أغلب الكتابات والدراسات التي تحدثت عن بروز ظاهرة التخلف أو ما يطلق عليه اسم العالم الثالث اتخذت وجهات متعددة ارتكز أغلبها على الاقتصاد والصناعة، ومن هنا تحديدًا نشأ علم اقتصاد وعلم اجتماع التخلف، لكن الإنسان المتخلف أو المقهور لم يحظ بالاهتمام نفسه الذي وجه إلى البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
بمعنى آخر ما أغفلته هذه الدراسات أن التخلف يُعاش كنمط حياة مميز له دينامياته النفسية والعقلية والإنسان المتخلف منذ أن ينشأ في بيئة اجتماعية معينة يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها، فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها بمقاومة تغييرها نظرًا لارتباطها ببنيته النفسية، ولقد أوقع تجاهل هذه الحقيقة علماء التنمية ومن قبلهم القادة السياسيون الذين يقررون عمليات التغيير الاجتماعي في مأزق أدى لهدر الكثير من الأموال، إذ انطلقوا في مشاريع تنموية طنانة ذات بريق ووجاهة قائمة بالأساس على دراسات جزئية لم تتجاوز السطح كي تنفذ إلى دينامية البنية المتخلفة من جهة أو إلى التكوين النفسي والذهني للإنسان المتخلف من جهة أخرى.
ومن هذا المنظور يأتي كتاب “التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور” للباحث اللبناني المتخصص في علم النفس مصطفى حجازي كي يفكك البنية الخاصة بمجتمعات العالم الثالث وطريقة تصرف أفرادها.
عن القهر الذي من التحرك
قسم الدكتور مصطفى حجازي كتابه إلى قسمين: يبحث القسم الأول من الكتاب في الملامح النفسية الرئيسية للإنسان المقهور، فيما يتناول الثاني أهم الأساليب الدفاعية التي يواجه بها هذا الإنسان وضعيته في تناقضها وتغيرها، وقد استخدم المؤلف منهج فرويد في التحليل النفسي ليشرح لنا جزءًا كبيرًا من حياة الإنسان النفسية التي تحدد سلوكه ومواقفه دون أن يشعر العقل الواعي بذلك، فوجود الإنسان في بيئة اجتماعية تتسم بالسلطوية والاستبداد يجعله يفتقد شيئًا فشيئًا كرامته وقيمته الإنسانية ويتحول إلى وسيلة، ومن هنا يقول الكاتب إن التخلف الاجتماعي مرهون دائمًا بقدر القهر الذي يلقاه البشر في مجتمعاتهم.
وفي تفكيكه للرابطة القوية بين القهر والسلطة يقول الدكتور حجازي إن مفهوم السلطة القهرية يتجاوز معناه السياسي إلى مفاهيم أضيق وأكثر قربًا من مجتمع المقهورين مثل الأسرة والمدرسة والعمل، فجميعها مجالات للقهر الاجتماعي تبنى بعضها على بعض لتشترك في النهاية في محصلة واحدة وهي إخضاع الآخر للسلطة، ولكن كيف يحدث ذلك؟
أكثر الأفراد ذوبانًا في الجماعة وتعصبًا لها هم في معظم الأحوال أشدهم عجزًا عن الاستقلال والوصول إلى مكانة فردية وإلى قيمة ذاتية تنبع من شخصياتهم
يحدثنا دكتور حجازي أولًا عن الخصائص الذهنية للتخلف وتحت هذا العنوان يسرد لنا سمات التفكير المتخلف التي تعني اضطراب منهجية التفكير والاعتباطية والسطحية في تناول ومناقشة القضايا المهمة هذا بالإضافة إلى قصور التفكير الجدلي وعدم القدرة على ربط الظواهر بالواقع وردها إلى أصولها التاريخية وهو الأمر الذي يخلق حالة من الفوضى والجمود الفكري، أما عن أسباب وعوامل هذا التخلف فهو التعليم بالأساس لأنه قائم على التلقين وقهر المعلم والتسلط.
وفي هذا السياق ذاته يؤكد ابن خلدون في مقدمته الشهيرة على نفس المعنى، إذ يقول إن قهر المتعلم يفسد معاني الإنسانية لديه “من كان مرباه بالعنف والقهر من المتعلمين، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، ودعاه إلى الكسل، وحمله على الكذب والخبث خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة، ولذلك صارت له عادة وخليقة، وفسدت معاني الإنسانية لديه”.
الملامح النفسية للمجتمع المتخلف
“أكثر الأفراد ذوبانًا في الجماعة وتعصبًا لها هم في معظم الأحوال أشدهم عجزًا عن الاستقلال والوصول إلى مكانة فردية وإلى قيمة ذاتية تنبع من شخصياتهم”.
تتخذ عملية ممارسة القهر عند الكاتب شكلًا دائريًا، فالحاكم أو الرئيس يقهر المواطنين الذين بدورهم يضطهد بعضهم بعضًا من الأقوى إلى الأضعف، ولكي تستمر علاقة القمع بين المقهور والمتسلط تحتاج على الدوام إلى ما يغذي نرجسية المتسلط وذلك حتى تختفي احتمالية أي فرصة للتكافؤ بينه وبين من يقهره ومن هنا يزيد العنف والقهر، وفي هذا السياق يجب أن نتذكر تجربة “ألبرت باندورا” لقياس أثر النظرة الدونية على استمرار وتطور عملية القهر.
ففي هذه التجربة قُسم الخاضعون للتجربة إلى ثلاث مجموعات: وُصفت الأولى بمجموعة الحيوانات والثانية بمجموعة الأذكياء والمجموعة الثالثة تُركت دون اسم، وكانت مهمة المتطوعين المشاركين في التجربة هي سماع نقاشات جميع المجموعات عن إحدى المشكلات وتقديم حلول لها، ووفقًا لقواعد التجربة كان مسموحًا للمتطوعين بعقاب أصحاب الحلول الخاطئة من خلال الصعق الكهربائي المتدرج عبر عشر درجات من الشدة، وكما كان متوقعًا تلقى أصحاب المجموعة الأولى أكبر قدر من الصعق الكهربائي مقارنة بمجموعة الأذكياء التي تلقت أقل قدر من الصعق.
ما توصلت إليه التجربة أن المتطوعين لم يكونوا ينظرون لأفراد المجموعة الأولى على أنهم بشر وعليه فمن خلال انهيار الرابط الإنساني بين الحاكم والمحكومين يصبح الأول أسيرًا لذاته وينحدر المحكومين لأدنى سلم الإنسانية.
ويعرض لنا دكتور حجازي ثلاث مراحل تحكم واقع الإنسان المتخلف: الأولى مرحلة الرضوخ والقهر وتتسم هذه المرحلة بالعجز على جميع الأصعدة وتبرز من خلالها مجموعة من العقد التي تطغى على حياة الإنسان المقهور مثل عقدة النقص التي تجعله يعيش حالة من التهديد الدائم لأمنه وصحته وأسرته ولأن الخوف هو سيد الموقف يتولد لدى الإنسان المقهور إحساس دائم بانعدام الكفاءة الاجتماعية والدونية، وهنا يأتي دور السلطة الحاكمة التي تعمل دومًا على تغذية تلك العقدة حتى يظل الإنسان المقهور في حالة دائمة من السكون والتبعية.
يلجأ الإنسان المقهور إلى حيلة التماهي مع المتسلط، فالإنسان المقهور هنا وعلى عكس الحالة الأولى تمامًا ينكر وضعه الصعب ويذوب في عالم السلطة المستبدة
تأتي بعدها المرحلة الثانية التي تطغى فيها عقدة الشعور بالعار، فالإنسان المقهور يحس دائمًا بالخجل من ذاته ويخشى دائمًا من فضح عجزه وبؤسه، ولهذا يتمسك بقوة بتلابيب المظاهر الخارجية التي تشكل درعًا واقيًا لإحساسه بالبؤس الداخلي، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثالثة ويُطلق عليها مرحلة اضطراب الديمومة وهنا يحدث انسداد دائم لآفاق الإنسان المقهور ويفقد كل أمل في الخلاص وحتى حين يفكر في التمرد على السلطة الحاكمة يتجه عادة إلى العنف بسبب الافتقار إلى الوعي والتنظيم السياسي وغياب الأطر المرجعية.
أساليب دفاعية
“الإنسان المقهور هو كائن مزيف فقد هويته، وأضاع أصالته، ووجد نفسه عاريًا أمام غربته عن نفسه وهو يحاول بشتى الأساليب ومن خلال مختلف الأقنعة أن يجد هوية بديلة”.
في القسم الثاني من الكتاب يتحدث المؤلف عن الأساليب الدفاعية التي يلجأ إليها الإنسان المقهور للتأقلم مع وضعه الراهن بحيث يخفف من وطأته ويكفل له شيئًا بسيطًا من الانسجام الوجودي، وأول تلك الحيل هي الانكفاء على الذات وهي التي تتجسد عادة في الانسحاب من الواقع الحاليّ والتمسك بالتقاليد والرجوع إلى أمجاد الماضي.
كما يلجأ الإنسان المقهور أيضًا إلى حيلة التماهي مع المتسلط، فالإنسان المقهور هنا وعلى عكس الحالة الأولى تمامًا ينكر وضعه الصعب ويذوب في عالم السلطة المستبدة ويتماهى مع أحكامها ويسقط عجزه على الحلقات الأضعف منه ويحاول جاهدًا تبني قيم السلطة فيقع ضحية عقدة الاستعراض ويتحول إلى شخص مقهور هارب دائمًا من ذاته، أو قد يندفع الإنسان المقهور اندفاعًا إلى الخرافة في محاولة بائسة منه للسيطرة على حياته، فيلجأ إلى مقامات الأولياء ويلتزم بالطقوس الدينية المتعلقة بالنذور وقراءة المستقبل.
أما عن رابع الأساليب الدفاعية التي يتم اللجوء إليها فهي العنف بكل أشكاله، العنف المقنع والرمزي والعلاقات الاضطهادية وأحيانًا تخريب الممتلكات العامة بسبب إحساس المقهور بأنه لا ينتمي إلى هذه الدولة التي يحكمها المتسلط.
في النهاية نجد أن ما ذكره الدكتور حجازي متشابه في جميع بلاد العالم الثالث وبالتالي لن يتغير حال هذه البلاد ما لم يتغير الإنسان المقهور أولًا وقبل أي شيء.