنا في المنزل معًا يساعدني كثيرًا وهو محفز وداعم لقراري”، “أشعر كثيرًا بالفخر من نفسي لما وصلت له اليوم وواثقة بأن ابنتي ستفتخر بي عندما تكبر، أتمنى لجميع النساء تحقيق أهدافهنَّ فلا عائق يقف أمامنا لو أردنا”، تضيف سنى.
عهد أوقفت دراستها مؤقتًا لمنح طفلها كل اهتمامها
عهد زرزور وهي سيدة سورية مقيمة في فرنسا، بدأت رحلتها بدراسة الماجستير، تقول عن تجربتها: “في اليوم الذي ولدت فيه كنت في الجامعة طوال النهار، ورغم الآلام الناتجة عن الولادة ذهبت بعد يومين من ولادتي لمتابعة دوامي الجامعي، وما ساعدني على إكمال دراستي وجود أم زوجي بجانب طفلي، ومع ذلك لم تكن نتائج الامتحان كما قبل”.
وتضيف أنها شعرت بتأنيب الضمير بسبب تركها لطفلها وهو حديث الولادة وقررت توقيف الجامعة، تتابع عهد: “كل شيء قابل للتعويض إلا الأوقات الجميلة برفقة أطفالنا، استكملت دراستي للماجستير عندما بدأ طفلي بارتياد الروضة فكنت أنظم الوقت بينه وبين دراستي بحيث لا أحرمه من حبي واهتمامي”.
أولويات
“قد يشكل غياب الأم عن طفلها لساعات طويلة يوميًا خطرًا نفسيًا على الطفل وخاصة في سنوات عمره الأولى”، هذا ما شرحته لنا اختصاصية الإدارة والتخطيط التربوي بتول حديفة، وعن الآثار السلبية الناتجة عن ذلك الغياب تقول: “تتشكل 75% من شخصية الطفل في سنواته الخمسة الأولى وللأسرة التأثير الأساسي والأول على الطفل من الناحية النمو العقلي والنفسي والاجتماعي، ولهذا السبب من المهم بقاء الطفل قريب من أمه، وفي سنواته الثلاثة الأولى إذا اضطرت أن تتركه فيجب أن يكون بمأمن مع زوجها أو أمها ولساعات قليلة محددة”.
وعن رأيها بشأن استكمال الأم لدراستها بوجود طفلها الصغير، ترى حديفة أنه “على الأم الموازنة بين طفلها ودراستها، وللطفل الأولوية في هذا الأمر، لينشأ الطفل بشكل سليم”، وتتابع: “إذا كانت الأم تشعر بالتعب النفسي بسبب الضغط والمسؤوليات مما ينعكس سلبًا على الطفل فعليها مراجعة قرارها وتأجيل دراستها لحين يكبر طفلها بعد خمس سنوات”.
“نجاح المرأة في تحقيق طموحها لا ينعكس على الأسرة بشكل إيجابي فقط، وإنما أيضًا على المجتمع ككل، مما يُنشئ لنا شخصيات إيجابية تمتلك القدرة على العطاء بشكل أكبر” هذا ما توضحه لنا الدكتورة نسبية جلال اختصاصية التربية الخاصة والمستشارة الاجتماعية، وعن رأيها في أن تتخلى المرأة عن دراستها وطموحاتها والتفرغ للأمومة تقول: “التعليم والعمل بالنسبة للمرأة لا يهدف للكسب المادي وحسب، لكنه مهم من أجل تطوير الذات بشكل سليم والتكيف في مجتمعنا الحاليّ لتكون بصحة نفسية جيدة، على المرأة أن تتعلم الكثير من المهارات مما يؤمن لها النجاح في المستقبل”.
تطرح الدكتورة نسيبة بعض الإرشادات للأم لتوازن بين الجانبين:
– لا بد أن تعرف الأم الطالبة أنها ستمر بالكثير من الصعوبات والعقبات مما لا يجب أن يحبط عزيمتها.
– من المهم أن تحصل على داعم نفسي، وأهم داعم نفسي للمرأة زوجها، معًا يستطيعان تجاوز الكثير من الصعوبات.
– تنظيم وقتها بما يناسب أسرتها بتحديد ساعات معينة للدراسة وساعات معينة للجلوس مع الزوج والأطفال وساعات للعمل المنزلي، بتنظيمها للوقت ستشعر بأن حياتها ستمضي بشكل ممتع.
– أن تأخذ ساعات دراسة أقل من زميلاتها كأن تنهي الجامعة بخمس سنوات بدل أربعة أو الماجستير بثلاث سنوات بدل سنتين، هكذا تستطيع أن توفر وقتًا لتقضيه مع عائلتها.
– هناك حاجة أن تخفف من النشاطات الاجتماعية التي ستتشكل معها من خلال دراستها وحصرها فقط بالنشاطات المهمة ضمن تخصصها كي لا تأخذ الكثير من وقتها.
وترى الدكتورة نسيبة، أن كل إنسان يستطيع النجاح إذا كان لديه طموح عالٍ، فلا ينبغي أن تتخلى أي فتاة عن طموحاتها، لكن تأخذ بقاعدة الأهم فالمهم، فالأهم دائمًا أسرتها والمهم دراستها، وعند وجود طفل حديث الولادة يمكن أن يتم تأجيل فصل دراسي أو فصلين حسب قدرتها حتى لا يؤثر هذا سلبًا على الجانب النفسي للطفل، لكن في الوقت نفسه لا يمنع أن تثري نفسها بالثقافة والقراءة في مجالها.
لا تتوفر دراسات ترصد نسب وأعداد الأمهات على مقاعد الدراسة في جامعات منطقتنا العربية، على أنه من الواضح أن الأمر بات ظاهرة تشفّ عن وعي لدى النساء بدورهن في الحياة الاجتماعية والعلمية، ولم يعد الزواج ولا الإنجاب عائقًا أمام متابعة المسيرة الجامعية أو العلمية عمومًا، وإن اختلفت الأساليب التي تتصدى فيها الأمهات للتحديات التي تواجهها.
في مكان آخر من العالم، ألمانيا مثلًا، بدأت 12 جامعة في تبني “برامج صديقة للأسرة”، لتسهيل حياة الأمهات الدارسات في الجامعة لإتمام تعليمهن بمختلف محطات التعليم العالي بدءًا من الليسانس إلى الدكتوراه، في خطوة -يبدو- أنه يراد لها أن تنتشر في عموم جامعات البلاد، علها تصبح أنموذجًا يُحتذى به عالميًا.
بالمحصلة، تبدو مهمة الأم الطالبة على قدر كبير من التحدي، وعلى السيدات إدراك حجم المسؤولية والصعوبة المترتبة عليهن في كلا الجانبين ودراسة أبعاد الخطوة، وأنها على ثقة منها، فمعظم الأوساط التعليمية -على خلاف الجامعات الـ12 صاحبة المبادرة المذكورة أعلاه- غير مرحبة بالأمهات وإنما بطلاب فرادى متفرعين، كما لا تدعم جميع المجتمعات النساء الطالبات نظرًا لتغيبهن طويلًا عن المنزل وما يترتب على ذلك من بعض الفوضى في احتياجات المنزل من طبخ وترتيب في ظل ثقافة تلقي بكامل المهام داخل المنزل على عاتقها.