في بداية شهر مايو/أيار 2013 وبعد أشهر قليلة من تولي الرئيس محمد مرسي مقاليد الحكم في أول انتخابات ديمقراطية في تاريخ مصر، طفت إلى السطح، ودون مقدمات، حركة سياسية أطلق عليها “تمرد” تدعو المواطنين بالتوقيع على استمارة تطالب بسحب الثقة من الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
البعض تعامل مع هذه الحركة وقتها على أنها إفراز طبيعي لبقايا نظام حسني مبارك الذي أُسقط – أو توهم ذلك – على أيدي ثوار يناير 2011، غير أن الانتشار الكثيف للحركة ونشاطها وتغطيتها لقرابة معظم محافظات مصر، فضلًا عن الإمكانات الخرافية التي كانت تتمتع بها في وقت كان يعاني فيه الجميع من أزمات اقتصادية كبيرة، أثار الكثير من التساؤلات.
وبعد الإطاحة بالرئيس المدني وتولي عبد الفتاح السيسي مقاليد الأمور، بدأت تتكشف الصورة شيئًا فشيئًا، إذ تبين بالأدلة الموثقة والتسريبات الهاتفية التي بثتها القنوات المعارضة، أن الحركة من الألف إلى الياء كانت تمويلًا إماراتيًا بهدف إسقاط مكتسبات الثورة وعودة المشهد إلى ما قبل 11 من فبراير 2011.
الانقسامات التي شهدتها تمرد بعد انتهاء المهمة المكلفة بها، الإطاحة بمرسي وعودة حكم الجنرالات، أوضحت فيما بعد دور المال السياسي الإماراتي في تأجيج وتضخيم الحركة وتوسعة رقعتها، وكشفت ملامح مخطط أبناء زايد في الالتفاف على إرادة الشعب المصري عبر تجنيد حفنة من الشباب لتصدير الوهم للشارع بما يتعارض مع الحقيقة في كثير من معطيات الواقع.
وبينما يحتفل النظام المصري وداعموه بالذكرى السابعة لتظاهرات 30 يونيو، بات الحديث عن حركة تمرد التي تحولت إلى ذراع أبو ظبي لإجهاض الثورة المصرية، حديثًا ذا شجون، فأين الشعارات التي رفعتها الحركة، عدالة اجتماعية وحرية وعيش وكرامة إنسانية، ماذا تحقق منها؟ ثم السؤال الأكثر حضورًا: أين رموز الحركة الآن من المشهد السياسي؟
صناعة عسكرية
في الـ3 من يوليو 2017 نشر الكاتب نيل كيتشلي، المحاضر المتخصص في سياسات الشرق الأوسط في كلية “كينجز كولدج” بلندن، تحليلًا في صحيفة واشنطن بوست استعرض فيه تفاصيل المظاهرات الشعبية التي خرجت في 30 من يونيو/ حزيران 2013 وما تلاها من بيان 3 من يوليو الذي أطاح بمرسي.
الكاتب لفت إلى أن المشهد منذ الوهلة الأولى يوحي كأن هناك حركة شعبية “تمرد” هي السبب وراء الدعوة للتظاهر والانقلاب على الرئيس المنتخب، لكن الصورة اتضحت بعد ذلك شيئًا فشيئًا حين تكشف دور الجيش ووزارة الداخية في تحفيز الحركة ودعمها بكل الأشكال وهو ما أدى في النهاية إلى خروج المشهد بصورته التي ظهر بها.
وفي كتابه المعنون بـ”مصر وقت الثورة: النزاع السياسي والربيع العربي”، الذي ناقش فيه كيتشلي أحداث ثورة 2011 في مصر وتداعياتها، يقول: “شرحت في الكتاب كيف حرض جنرالات الجيش المصري والأجهزة الأمنية احتجاجات 30 من يونيو/حزيران في محاولة لقهقرة السلطة المدنية الوليدة، وشرعنة استيلاء الجيش على السلطة. قد يظهر ذلك مجرد تنبؤات في البداية”.
المقطع المسرب كشف أن تمويل الحركة تم عبر حسابات بنكية تابعة للمخابرات الحربية، كانت تغذيها الإمارات
وترى الصحيفة الأمريكية أن الأرقام التي تم تناقلها بشأن عدد المتظاهرين في 30 من يونيو/حزيران التي تتراوح وفق ما ذكرت بعض المصادر بين 25-50% من جملة سكان مصر، غير قابلة للتصديق بالمرة، لافتة في التحليل المنشور أن مسيرات يوم المرأة العالمي 2016 في الولايات المتحدة جذبت نحو 4 ملايين مشارك من كل الولايات، وهي المسيرات التي يرجح أنها الأضخم في تاريخ العالم، مع الوضع في الاعتبار أن تعداد سكان الولايات المتحدة نحو أربعة أضعاف نظيره المصري.
وفي الجهة الأخرى يقدّر كلارك ماكفيل، الباحث رئيسي في ديناميات الحشد، أعداد المتظاهرين المشاركين في التظاهرة الرئيسية بميدان التحرير والمناطق المحيطة به بنحو 200 ألف متظاهر فقط، في يوم 30 من يونيو/حزيران 2013، مضيفًا: “رصدت في بحثٍ لي أكثر من 140 تظاهرة مضادة لمرسي يوم 30 من يونيو، بحسب ما جاء في الإعلام المصري. ويشير مجموع أعداد تلك التظاهرات إلى أن مجموع المشاركين في ذلك اليوم كان تقريبًا يزيد على مليون متظاهر في كل أنحاء البلاد. قد تشير هذه الأعداد إلى تظاهرة حاشدة بالفعل، لكنها تظل جزءًا صغيرًا من عدد الأصوات التي حصل عليها مرسي في الانتخابات”.
تمويل إماراتي
كان التمويل غير المسبوق للحركة مثار تساؤل الشارع المصري في هذا الوقت، وكثرت العديد من السيناريوهات المتعلقة بمصدر هذا التمويل، غير أن صورة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بعد الإطاحة بمرسي، لوزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، مع مؤسسي تمرد، محمود بدر (عضو برلماني حاليّ) ومحمد عبد العزيز (عضو لجنة الخمسين لوضع الدستور)، وجهت سهام النقد حيال أبو ظبي.
في مارس 2015 نشرت إحدى القنوات المعارضة تسريبًا لمدير مكتب السيسي – آنذاك – عباس كامل، مدير المخابرات العامة حاليًّا، ووزير الدفاع حينها، صدقي صبحي، توضح حقيقة دور دولة الإمارات في تمويل حركة تمرد وجهاز المخابرات الحربية، التسريب كشف أن تمويل الحركة كان جزءًا من خطة أبناء زايد لإسقاط مرسي.
المقطع المسرب كشف أن تمويل الحركة تم عبر حسابات بنكية تابعة للمخابرات الحربية، كانت تغذيها الإمارات، وهو ما كشفه بوضوح حديث كامل مع صبحي عندما طلب منه 200 ألف من الفلوس اللي في المخابرات ومخصصة لـ”تمرد” التي قالت إنها 5 دون أن يوضح هل هي خمسة ملايين أم مليارات، وبأي عملة كانت، فيما قال كامل لوزير الدفاع: “والنبي يا فندم هنحتاج بكرة 200 من حساب تمرد”، مضيفًا: “انت عارف الجزء بتاع الإمارات”.
وبعد عام تقريبًا من هذا التسريب، وفي مارس 2016 فاجأ محمد فاضل، عضو هيئة الدفاع عن محب دوس الناشط السياسي المصري وأحد مؤسسي “تمرد”، الذي اعتقلته بعد ذلك السلطات المصرية، بحجم الأموال التي تلقتها الحركة قبل 30 من يونيو من دولة الإمارات ومن جهات أخرى.
نتاجا لما تم كشفه من تورط الإمارات في دعم الحركة، دعا عدد من النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي إلى القبض على قيادات تمرد بتهمة التخابر مع دول أجنبية وتلقي تمويلات منها
فاضل أوضح خلال مداخلة تليفزيونية له أن “هناك واقعة أخرى وهي أن أحد المسؤولين في سفارة الإمارات بالقاهرة اتصل بكل من دعاء خليفة ومحب دوس، وأبلغه أن هناك شيكًا بقيمة 30 ألف دولار سيتم إرساله على عنوان منزله، ولما رفض دوس قبول تلك الأموال، قال له المسؤول الإماراتي: هذا الشيك أرسل مثله لفلان وفلان وفلان، وهذا كان محل البلاغ الذي تقدمت به للنائب العام ضد كل من محمود بدر ومحمد نبوي، وهذا البلاغ يتعلق بتلقيهم أموالًا تقدر بملايين الجنيهات”، بحسب قوله.
وتابع: “قدمنا للنائب العام صورًا من الشيكات، وشهادات تثبت الوقائع، وهناك ثلاث وقائع يحويهم البلاغ، الأولى تتعلق بتلقي قيادات (تمرد) 6 شيكات كل شيك بقيمة مليون جنيه من شيوخ قبائل سيناء، قبل 30 يونيو بحجة المساهمة في الإعاشة الخاصة بالميدان وتم صرفها”، وأضاف: “هناك 30 شيكًا، قيمة كل شيك 100 ألف دولار من الجالية العربية بأمريكا، وتم ذلك من خلال وسيط وهو رئيس الجالية ووسيط آخر يعمل معدًا بقناة العربية”.
ونتاجا لما تم كشفه من تورط الإمارات في دعم الحركة، دعا عدد من النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي إلى القبض على قيادات تمرد بتهمة التخابر مع دول أجنبية وتلقي تمويلات منها، ورغم أن بعضهم تساءل عن مصدر أموال محمود بدر، أحد أعضاء الحركة، حيث كان صحفيًا مغمورًا لا يمتلك شيئًا، وفجأة بات لديه ثلاثة سيارات وقطعة أرض ومصنع، الذي تم مكافأته بعد ذلك بمقعد في مجلس النواب (البرلمان).
أين اختفت الحركة؟
تعرضت الحركة بعد أن أنهت مهمتها على أكمل وجه، إلى تشققات وخلافات داخلية أودت بها سريعًا، حيث باتت تمثل عبئًا على النظام الجديد رغم احتضانه ورعايته لها، فتوقف التمويل الإماراتي ورفع الجيش عباءة الاحتضان، ومن هناك تساقطت جدرانها جدار تلو الآخر حتى تحولت إلى كوم رماد.
وبعد اعتلاء السيسي سدة الحكم، وإحكام جنرالات الجيش السيطرة على مقاليد الأمور، خرجت بعض الحركات الانشقاقية من داخل الحركة، من بينهم حركة أطلقت على نفسها “تمرد 2” التي بررت انشقاقها بأن الجيش بات يهدد الديمقراطية ومن ثم كان لا بد من العمل لعودة المسار الديمقراطي مرة أخرى، وهو الشعار الذي لم يتحقق.
مع مرور الوقت، ووقف التمويل الإماراتي، تلاشت الحركة الأولى والثانية واختفى رموزها بعيدًا عن الأضواء، وذلك بعد أن أتمت مهمتها على أكمل وجه
الحركة الجديدة اتهمت الحركة الرئيسية بالكذب في كثير من الخطوات والبيانات والتصريحات، منها ما يتعلق بعدد التوقيعات التي أعلنت الحركة جمعها لعزل مرسي، حيث قالت “عدد التوقيعات بلغ 8.5 مليون فقط وليس 22 مليونًا كما أعلنت الحركة قبيل المظاهرات احتجاجًا على حكم مرسي في يونيو/حزيران 2013”.
المتحدثة باسم “تمرد 2” مها البديني، علقت على ظروف نشأة الحركة بقولها: “إحنا كنا عايزين حكم مدني. كنا عايزين على أساسه يتم توطيد الديمقراطية اللي بنحلم بيها. إن مصر تبقى أحسن”، وأضافت “في ناس كتير خايفة. بس أنا لو خفت وده خاف وغيري خاف مش هنقدر نكمل.. لازم حد يطلع ويشجع الناس أنها تتكلم وتطلع تاني مرة تانية عشان تأكد على مبادئ الثورة”.
ومع مرور الوقت ووقف التمويل الإماراتي، تلاشت الحركة الأولى والثانية واختفى رموزها بعيدًا عن الأضواء، وذلك بعد أن أتمت مهمتها على أكمل وجه، إلا محمود بدر الذي نجح في الحصول على مقعد في البرلمان، ليظل هذا الكيان شاهدًا حيًا على تدخل أبو ظبي الفج في شؤون الدول الأخرى، وصفحة سوداء في سجل الثورات المضادة الساعي لإجهاض إرادة الشعوب والتحايل عليها، وهو ما يتكرر حاليًّا في العديد من العواصم العربية الأخرى.