فرضت أزمة كورونا اختبارًا صارمًا وفجائيًا على حكومات العالم، وصاغت أسئلة عن مرونتها وجاهزيتها في التعامل مع الوباء والسيطرة عليه بأقل الخسائر الممكنة، وعندما قررت العديد من الدول رفع القيود التي فرضتها بسبب الجائحة لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا، واجهت الغالبية ضغوطًا جديدة، وكان أبرزها توتر العلاقات الدبلوماسية على أكثر من جبهة.
شملت تلك القرارات رفع القيود المفروضة على الحدود، فقد حثت مفوضة الشؤون الداخلية بالاتحاد الأوروبي، إيلفا يوهانسون، أعضاء شينغن على إلغاء الحظر والسماح بالسفر من وإلى الدول التي يعتبر وضع وباء كورونا فيها “جيدًا” اعتبارًا من بداية الشهر الحاليّ، بهدف إنقاذ ما تبقى من موسم السياحة المتضرر، إلا أن هذا القرار لم يجر تطبيقه وفقًا للمعايير الصحية كما ادعت.
رفع حظر السفر عن حدود الاتحاد الأوروبي
أعلن الاتحاد الأوروبي قائمة الدول التي سُيسمح للوافدين منها بدخول منطقة شنغن، وهي 15 دولة: تونس والمغرب والجزائر وكندا وجورجيا واليابان والجبل الأسود ونيوزيلندا ورواندا وصربيا وكوريا الجنوبية وتايلاند والأوروغواي، بينما استثنت تركيا وروسيا والولايات المتحدة والبرازيل والهند.
أثار هذا القرار استياء الحكومة التركية، فقد طالب المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أقصوي، الاتحاد الأوروبي بتعديل قرار رفع قيود السفر، وأضاف أن أنقرة تشعر بخيبة أمل إزاء قرار التوصية الصادر عن الاتحاد الأوروبي والذي ينص على فتح حدود بلدانها أمام الوافدين من 15 دولة، تركيا ليست بينها.
وأشار إلى النجاح الذي حققته البلاد في مكافحة الوباء ومشاركتها المستمرة لجميع البيانات المتعلقة بالوباء مع الاتحاد، معبرًا عن أمله في إعادة صياغة القرار بحيادية، لا سيما أن أعداد الإصابات الجديدة تواصل انخفاضها في عموم البلاد، حيث بلغ عدد الحالات إلى الآن نحو 205 ألف، بحسب وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة.
لقت تركيا الثناء والإشادة على مبادراتها الإنسانية، وحظيت بشكر خاص من المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا، هانز كلوج، على أدائها دور “الصديق عند الضيق”
لكن بالنظر إلى قائمة الإصابات العالمية، فقد تصدرت الولايات المتحدة القائمة بنحو ثلاثة ملايين إصابة، تلتها البرازيل بنحو 1.6 مليون، ثم الهند بقرابة 700 ألف، وفقًا لموقع “Worldometer” المتخصص برصد ضحايا الفيروس في العالم.
وإذا أجرينا مقارنة بسيطة بين الدول الثلاثة المتصدرة وتركيا، سنجد أن الوضع الصحي في تركيا جيد جدًا، ليس فقط بالنظر إلى عدد الإصابات، وإنما بنجاحها منذ البداية في احتواء الأزمة والسيطرة على الفيروس من الانتشار وتقديم مساعدات مختلفة لدول العالم الأخرى.
ففي المقابل تلقت تركيا الثناء والإشادة على مبادراتها الإنسانية، وحظيت بشكر خاص من المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا، هانز كلوج، على أدائها دور “الصديق عند الضيق”، وابتعادها تمامًا عن الإجراءات الحمائية الأنانية والانعزالية في مواجهة أضرار الوباء.
في هذا الخصوص أيضًا، قال الأستاذ المحاضر بعلم الفيروسات في جامعة كينت جيريمي روسمان: “تركيا نجحت في تفادي كارثة أكبر بكثير، وهي تنتمي لفئة الدول التي استجابت للأزمة بسرعة، من خلال الاختبارات وتعقب المصابين وعزلهم وفرض قيود على الحركة”، مشيرًا إلى أن “مجموعة صغيرة من الدول التي اتخذت إجراءات فعالة للغاية للحد من انتشار الفيروس”، وكذلك رأى نيكولاس دانفورث، المؤرخ في صندوق مارشال الألماني، قائلًا: “تركيا تتعامل مع الأزمة بشكل أفضل من معظم القوى الغربية”.
دواعٍ سياسية أم صحية؟
رغم إشادة منظمة الصحة العالمية والمجتمع الدولي بأداء تركيا خلال أزمة كورونا، فإن هذه الاعترافات لم تحرز أي تقدم ملموس على صعيد العلاقات البينية، بل على العكس أضافت جرعة جديدة من الحساسية بين الطرفين، فوفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز”، يضع الاتحاد الأوروبي سياسة معقدة من خلال عدم فتح حدوده لبعض الدول مثل الولايات المتحدة والبرازيل وروسيا، ساعيًا إلى تحقيق التوازن بين المخاوف الصحية مع السياسة والدبلوماسية والحاجة الماسة إلى عائدات السياحة، وعلى الرغم من أن تركيا لم يتم ذكرها في تقرير الصحيفة، فإن استبعادها هو المثال الأبرز للاعتبارات السياسية للاتحاد الأوروبي.
والدليل على ذلك ما أشارت إليه صحيفة “دي فيلت” الألمانية عن وجود دوافع سياسية وراء قرار الاتحاد الأوروبي، واصفةً تحذير السفر بحجج صحية بأنها “غير معقولة”.
اعتبر الرئيس التركي أن الاتحاد الأوروبي اتبع سياسة ازدواجية المعايير تجاه أنقرة، وأوضح أن أوروبا رفعت قيود السفر عن بلدان تعاني من عدم الشفافية في معطيات كورونا
إذ أوضحت الصحيفة أن “ألمانيا حاولت الدخول في لعبة مصالح ضد تركيا تحت ستار فيروس كورونا”، وأضافت أن إصابات كورونا في تركيا ليست بهذا السوء كبعض الدول الأخرى، كما أشارت إلى تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الذي قال إن ألمانيا سمحت لمواطنيها بقضاء العطلة في أماكن أسوأ من ناحية كورونا، في إشارة ضمنية إلى بريطانيا التي تعتبر أحد مراكز تفشي الفيروس في أوروبا.
وأردف قائلًا: “في اللائحة المعلنة من الاتحاد الأوروبي عن البلدان الآمنة من ناحية كورونا، نجد أسماء بلدان لا تلتزم الشفافية في معطيات كورونا، لكن تركيا التي تلتزم الشفافية، غير موجودة في هذه اللائحة، وهذا دليل على أن اللائحة أُعدت بدوافع سياسية”، وأكد أنه عندما تضع البلدان معايير موضوعية فإنها ستعلن أن تركيا بلد آمن.
بدوره اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الاتحاد الأوروبي اتبع سياسة ازدواجية المعايير تجاه أنقرة، وأوضح أن أوروبا رفعت قيود السفر عن بلدان تعاني من عدم الشفافية في معطيات كورونا، بينما تمتنع عن رفع قيود السفر عن مواطني تركيا.
ميركل متفقة مع ماكرون إزاء سياسات أنقرة في شرق البحر المتوسط وليبيا، وبذلك، يمكن تفسير سبب استبعاد تركيا من قائمة إعادة فتح الحدود مع الاتحاد الأوروبي لأسباب سياسية بدلاً من مخاوف الصحة العامة.
ساندت مؤسسة “Redaktionsnetzwerk Deutschland” الإعلامية هذه التصريحات بقولها إن تركيا على حق عندما تتهم أوروبا بازدواجية المعايير، محذرةً الحكومة الألمانية من ضرورة تطبيق تحذير السفر بشكل أفضل وإلا فإنها ستبقى متهمة بالاستخدام السيئ للتحذير كورقة ضد أنقرة، ومعتبرة هذه التحركات غير المبررة بأنها “ليست حكيمة أو صادقة سياسيًا”، ومضيفة أن المسافرين الألمان لا يجب أن يعانوا بسبب النزاعات السياسية.
يضاف إلى ذلك، اعتقاد آخر له علاقة مباشرة بانتقاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدور التركي في ليبيا ودعوة حلف شمال الأطلسي للتدخل ضد موقف تركيا تجاه ليبيا واتهامها بـ”المسؤولية الجنائية”، قبل يوم واحد من القرار في مؤتمر صحفي مشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ما يقدم دليلًا واضحًا بأن ميركل متفقة مع ماكرون إزاء سياسات أنقرة في شرق البحر المتوسط وليبيا، وبذلك، يمكن تفسير سبب استبعاد تركيا من قائمة إعادة فتح الحدود مع الاتحاد الأوروبي لأسباب سياسية بدلاً من مخاوف الصحة العامة.
الجهود التركية لرفع قيود السفر
وعد مسؤولو الاتحاد الأوروبي بإعادة مراجعة قائمة الدول الآمنة كل أسبوعين، وفي الوقت ذاته تبذل تركيا أقصى جهودها لرفع قيود السفر والاستفادة مما تبقى من موسم السياحة، حيث توجه وزيرا الخارجية والسياحة إلى ألمانيا للترويج للمرافق السياحية الخالية من الفيروسات التي قدمتها إلى أكثر من 50 سفيرًا ووسيلة إعلام أجنبية.
كما دعت الحكومة المبعوثين وكبار الدبلوماسيين من دول أوروبية بارزة مثل ألمانيا والمملكة المتحدة وبلجيكا واليونان وبولندا وهولندا وروسيا وكذلك من قارات أخرى إلى أنطاليا لتعزيز الضمانات التي اتخذتها الحكومة، وعقدت مؤتمرًا أطلق عليه “برنامج شهادة السياحة الآمنة للضيوف”، وتناولوا خلاله جميع المعايير الـ 130 التي اتخذتها الوزارة والهيئات الحكومية في العديد من المجالات بما في ذلك النقل والإقامة والمرافق السياحية.
ونظرًا لهذه التدابير، تأمل تركيا في الفترة المقبلة أن تتعامل أوروبا مع جهودها بحيادية وموضوعية بعيدًا عن الخلافات السياسية والانحيازات لبعض الأطراف في منطقة شنغن.