5 أشهر مضت منذ بدء تفشي جائحة كورونا في العراق التي حصدت ما يزيد على 60 ألف مصاب و2473 حالة وفاة، إذ لم يوفر الفيروس أي محافظة سواء في الإصابات أم الوفيات، إلا أن تأثير الجائحة يختلف من محافظة إلى أخرى وفق قدرة بناها الصحية التحتية في مواجهة الوباء والحجر الصحي والعلاج كذلك.
في هذا التقرير لـ”نون بوست” نذهب إلى الموصل لنستطلع وضعها في ظل الجائحة ومدى تفشي الفيروس، ونتعرف على الحركة التي انبرى فيها شباب الموصل ومساجدها لدعم قطاع الصحة بمحافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل.
موقع مبتكر للحجر الصحي
“فريق التعامل مع الكوارث” عنوان واحد ضم تحته أكثر من 3 حملات تطوعية شبابية ومكتبين هندسيين وعشرات الشباب المتطوعين، الذين وبعد زيادة الضغط على المؤسسات الصحية في الموصل ابتكروا فكرة تحويل معرض نينوى الدولي في المدينة إلى موقع للحجر الصحي للموصليين الوافدين من خارج العراق الذين عادوا أو ينوون العودة إلى المدينة.
إذ تنص لوائح وزارة الصحة العراقية الاتحادية بحجر جميع الوافدين من خارج البلاد مدة 14 يومًا حتى يتم التأكد من سلامتهم من الإصابة بفيروس كورونا (COVID-19)، فبسبب كم الضغط على المدينة والحرب الأخيرة التي تعرضت لها خلال عمليات تحريرها من تنظيم داعش، لم تعد المؤسسات الصحية كما كانت عليه قبل 2014 بسبب الدمار الواسع الذي حل بالمستشفيات وأدى إلى خروج غالبيتها عن الخدمة.
أكد المتحدث باسم وزارة الصحة الدكتور سيف البدر في حديث سابق لـ”نون بوست” أن الحرب ضد تنظيم داعش أدت إلى تدمير 18 مستشفى وعشرات المراكز الصحية الأولية، فضلًا عن تدمير 6 مراكز تخصصية لمعالجة الأمراض المزمنة وخسارة الجزء الأعظم من المعدات والأجهزة الطبية التي كانت في المدينة قبل احتلال تنظيم داعش لها.
ونتيجة لذلك لم تكن المؤسسات الصحية في الموصل مؤهلة أو قادرة على استيعاب أعداد الوافدين إليها، فكانت فكرة تحويل معرض نينوى الدولي إلى موقع للحجر الصحي الاحترازي.
سعد الوزّان ناشط موصلي من حملة “نينوى أولًا” يقول في حديثه لـ”نون بوست” إن حملتهم وبعد أن لاحظت تزايد أعداد الوافدين إلى الموصل وقلة المواقع المخصصة للحجر الصحي، دعت إلى اجتماع موسع للمنظمات التطوعية في الموصل التي شملت حملة تطوع معنا وخلوها أجمل ورواد العطاء والعديد من الناشطين، ويضيف الوزان أن حملتهم ذهبت إلى اقتراح فكرة تحويل معرض نينوى الدولي إلى موقع للحجر الصحي، لافتًا إلى أنهم بدأوا العمل قبل نحو 6 أيام ومن المفترض إكماله خلال الأيام الثلاث القادمة.
الوزان يشير إلى أن موقع الحجر الصحي يضم قرابة 90 غرفة للحجر الصحي، معزولة عن بعضها وبمواصفات مطابقة ومصادق عليها من دائرة صحة نينوى، مؤكدًا أن جميع الفرق أثبتت قدرتها على إمكانية مساعدة المدينة في أشد أزماتها.
أما المهندس عمر صلاح الدين من مكتب تعمير الهندسي الذي تولى بمبادرة تطوعية منه وضع التصاميم الهندسية والإشراف الميداني على تهيئة الموقع، فيقول في حديثه لـ”نون بوست”: “صاحب معرض نينوى الدولي، أركان الفيصل، رحّب بفكرة تحويل المعرض إلى موقع للحجر الصحي، مضيفًا “باشرنا العمل واستطعنا خلال أيام تحويل الموقع الذي تبلغ مساحته 1500 متر مربع إلى ما يقرب من 90 غرفة للحجر الصحي بمساحة 2.5 عرض وطول 3 أمتار مجهزة بالأسرة واللوازم الضرورية”.
وعن بقية التجهيزات اللازمة، أشار صلاح الدين إلى أن جامعة الموصل وديوان الأوقاف في نينوى تبرعا بـ8 أجهزة تكييف كبيرة، فضلًا عن تبرع التجار بالأسرة والأغطية واللوازم الأخرى.
وعن استعمال الموقع، أكد صلاح الدين أن الموقع لا يعد مشفى لمرضى كورونا أو مركزًا صحيًا، بل يمكن تشبيهه بفندق متكامل الخدمات لأجل حجر الوافدين والتأكد من عدم حملهم للفيروس وبعد قضائهم 14 يومًا ينتهي حجرهم عندئذ ويمكن حينها أن يباشروا حياتهم في المدينة، مؤكدًا أن الموقع سيعزز بفرق طبية من دائرة الصحة التي ستشرف على حالة المحجورين الصحية وتحديد إصابتهم من عدمها.
من جانبه، يشير الناشط الموصلي أحمد وليد في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن موقع الحجر الجديد يعد ذكيًا من ناحية التعامل مع المحجورين، إذ إنه مزود بنظام كاميرات مراقبة وحاكيات صوتية، وستعمل الفرق التطوعية على انتداب مجموعة منها لأجل إدارة الموقع لوجستيًا من غرف معزولة عنه ومشرفة عليه، وبالتالي سيسمح النظام الذكي بمراقبة المحجورين وضمان عدم مخالطتهم لبعضهم.
ويضيف أيضًا “الشخص المحجور سيكون حجره عبر ملئه استمارة إلكترونية يتم من خلالها معرفة جميع تفاصيل حياته قبيل وصوله للموصل والدولة والمدينة التي قدم منها، فضلًا عن المكان المستقبلي الذي سيقيم فيه بالموصل”.
وعن الشروط الصحية، يلفت وليد إلى أن الفرق التطوعية لم تغفل مسألة المرافق الصحية لموقع الحجر، إذ يتوافر نوعان من المرافق الصحية أحدها مخصص للكادر الإداري والآخر للمحجورين وسيتم تعفيرها على مدار الساعة مع ضمان تزويد هذه المرافق الحساسة بصنابير مياه وصنابير تعقيم ذكية دون أن يضطر المحجور للمسها، ما سيقلل من خطر التلامس الذي قد ينقل الوباء في حال كان أحد المحجورين حاملًا للفيروس.
أما حملة “خلوها أجمل” فلم تدخر جهدًا هي الأخرى لتوفير الكثير من مستلزمات الوقاية من فيروس كورونا، فقد عمدت الحملة إلى توفير آلاف الأقنعة الجراحية الواقية من الفيروس للمراكز الصحية، فضلًا عن توفير مواد التعقيم وسلات صحية للعوائل في المناطق الفقيرة، وعمدت الحملة مؤخرًا إلى توزيع 4 آلاف سلة صحية على العوائل الفقيرة في المدينة القديمة بالموصل.
أفكار خلّاقة
لم يقف دور الحملات التطوعية عند حد معين، إذ ابتكرت حملة “نينوى أولًا” مبادرة فريدة من نوعها، فيكشف الناشط عبد الله طه في حديثه لـ”نون بوست” أن الحملة أطلقت مبادرة “البراعم الخضراء” لدعم الأطفال نفسيًا داخل الموصل وتخفيف أعباء بقائهم في المنازل خلال الحجر الصحي.
ويشرح طه المبادرة التي كانت عبر توفير “سلة الزراعة المنزلية للأطفال” لتساعدهم على تعلم أساسيات الزراعة وتخفف عنهم الضغط النفسي المتولد من البقاء الطويل داخل المنازل بسبب الحظر.
وعن سبب إطلاق مثل هذه المبادرة وأهدافها، يقول عبد الله: “هذه المبادرة تحية خالصة من حملة نينوى أولًا لكل أب وأم التزموا بالبقاء في المنازل وحافظوا على أطفالهم رغم كل الصعوبات النفسية، إذ تأتي لأجل تعليم الأطفال مبادئ الزراعة والحفاظ على البيئة”.
ويشير طه إلى أن المبادرة أطلقت في شهر رمضان المبارك واحتوت على المواد الأساسية للزراعة المنزلية للأطفال كما ضمت مطبوع إرشادات يساعد الأهالي على تعليم أطفالهم الزراعة وتبيان فوائدها.
يختتم عبد الله حديثه لـ”نون بوست” بالإشارة إلى أنه وبعد توزيع سلات الزراعة المنزلية في بداية شهر رمضان، استطاعت نينوى أولًا زيارة الأطفال المُلتزمين بالزراعة المنزلية، ومنحتهم وسامًا تشجيعيًا لالتزامهم بالبقاء في البيوت للحفاظ عليهم من فيروس كورونا، فضلًا عن تشجيعهم على ترسيخ ثقافة العناية بالبيئة والحفاظ على الأشجار والنباتات.
جهود المساجد
لا يقف الدعم الشعبي للصحة العامة في محافظة نينوى عند حد معين، فكما كان للمساجد الموصلية دور كبير عام 2003 إبان الغزو الأمريكي للعراق، فيما عرف حينها بـ”وقفة المساجد” حيث تحولت جوامع المدينة إلى مقار ومراكز لحماية الأحياء والأهالي وحفظ أمنها، جاء دور المساجد مرة أخرى مع انتشار وباء كورونا، إذ استطاعت مساجد موصلية تقديم العون لدائرة الصحة في المدينة من خلال جمع عشرات الملايين في سبيل شراء أجهزة التنفس الصناعي لمستشفيات الموصل.
في هذا الصدد، يقول الشيخ عصام أحمد صالح خطيب جامع الرحمة في حي السكر بالموصل: “بعد استحصال موافقة ديوان الوقف السني في الموصل بالعمل على جمع التبرعات، باشرت لجنة مختصة في الجامع بجمع التبرعات لأجل شراء الأجهزة الضرورية التي تسهم في إنقاذ وعلاج مرضى فيروس كورونا”.
ويضيف الشيخ أن الحملة تلقت الدعم من آلاف الموصليين من داخل المدينة وخارجها، مع وصول التبرعات إلى أكثر من 106 ملايين دينار عراقي ستذهب كلها لشراء الأجهزة الضرورية، لافتًا إلى أنه ليس غريبًا على مساجد الموصل وقوفها المشرف في دعم المدينة كما حدث في حملة “وقفة المساجد” عقب الغزو وما زامنه من عمليات السلب والنهب وإعادة المساجد ما سرق حينها إلى دوائر الدولة.
كما أسهمت مساجد عديدة بالموصل في توزيع المساعدات الغذائية على المتعففين في المدينة خلال الحظر الصحي الذي تسبب بتوقف الأعمال والحركة التجارية، إذ وزع جامعا فتحي العلي والتكاي في الجانب الأيمن (الغربي) من الموصل آلاف السلات الغذائية على الموصليين، ما أسهم في تخفيف أعباء الحظر الصحي الذي استمر قرابة 3 أشهر كاملة.
من جانبه، يصف الصحفي الموصلي محمد سالم الحملات التطوعية ودور المساجد، بأنه جاء مكملًا لدور دائرة صحة نينوى، مشيرًا إلى أن الفرق التطوعية في الموصل كان لها الدور الكبير للنهوض بواقع المدينة عقب تحريرها من تنظيم داعش في يوليو/حزيران 2017.
ويشير سالم إلى أنه ليس من الغريب على هذه الحملات أن توسع أعمالها في هذه الظروف الصحية العصيبة، فمستشفيات المدينة مدمرة، وبالتالي جاءت هذه الحملات لتكشف للعالم الدور الكبير لسكان الموصل في ديمومة الحياة فيها.
أخيرًا، تثبت هذه الحملات والأنشطة التي يتنادى لها نشطاء ومنظمات المجتمع المدني في الموصل، أن الفسائل التي يغرسها الناجون من الحرب التي دمرت المدينة تنبث وتزهر وتثمر، وتؤتي أوكلها كل حين بإذن ربها، خيرًا يصيب عموم الأهالي ويرمم جراح الحدباء.