شكلت التفجيرات المتصاعدة التي شهدتها إيران منذ يوم 25 من يونيو الماضي، حالة أمنية جديدة لم تعهدها سابقًا، والمثير للجدل أن أغلب هذه التفجيرات حصل في مجمعات عسكرية ومنشآت نووية، ما يضع بدوره الكثير من الاستفسارات عن المسببات الحقيقية التي تقف خلف هذه التطورات الأمنية الخطيرة، إذ دأبت العديد من التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين خلال الأيام الماضية، إلى الإشارة بأن هذه التفجيرات تعود لأعطال فنية، مع تأكيدهم وجود فرضية هجمات سيبرانية تتعرض لها إيران.
ومع ذلك، أشار التفجير الكبير الذي شهدته القاعدة العسكرية في بارتشين وقاعدة لتطوير الأسلحة شرقي طهران، إمكانية تعرض إيران لهجمات سيبرانية، حيث أنتجت إيران صواريخ مدفعية هناك، وأجرت اختبارات متعلقة بتصميمات الأسلحة النووية قبل 2003، وبالنظر إلى حساسية إيران تجاه القاعدة، من السهل شم رائحة التستر المحتمل على أي عمل تخريبي أو هجوم سيبراني محتمل، علمًا بأن إيران شنت هجمات سيبرانية على قطاع الخدمات والنقل في “إسرائيل” شهر أبريل الماضي، ويحتمل أن ما حصل يوم 25 من يونيو هو رد إسرائيلي، إذ قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الإيرانية العميد داود عبدي، إن انفجار غاز وقع في المنطقة العامة للمجمع العسكري في بارتشين وقاعدة عسكرية لتطوير الأسلحة، ولم تقع إصابات، وأن النيران كانت تحت السيطرة.
وبعد ساعات من الانفجار، بث التليفزيون الحكومي الإيراني مقطعًا يزعم أنه يظهر مكان الانفجار، تُظهر اللقطات عدة خزانات متفحمة وهياكل معدنية ملتوية، لكن الحدث أثار تساؤلات عديدة، عما إذا كان الانفجار قد يكون حادثًا عرضيًا أو عملًا تخريبيًا، نظرًا لأهمية مجمع بارتشين العسكرية.
اختراق استخباري إسرائيلي
شكلت العملية الاستخبارية التي شنتها “إسرائيل” في الداخل الإيراني عام 2018، إحدى أبرز العمليات الاستخبارية التي كشفت المواقع والمشاريع الإيرانية أمام الاستخبارات الإسرائيلية التي نجحت في الحصول على ما يقرب من 111 ألف وثيقة سرية خاصة بالبرنامج النووي الإيراني، وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الاستخبارات الإيرانية للتمويه على هذه المواقع وتغيير شفرات الدخول إلى الحواسيب الإلكترونية الخاصة بالبرامج السرية للمشاريع النووية، فإن “إسرائيل” نجحت منذ ذلك التاريخ بالقيام بالعديد من الهجمات السيبرانية على المواقع والبرامج النووية الإيرانية، وهو ما يؤكد فرضية أن الهجمات الأخيرة التي تتعرض لها إيران، هي سلسلة موسعة من الهجمات الإسرائيلية عليها، في تغير واضح لقواعد الاشتباك بين الطرفين، بالتحول من الاشتباك عبر الصورايخ والغارات الجوية إلى الاشتباك عبر الفضاء الرقمي.
ما يؤكد فرضية أن ما يحصل هو جزء من هجمات سيبرانية تشنها “إسرائيل”، ما أشارت إليه وكالة رويترز للأنباء، عبر اللقاء مع العديد من المسؤولين الإيرانيين في الأيام الماضية، الذين تحدثوا شريطة عدم كشف أسمائهم، بأنهم يعتقدون أن الهجمات التي طالت منشأة نطنز النووية، كانت نتيجة هجوم سيبراني، لكنهم لم يذكروا أي دليل، وقال أحدهم إن الهجوم استهدف مبنى تجمع لأجهزة الطرد المركزي، مشيرًا إلى الآلات الأسطوانية الدقيقة التي تخصب اليورانيوم، وقال إن أعداء إيران قاموا بأعمال مماثلة في الماضي، ففي عام 2010 تم اكتشاف فيروس Stuxnet للكمبيوتر الذي يعتقد على نطاق واسع أن طورته كل من الولايات المتحدة و”إسرائيل”، بعد استخدامه لمهاجمة منشأة نطنز النووية في ذلك التاريخ.
التطورات الأمنية الأخيرة التي تشهدها إيران، أشرت لحالة فشل استخباري كبير لن تتمكن من تجاوزه خلال الفترة المقبلة
كما تناول مقال صدر يوم الخميس الماضي عن وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية “إرنا”، ما وصفته بإمكانية تخريب أعداء مثل “إسرائيل” والولايات المتحدة للمواقع النووية في إيران، رغم أنه لم نصل إلى اتهام أي منهما بشكل مباشر، كما أشار المتحدث باسم المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران يوم الجمعة، أنه تم تحديد سبب “الحادث” في الموقع النووي، لكن “لاعتبارات أمنية” سيتم إعلانه في وقت مناسب، وأشار بأن الرد على الهجمات السيبرانية جزء من إستراتيجية الدفاع الوطني، كما قال رئيس الدفاع المدني غلام رضا جلالي للتليفزيون الحكومي الإيراني مساء الخميس: “إذا ثبت أن بلدنا قد استُهدف بهجوم سيبراني، فسوف نرد”.
رد إيراني محتمل!
ذكر تقرير تليفزيوني إسرائيلي ليلة الجمعة أن “إسرائيل” تستعد لرد إيراني محتمل، بعد تحذيرات أطلقها مسؤولون إيرانيون ذات اليوم بعد التفجيرات التي شهدتها منشأة نطنز النووية، من أن الحريق الغامض والانفجار في هذه المنشأة، ربما كانا بسبب هجوم سيبراني إسرائيلي، وقال التقرير إن الهجوم دمر مختبرًا تطور فيه إيران أجهزة طرد مركزي متطورة لتخصيب اليورانيوم بشكل أسرع، وتسبب في تعطيل البرنامج النووي الإيراني لمدة شهرين.
وردًا على سؤال عن تقارير الحادث في مؤتمر صحفي مساء الخميس، رد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: “أنا لا أتناول هذه القضايا”، على حد قوله، وأضاف عاموس يادلين الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، “وفقًا لمصادر أجنبية، “يبدو أن رئيس الوزراء ركز هذا الأسبوع على إيران، بدلًا من خطته لضم الضفة الغربية، هذه هي السياسة التي أوصيت بها في الأسابيع القليلة الماضية”، وأشار “إذا اتهمت “إسرائيل” مصادر رسمية، فعلينا أن نكون مستعدين عمليًا لاحتمال رد فعل إيراني، عبر الإنترنت أو إطلاق صواريخ من سوريا أو هجوم إرهابي في الخارج”.
كما قال المحلل العسكري التليفزيوني في القناة 13 الإسرائيلية ألون بن دافيد مساء الجمعة، إن الهجوم أصاب المنشأة التي تطور فيها إيران أجهزة طرد مركزي أكثر تقدمًا التي من المفترض أن تكون المرحلة التالية من البرنامج النووي، لإنتاج اليورانيوم المخصب بمعدل أسرع بكثير، وقد تلقى ذلك المرفق أمس ضربة كبيرة، دمر الانفجار هذا المختبر، إذ كانت أجهزة الطرد المركزي تلك، من المفترض تركيبها تحت الأرض في منشأة نطنز، وكانت تهدف إلى استبدال أجهزة الطرد المركزي القديمة، وإنتاج يورانيوم أكثر إثراءً، وبسرعة أكبر، لقد أصيبوا بضربة كبيرة، ويجب افتراض أنه في مرحلة ما، سيرغبون في الانتقام”، وقال بن ديفيد: “إسرائيل تستعد لرد إيراني، على الأرجح عن طريق هجوم سيبراني، ففي أبريل الماضي حاولت هجمات سيبرانية إيرانية زيادة مستويات الكلور في المياه المتدفقة إلى المناطق الإسرائيلية السكنية”.
ومن خلال ما تقدم يمكن القول إن التطورات الأمنية الأخيرة التي تشهدها إيران، أشرت لحالة فشل استخباري كبير لن تتمكن من تجاوزه خلال الفترة المقبلة، فضلًا عن سعي إسرائيلي واضح لإرسال العديد من الرسائل الواضحة للجانب الإيراني، وأهمها خلق حالة ردع تهدف عبرها إلى كبح جماح التهديدات الصاروخية التي تدعمها إيران، سواء في سوريا أم غزة، وهو ما يشير بدوره إلى تغيير واضح في قواعد الاشتباك بين الطرفين، فعلى الرغم من القوة الكبيرة التي تمتلكها “إسرائيل” في هذا المجال، فإن إيران هي الأخرى يبدو أنها ترغب في مواجهات من هذا النوع، كون التبريرات التي تسوقها في التخفيف من حدة هذه الهجمات كثيرة، كما أنها نجحت في أكثر من مناسبة في شن هجمات سيبرانية مؤثرة داخل “إسرائيل”.