ترجمة وتحرير: نون بوست
انتشر مقطع فيديو مدته ثلاث دقائق ونصف، تظهر فيه الشرطة المالية في مقاطعة نابولي الإيطالية وهي تقوم بعملها بأسلوب مثير يشبه أفلام مهربي المخدرات في هوليوود: حيث قام عناصر الشرطة بفتح عجلات حديدية ولفائف ورق من الحجم الكبير، لتتدفق من داخلها الحبوب المخدرة بشكل مثير للدهشة. ثم تأتي اللقطة الأخيرة في الفيديو، لتظهر العشرات من هذه الآلات المليئة بمخدر الكبتاغون، وهو الإسم الذي يطلق على واحد من أكثر العقاقير المصنعة شعبية.
وبنهاية عملية الاحتجاز، أعلنت الشرطة أن الكمية وصلت إلى 14 طن، متمثلة في 84 مليون حبة، وهي أكبر شحنة كبتاغون يتم اعتراضها في العالم. وبحسب سعر بيع هذا المخدر في الشارع، فإن قيمة الشحنة تصل إلى واحد مليار يورو، وبالتالي فهذه العملية تمثل نجاحا باهرا للشرطة الإيطالية، خاصة وأن هذه الكمية تكفي لتزويد القارة الأوروبية بأكملها.
وقال الكولونيل دومونيكو نابوليتانو، قائد الشرطة المالية والمشرف على هذه العملية في تصريح أدلى به يوم الأربعاء: “في كل الأحوال فإن شحنة بهذا الحجم لا يمكن أن تكون موجهة لإيطاليا فقط.”
هذه اللفائف الورقية الضخمة المعدة للاستخدام الصناعي والعجلات الحديدية، وصلت إلى ميناء ساليرنو في جنوب نابولي، محملة ضمن ثلاث حاويات قادمة من سوريا، وكانت المخدرات مخفية بشكل محكم داخل هذه الحاويات، حتى أنها لا تظهر عند الفحص بأشعة إكس. ولكن الشرطة لم تكن في حاجة لفحص الأشعة، حيث أنها تمكنت من اعتراض هذه العملية لأنها كانت تنتظرها: إذ أنها تمكنت من التنصت على مكالمات هاتفية صادرة عن عناصر المافيا الإيطالية في نابولي المسماة “كامورا”. وقد تم قبل أسبوعين إرسال شحنة أولى محدودة الحجم، بنفس الطريقة وباسم نفس الطرف المستلم وهو شركة مقرها في مدينة لوغانو السويسرية، بحسب الوثائق المقدمة. تلك الشحنة التي كانت تحوي 2.8 طن من الحشيش وواحد مليون حبة كبتاغون، أي بوزن 190 كيلوغراما، كان المهربون قد اعتمدوا عليها كبالونة اختبار للتأكد من أن فعالية هذه الطريقة. ويبدو أن الشرطة تمكنت من خداعهم وسمحت لهم بإدخال تلك الشحنة.
وبأمر من المدعي العام لمكافحة المافيا في نابولي، تمت مصادرة الحاويات الثلاثة وإحضارها إلى قسم الشرطة تحت حراسة أمنية مشددة، وذلك من أجل إخراج المخدرات التي كانت مخبأة بشكل معقد جدا داخل العجلات الحديدية ولفائف الورق التي كانت بسمك عدة سنتيمترات. وقد تبين أن أولى لفائف الورق الأربعين كانت فارغة، ولكن سرعان ما تم اكتشاف هذا الكنز في القطع الموجودة في الأسفل.
السياسيون الإيطاليون يثنون على المحققين
وقد أثنى رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي على الدور الذي لعبه المحققون، حيث قال: “إن هذه تمثل ضربة موجعة للإرهاب ودليلا على أن إيطاليا تبقى دائما في حالة يقظة.”
الحبوب التي تمت مصادرتها تحمل الشعارالمميز وهو شكل نصفي قمر
وقد جاء الثناء أيضا من وزيرة الداخلية لوتشيانا لامورجيزي التي قالت: “إن عملية مكافحة المخدرات التي تم تنفيذها في الساعات القليلة الماضية، أثبتت الدرجة العالية من الالتزام في مكافحة شبكات الجريمة المنظمة التي تمارس تجارة وبيع الممنوعات.”
وبالنسبة للطرف الذي كان سيستلم هذه الشحنة، فإن المعلومات الأولية وافتراضات الشرطة تبدو صحيحة بشكل لا يدعو للشك. ولكن فيما يتعلق بالجهة المرسلة لهذه الشحنة المتمثلة في أكبر كمية من المخدرات يتم احتجازها في العالم، فإن الأمور تبدو غريبة: إذ أن المحققين في أول بيان صحفي لهم كان قد انتشر بشكل سريع في وسائل الإعلام الدولية، قالوا: “إن هذه الحبوب صنعها تنظيم الدولة في الأراضي السورية لتمويل الأنشطة الإرهابية”.
ولكن هل يمكن أن يكون هذا التنظيم الأسطوري الذي تعرض للهزيمة في آخر معاقله في آذار/ مارس من العام الماضي، هو الذي يقف فعلا وراء هذا الأمر؟ هذه الحبوب التي تمت مصادرتها تحمل الشعارالمميز وهو شكل نصفي قمر، كما يبدو على ألواح الأقراص التي يملكها مقاتلو تنظيم الدولة. حيث أن الكبتاغون بات معروفا بتسمية مخدرات المتطرفين.
ما الذي تعتقده السلطات الإيطالية؟
سارعت شبكة سي إن إن الأمريكية وكل وسائل الإعلام إلى نشر هذه الرواية الرسمية حول علاقة التنظيم بالمخدرات، كما أن كبريات الصحف الإيطالية مثل لاستمبا أرفقت تقريرها بصور لمقاتلي التنظيم. ولكن في إيطاليا كان دانيلي رانييري، المراسل في الشرق الأوسط، هو الذي طرح السؤال في صحيفة إلفوليو اليومية حيث كتب في الافتتاحية: “ما الذي كانت السلطات الإيطالية تعتقده لتظهر تنظيم الدولة على أنه عصابة مخدرات؟” ويأتي هذا التساؤل لأن تنظيم الدولة بات الشماعة التي تعلق عليها كل الجرائم. ولكن في الواقع فإن إنتاج هذه العقاقير الصناعية على نطاق واسع ليس واحدا من أنشطة التنظيم. كما أن مقاتلي تنظيم الدولة مشتتون حاليا في صحراء سوريا والعراق، وهم يختبئون في أماكن بعيدة جدا عن المدن وبعيدة أكثر عن الموانئ البحرية.
من ناحية أخرى، يبدو الأمر أكثر وضوحا عندما يتعلق بالوثائق التي تثبت مصدر صنع الكميات الكبيرة من الكبتاغون: إذ أن شحنة الأربعة عشرة طنا التي تم احتجازها في جنوب نابولي هي الأكبر حجما، ولكنها ليست الشحنة الوحيدة التي جاءت من ميناء اللاذقية في سوريا وتمت مصادرتها خلال 12 شهرا الماضية:
- في تموز/ يوليو من العام الماضي تمكن المحققون اليونانيون من مصادرة 5.25 طن من الكبتاغون، وهي أكبر شحنة يتم الكشف عنها حتى ذلك الوقت.
- جرت أيضا عمليتا مصادرة في دبي، إحداهما في شباط/ فبراير لكمية 5.6 طن من الكبتاغون.
- في نيسان/ أبريل تمكن موظفو الجمارك المصريون من العثور على 4 أطنان من الحشيش قادمة أيضا من اللاذقية، وقد تم تخزينها داخل علب حليب من إنتاج شركة مملوكة لرامي مخلوف، إبن عم الديكتاتور السوري بشار الأسد.
في نفس الشهر تمكنت السلطات السعودية من إماطة اللثام على 44.7 مليون حبة كبتاغون مقسمة على شحنتين، نصفها تقريبا كانت مخبأة داخل علب شاي. هذا الشاي كان مصنوعا من أوراق نبتة المتة التي تتم زراعتها في أمريكا الجنوبية، وهو نوع يشبه الشاي الأسود ويحظى بشعبية كبيرة لدى الأقلية العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد. وفي هذه العملية أيضا يظهر اسم المصنع وهو يابور، الذي يرتبط بشكل وثيق بشقيق الرئيس السوري والقائد العسكري ماهر الأسد، وقد سارع هذه المصنع لتقديم شكوى حول سوء استخدام منتجات التعليب التي يصنعها.
الشبكة الموسعة لأقارب عائلة الأسد الحاكمة في سوريا، كانت في كل مرة هي منتجة ومرسلة المخدرات
ويظهر من خلال هذه المعلومات أن هنالك ظهورا متكررا لاسم المخدر وهو الكبتاغون، ونفس الطريقة في إخفائه وإرساله بكميات كبيرة، وعملية الشحن دائما ما تتم من ميناء اللاذقية.
التجارة الأكثر ربحية لعائلة الأسد
بحسب تقرير سابق لصحيفة ديرشبيغل، فإن الشبكة الموسعة لأقارب عائلة الأسد الحاكمة في سوريا، كانت في كل مرة هي منتجة ومرسلة المخدرات:
- إذ أنه في بلدة البصة جنوب اللاذقية، يقوم سامر كمال الأسد، عم الديكتاتور، بإدارة واحدة من عدة مصانع للكبتاغون مملوكة للعائلة، وتنشط تحت غطاء إنتاج وسائل التعليب.
- عملية النقل أيضا تكفل بها رجل الأعمال عبد اللطيف حميدة، الذي فتح مصنعا للف الورق في حلب قبل أسابيع قليلة، وهو يعتبر عنوانا جديدا لايزال غير مدرج على لائحة عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
إلا أن هذه اللفائف التي ينتجها المصنع هي التي استخدمت لإخفاء حبوب الكبتاغون، التي يبدو أنها أنتجت أيضا هنالك.
أما بالنسبة للنقل، فإن ثلاثة حاويات تم استئجارها من شركة الشحن الإيطالية تاروس، التي تقدم خدماتها في عدة موانئ في البحر الأبيض المتوسط ضمن رحلات دورية.
ولا يزال ميناء اللاذقية يخضع لسيطرة كاملة لعائلات الأسد الذي ينحدر من قرية قريبة جدا من الميناء. وخلال الخريف الماضي تم التفويت في الميناء على وجه الكراء لإيران، التي قدم حليفها اللبناني حزب الله خبرته ومواده الكيميائية خلال المراحل الأولى لصنع المخدرات في سوريا على نطاق واسع.
ومن المفترض أن وجود عصابة لتهريب المخدرات في سوريا مملوكة لعائلة الأسد، هي معلومة لا يمكن أن تخفى عن السلطات الإيطالية. فلماذا إذن يتم تقديم تنظيم الدولة على أنه الفاعل؟ هنالك شكوك بأن السلطات الإيطالية لا ترغب في إفساد العلاقة مع دمشق، وهي لا تزال تستورد مادة الفوسفات من سوريا إلى حد اليوم، كما أن الحكومة السابقة كانت قد خصصت طائرة خاصة لنقل علي مملوك مدير المخابرات السورية ومقابلته في مارس/ آذار 2018.
وقد ردت الشرطة المالية الإيطالية على التساؤلات حول الأدلة في هذه القضية، بالقول بأن كل المعلومات المتوفرة تم التصريح بها. أما بقية التكهنات فهي تخضع الآن للتحقيق، بحسب ما أكده الكولونيل جوسيبي فورتشينيتي. أما شركة تاروس الإيطالية للشحن البحري فإنها لم تجب على تساؤلات ديرشبيغل. وبعيدا عن عدسات الكاميرا، كان قائد شرطة نابولي قد أقر بعدم وجود أي أدلة أخرى على أن الكبتاغون يعود لتنظيم الدول.
ولذلك فإن الصحفي رانييري، الذي يعد خبيرا في شؤون الشرق الأوسط وإيطاليا، يعتقد أن هنالك تفسيرا آخر لما حدث: إذ أن فكرة وضع اسم أخطر تنظيم إرهابي في العالم على أكبر شحنة مخدرات يتم اعتراضها، هو حركة كلاسيكية لخلق الإثارة من أجل جعل هذا الإنجاز يبدو أضخم وأكثر روعة، مثل وضع حبة الكرز فوق قطعة المثلجات.
المصدر: دير شبيغل