الصعود المبهر والانهيار المأساوي لمحمد بن نايف

ترجمة وتحرير: نون بوست
بدأ فصل جديد قاتم في معركة “لعبة العروش” السعودية للسيطرة على المملكة، في الوقت الذي يعد فيه ولي العهد محمد بن سلمان اتهامات بالفساد وعدم الولاء ضد سلفه ومنافسه السابق، ولي العهد السابق محمد بن نايف، وهو الرجل الذي كان في السابق بطل الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب والتطرف.
بدأت مواجهة العائلة المالكة هذه تتصاعد منذ خلع محمد بن سلمان، سلفه في حزيران/ يونيو 2017. وتكمن الجذور في عمق التنافس المرير بين أنصار الملك الراحل عبد الله، الذي كان قد دافع عن محمد بن نايف، والحاشية التي أحاطت بخليفته، الملك سلمان، وابنه المتهور محمد بن سلمان، عندما تولى الملك الجديد السلطة بعد وفاة عبد الله في كانون الثاني/ يناير 2015.
تقول مصادر سعودية وأمريكية إن لجنة مكافحة الفساد التابعة لمحمد بن سلمان على وشك الانتهاء من تحقيق مفصل في مزاعم مفادها أن محمد بن نايف حوّل بشكل غير صحيح مليارات الريالات السعودية من خلال شبكة من الشركات الواجهة والحسابات الخاصة بينما كان يدير برامج مكافحة الإرهاب السعودي في وزارة الداخلية.
عمل بن نايف هناك كمساعد رئيس لوالده الأمير نايف، ثم خلفه وزيرا من 2012 إلى 2017. قال أحد المقربين من بن نايف إن المحققين السعوديين طلبوا منه سداد 15 مليار دولار يزعمون أنه سرقها، على الرغم من أنه ليس من الواضح كيف وصلوا إلى هذا الرقم. من جهته، طلب هذا الشخص، مثل بعض الأشخاص الآخرين الذين وقع التواصل معهم من أجل هذه المقالة، عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية المسألة.
في الواقع، يقول أنصار بن نايف إن هذه الاتهامات كاذبة وتتناقض مع المرسوم الملكي لسنة 2007 الصادر عن الملك عبد الله، الذي أذن بجميع أنشطة محمد بن نايف ونص على تقرير سنوي مفصل حول إنفاقه. كذاك، فإن الوثائق السعودية الداخلية المقدمة من أحد زملاء بن نايف ومراجعتها من قبل الصحيفة تدعم ادعاء بن نايف بأن أنشطته المالية السرية موافق عليها، على الأقل في الخطوط العريضة، من قبل الملك الراحل.
أكد مرسوم سري صدر في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2007، يحمل توقيع عبد الله المميز، أن “مساعد وزير الداخلية [محمد بن نايف] سيستمر في إدارة هذا الصندوق ونفقاته بطرق تدعم جهود مكافحة الإرهاب”. كما يأذن المرسوم لشركة بن نايف بإنشاء “الآليات المناسبة في القطاع الخاص” وذلك لإخفاء الأنشطة الحساسة. كما ينص المرسوم على أن محمد بن نايف “سيطلعنا في نهاية كل سنة مالية” على الإنفاق من الصندوق السري.
يلخص تقرير سنة 2013 من بن نايف إلى عبد الله، الذي راجعته الصحيفة، الإنفاق السري لمكافحة الإرهاب في تلك السنة المالية. تطلب الوثيقة المؤرخة في 20 أيار/ مايو 2013 الموافقة على إنفاق خمس مليارات ريال سعودي، أي حوالي 1.3 مليار دولار، على ثمانية مشاريع، منها 378 مليون ريال “للمطارات السرية”، 1.6 مليار ريال “لخدمات النقل الجوي” و1.5 مليار ريال “للموارد” الأمنية مثل الأسلحة. ويُذكر أن مرجع “المطارات السرية” قد يشير إلى مشروع كشفت عنه هيئة الإذاعة البريطانية في شباط/ فبراير 2013 لبناء قاعدة طائرات دون طيار في المملكة قبل سنتين.
أعيد التقرير إلى محمد بن نايف بعد ثلاثة أيام، مصحوبا بخطاب تقديم من خالد التويجري، رئيس الديوان الملكي. وكان طلب الموافقة على الخمس مليارات ريال مرفقا بمذكرة مكتوبة بخط اليد وباللغة العربية، والتي من المؤكد أنها لعبد الله، جاء فيها “لا مشكلة”، وذلك بحسب وثيقة راجعتها الصحيفة.
قال مساعد بن نايف أن هذه الوثائق السعودية يحتفظ بها محاموه في بريطانيا وسويسرا وسيقع الاستظهار بها في أي إجراء قانوني دولي قد ينشأ. في هذا الشأن، رفض مسؤول سعودي عمل بشكل وثيق مع بن سلمان في التحقيق مع بن نايف أن يرد على رسالتين نصيتين تطلبان منه تعليقا. علاوة على ذلك، لم يرد المتحدث باسم السفارة السعودية في واشنطن على طلب للتعليق.
يقول مسؤولون سابقون في وكالة المخابرات المركزية إنهم كانوا على علم بسيطرة بن نايف على مثل هذه الحسابات السرية لمكافحة الإرهاب في ذلك الوقت وقد استخدموها للمساعدة في تمويل المشاريع الأمريكية السعودية المشتركة. وأوضح جون برينان، مدير وكالة المخابرات المركزية السابق الذي عمل بشكل وثيق مع بن نايف لأكثر من عقد، في مقابلة: “وقع تزويد وزارة الداخلية بميزانية حتى يتمكنوا من بناء القدرات وتجنيد الأفراد وتطوير اتصالات أجهزة المخابرات لاختراق القاعدة. كان رأي عبد الله أنه كان عليه أن يستثمر في الأنشطة التي يقودها بن نايف، الذي كان أحد المفضلين لديه”.
تحدث برينان عن الادعاء، الذي علمته من السعوديين المقربين من بن سلمان، بأن بن نايف اختلس أموالا من حسابات المخابرات. وقال برينان: “طوال فترة تعاملي مع بن نايف، لم يبد كأنه شخص متورط في نشاط فاسد أو كان يسرق المال”.
من جهته، تحدث جورج تينيت، الذي كان مدير وكالة المخابرات المركزية عندما تكفل بن نايف بملف مكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية سنة 2003، بإعجاب عن بن نايف في مذكراته التي تحمل عنوان “في قلب العاصفة: في السنوات التي قضيتها في السي آي أي“، والتي نشرت سنة 2007: “إنه شخص جعلنا نحمل له قدرا كبيرا من الثقة والاحترام، كما أن العديد من النجاحات في التخلص من تنظيم القاعدة في المملكة هي نتيجة جهوده الشجاعة”.
وزير الدفاع السعودي آنذاك محمد بن سلمان، إلى اليسار، يجري محادثات مع ولي العهد آنذاك ووزير الداخلية محمد بن نايف في الرياض في كانون الأول/ ديسمبر 2015.
توضح قصة بن نايف، كما رواها أصدقاؤه وشركاؤه، تحول المملكة البطيء نحو التحديث، حتى عندما كانت تمزقها الغيرة والعداوات العائلية. نشأ الأمير، البالغ من العمر الآن 60 سنة، في السياسة الحاكمة للمملكة. كان لديه وجه لطيف ويرتدي نظارة وكان الابن الثاني المطيع. كان والده نايف، نجل المؤسس الأسطوري الملك عبد العزيز بن سعود، وزيرا للداخلية لمدة 37 سنة من سنة 1975 إلى 2012.
جسّد نايف الحرس السعودي القديم، لقد كان محافظا ووفيا للمؤسسة الدينية الوهابية في المملكة. تحت قيادته، كانت وزارة الداخلية بيروقراطية بطيئة دون أدوات خدمة أمنية حديثة. وأصبحت نقاط الضعف هذه خطيرة عندما بدأ المجاهدون المقاتلون السعوديون في العودة إلى الوطن من أفغانستان في التسعينات وتوجهوا نحو القاعدة.
احتاجت الوزارة إلى تغيير، وشجع عبد الله، الذي كان آنذاك ولي العهد ولكنه كان يدير المملكة بشكل فعال للملك فهد الذي كان مريضا، بن نايف على الانضمام إلى الوزارة سنة 1999 كمساعد لوالده. كأمير شاب، عاش بن نايف حياة نموذجية للعائلة المالكة، حيث قام ببيع العقارات العائلية في جدة والاستفادة من المشاريع المشتركة مع الشركاء السعوديين الأثرياء.
يتذكر أصدقاؤه أنه كان يحب كسب وإنفاق المال. ومع ذلك، كان لديه بعض الصفات التي أبهرت الملك، حيث أنه درس في الكلية في الولايات المتحدة كما أنه يجيد التحدث باللغة الإنجليزية وأخذ بعض الدورات في مكافحة الإرهاب من مكتب التحقيقات الفدرالي وسكوتلاند يارد.
كان أول مشروع لبن نايف سنة 1999 هو إصلاح أكاديمية الشرطة السعودية، وهو مركز تدريب متطور وقع تجنيد مرشحيه غالبا من خلال المحسوبية والمحاباة.
في الواقع، لقد قام بتجديد الأكاديمية بمساعدة خريج موهوب يدعى سعد الجبري، وهو ضابط سابق في الشرطة السعودية نال شهادة الدكتوراه في علوم الكمبيوتر من جامعة إدنبرة. وبذلك، بدأ شراكة استمرت حتى وقع خلع بن نايف كولي للعهد.
بعد تحديث الأكاديمية، كلف بن نايف الجبري بإعادة تنظيم مكتب الشؤون العسكرية بالوزارة، وهو مركز آخر يقوم على المحسوبية وضعف الأداء. في الأثناء، واجه بن نايف أول اختبار حقيقي له مع انتفاضة سنة 2000 في نجران، وهي مدينة على طول الحدود الجنوبية للمملكة مع اليمن التي كان بها عدد كبير من المسلمين الإسماعيليين. وبعد اعتقال رجل دين إسماعيلي بتهمة السحر، انشق العشرات من الضباط العسكريين، وتعرض مقر حاكم الإقليم للهجوم. في المقابل، أراد الحرس القديم في الوزارة شن حملة صارمة، لكن بن نايف تفاوض على تسوية سلمية. ومنذ ذلك الحين أصبح هذا النمط التصالحي علامة مميزة له.
في الواقع، يكلف الإصلاح أموالا، وتستهلك ميزانية وزارة الداخلية إلى حد كبير تكاليف الموظفين. لذا، فقد أُعطي محمد بن نايف السلطة من قبل عبد الله في حوالي سنة 2003 لاستخدام 30 بالمئة من عائدات الوزارة من الغرامات وجوازات السفر ورسوم الإقامة وغيرها من الإيرادات، لتمويل الأنشطة الخاصة. وأخبرني مساعد بن نايف أن تلك كانت بداية الترتيبات المالية الخاصة التي أدت إلى فتح التحقيق الحالي.
كانت المؤسسة الأمنية السعودية في سبات حين حدوث هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة. كان نايف مقتنعا بأن الهجمات كانت مؤامرة تهدف إلى تشويه سمعة المملكة. واستمر موقف الإنكار السعودي هذا حتى آيار/ مايو 2003، عندما هاجم مفجرو القاعدة مجمعا سكنيا أجنبيا في الرياض وقتلوا 35 شخصا من بينهم 10 أمريكيين. نتيجة لذلك، هرع تينيت إلى الرياض لعقد اجتماع عاجل لتحذير عبد الله من أن العائلة المالكة تواجه تهديدا خطيرا.
في هذا الصدد، استذكر تينيت المشهد في أحد المقابلات التي أجراها، إذ تجمع معه عبد الله ونايف وابنه والأمير بندر بن سلطان والسفير السعودي في واشنطن، الذي عمل كمترجم. وكتب تينيت لعبد الله أن مؤامرات القاعدة كانت “موجهة ضد عائلتك وقيادتك الدينية” وحثه على “إعلان الحرب”، كما كتب في مذكراته.
قرر بن نايف تكوين شبكة لما تسميه وكالة المخابرات المركزية “المالكين”، وهي شركات خاصة شكلية تُستخدم لإجراء العمليات السرية.
بناء على ذلك، رشح عبد الله قائده على الفور. وكما ذكر تينيت في المقابل، “نظر الملك إلى بن نايف وقال أمام الآخرين ‘ستتعامل مع ملف مكافحة الإرهاب'”. في السنوات التالية، قام بن نايف بتحديث جهاز الأمن التابع لوزارة الداخلية، والمعروف بالعربية باسم المباحث، إلى قوة حديثة لمكافحة الإرهاب. كما قام بتمويل العمليات من خلال الصندوق المخصص له، والذي يضم 30 بالمئة من عائدات وزارة الداخلية، لكن النفقات زادت، وبحلول سنة 2006، قرر عبد الله منح بن نايف المزيد من الأموال لعمليات المخابرات السرية وخاصة ضد القاعدة في جزيرة العرب المتمركزة في اليمن.
كان سخاء عبد الله الجديد مدفوعا جزئيا بعملية جريئة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب في شباط/فبراير 2006، والتي بنت نفقا بطول 460 قدما لتحرير 23 من معتقليها في اليمن، بما في ذلك زعيم هجوم سنة 2000 على يو إس إس كول. وبحسب شركة بن نايف، فقد تلقى منحة طارئة بقيمة 200 مليون ريال، أي 53 مليون دولار، سنة 2006 لزيادة عملياته ضد القاعدة في جزيرة العرب. علاوة على ذلك، كان هناك الكثير من المال في طريقه إلى بن نايف.
بدأ المرسوم الملكي السري لعبد الله في كانون الأول/ ديسمبر 2007 بالتأكيد على أنه وافق على جميع نفقات مكافحة الإرهاب السابقة، بما في ذلك مخصصات اليمن الخاصة، وذلك وفقا للوثيقة التي راجعتها الصحيفة. كان للمرسوم ثلاث نقاط رئيسية أخرى، وهي أن محمد بن نايف، “مساعد الوزير”، يمكنه الاستمرار في إنفاق ما هو مطلوب لمكافحة الإرهاب مع تقديم تقارير سنوية إلى الملك؛ كما يمكنه تنظيم الشركات الخاصة “حسب ما يراه مناسبا”؛ بالإضافة إلى أنه كان سيحصل على حصة أكبر من دخل رسوم الوزارة، حيث ارتفعت إلى 45 بالمئة من النسبة السابقة البالغة 30 بالمئة.
أرسل عبد الله مرسوم سنة 2007 إلى نايف، الذي لا يزال يعتبر وزيرا شكليا أنداك. ثم أرسل نايف مذكرة بخط يده لابنه. وكما استعرضتها وترجمتها صحيفة “واشنطن بوست”، فقد جاء فيها التالي: “في الواقع، هذا دعم كبير من قبل سيدي خادم الحرمين الشريفين”. وقد مُنح محمد بن نايف ما يعتبر بمثابة ترخيصًا لكتابة الصكوك على خزينة السعودية.
لإدارة العمليات بشكل آمن، قرر بن نايف تكوين شبكة لما تسميه وكالة المخابرات المركزية “المالكين”، وهي شركات خاصة شكلية تُستخدم لإجراء العمليات السرية. وأخبر مساعديه في الوزارة، في وثيقة اطلعت عليها “واشنطن بوست”، أنه عندما أسس شركات الواجهة هذه، كان “يحاكي المعيار الذي تتبعه وكالات الأمن الدولية” ويرغب في تأسيس شركات يمكنها توفير تكنولوجيا آمنة وتسمح بنقل الأفراد المسلحين دون “مضايقة” شركة الخطوط الجوية الوطنية السعودية.
طلب بن نايف اثنين من كبار المساعدين، الجبري، رئيس موظفيه، وعبد الله الحماد، المسؤول المالي الأول في الوزارة، للإشراف على الشبكة. لتعويضهما عن إدارة النظام، وعدهما بن نايف بخمسة بالمئة من الربح السنوي من الشركات المملوكة، وفقًا لوثيقة اطلعت عليها الصحيفة. الجدير بالذكر أن جهاز المخابرات الغربي منع تطبيق مثل هذا الاتفاق، لكن المملكة تتبع قواعد مختلفة لمكافأة الولاء.
في هذا الصدد، أديرت شبكة شركات الواجهة من خلال شركة سكاب السعودية القابضة الواقع مقرها في الرياض. تعني كلمة “السكاب” باللغة العربية حصانا رشيقا جدًا لدرجة أنه يتحرك مثل الماء الجاري، وتمثل شعار الشركة في حصان جميل، مرسوم بالذهب. حددت عقود التأسيس الخاصة بسكاب، بتاريخ التاسع من أيار/ مايو 2008، وعين اثنين من رجال الأعمال السعوديين مديرين للشركة ووعدهما بالتمتع بواحد بالمائة من الربح السنوي.
أدارت سكاب أربع عمليات رئيسية، يقع مقرها الرئيسي في الرياض: نقلت “ألفا ستار” لخدمات الطيران أفراد المخابرات وأسلحتهم. قامت شركة بناء، بالشراكة مع شركة تركية معروفة، ببناء البنية التحتية للمديرية العامة للمباحث وعملياتها، بما في ذلك مبنى المقر الجديد؛ قدمت شركة المراقبة الأمنية المركبات المدرعة وغيرها من الخدمات الأمنية؛ وعملت شركة التحكم التكنولوجي مع الشركات الأمريكية والسعودية لتوفير التشفير وفك التشفير واستخراج البيانات والخدمات الرقمية الأخرى.
طمأن بن نايف الملك بتقديم تقرير محاسبة سنة 2013: “أريد أن أبلغ جلالتكم بأن جميع المعلومات موجودة في أضيق الدوائر… وتُوثق كل خطوة التي تداولت في كنف السرية”.
بالنسبة للحكومة الأمريكية، التي كانت تخشى قبل سنوات قليلة من هزيمة تنظيم القاعدة للمملكة العربية السعودية، كانت تعبئة بن نايف، الممولة بشكل جيد، ضد المتطرفين بمثابة هبة من السماء.
في 30 آذار/ مارس 2009، تباهت برقية أرسلت من السفارة الأمريكية في الرياض إلى المخابرات ووكالات الأمن القومي في واشنطن بأن وزارة الداخلية كانت “الأبرز… والأكثر نفوذا على الصعيد المحلي”. وقالت البرقية إن عبد الله بن عبد العزيز”يحظى باحترام كبير من قبل الشعب السعودي لعمله الدؤوب سعيا لهزيمة تنظيم القاعدة في المملكة وإدارة خطة فعالة لمحاربة التطرف الذي حصل على دعم محلي وقبلي واسع. والنتيجة هي أن العمليات التي تجرى لصالح حكومة الولايات المتحدة يمكن أن تتم بطريقة فعالة وتعاونية للغاية داخل المملكة”.
من جهته، أوضح أحد كبار المسؤولين الأمريكيين السابقين المتمركزين في الرياض قائلا: “لقد فهم الجميع في الحكومة الأمريكية أن بن نايف كان يتمتع بأوسع سلطة إنفاق من قبل الملك”. وقال إنه من خلال هذه الشبكة، قام السعوديون بتمويل العديد من العمليات الأمريكية السعودية المشتركة لمكافحة الإرهاب.
في الواقع، لا يخضع الإنفاق، بواسطة خدمات الاتصال الأجنبية هذه، لإشراف الكونغرس أو السلطة التنفيذية. لكن، يصر المسؤولون السابقون على عدم إساءة استخدام الأموال. قال أحدهم إن القاعدة الإرشادية كانت بسيطة: “لا يمكنك أن تطلب من مسؤول الاتصال القيام بشيء لا يمكنك القيام به بنفسك”، وإلا، فسيكون ذلك بمثابة مكافأة استخباراتية، أو مال مجاني.
في سنة 2010، كانت ثمار هذه الشراكة الأمريكية السعودية واضحة عندما اكتشف السعوديون مؤامرة حاكها تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لنقل المتفجرات البلاستيكية المخبأة داخل خراطيش طابعة الكمبيوتر التي سيقع شحنها على متن طائرات الشحن الدولية. ووفقًا لمسؤولين أمريكيين وسعوديين سابقين، فإن هذه العملية، التي تضم عناصر جُنّدوا من خلال صناديق العمليات الخاصة باليمن لبن نايف، أنقذت العديد من الأرواح.
كان بن نايف يتمتع بسلطة كتابة الصكوك من البنك المركزي السعودي. كانت قيمة أول صك في الوثائق التي راجعتها الصحيفة 300 مليون ريال، والذي حُرر في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2008. وقال مساعد بن نايف إن الصك وقع إيداعه في حساب مرقم لصالح بن نايف، والذي يحمل ملاحظة “الوزير المساعد لشؤون الرقابة الأمنية للعمليات الأمنية الخاصة العاجلة”. بعد ذلك، أدارت سكاب الأموال في الحساب، لتوفير واجهة تجارية. في الواقع، أعطى المال نفوذا فريدا من نوعه لبن نايف. وأوضح مساعده: “إن وجود صندوق سري باسمك يعد بمثابة الكأس المقدسة في المملكة العربية السعودية”.
لم يهدر بن نايف المال بشكل مفرط، مقارنة ببعض الأمراء الكبار، وفقا للأمريكيين الذين عرفوه جيدا
كُلّف بن نايف، مع هذا الصندوق السري، بمهمة حساسة تتمثل في توزيع النقد على الأمراء والأعيان الآخرين. لطالما كانت هذه المدفوعات ممارسة شائعة في المملكة العربية السعودية، وهي في الواقع طريقة لتعزيز الأمن من خلال مشاركة بعض سخاء العائلة المالكة. فكبار الأمراء، مثل سلمان عندما كان محافظ الرياض، ونايف عندما كان وزيرا للداخلية، يتلقون رواتب شهرية بملايين الريالات، وذلك وفقا لمساعد بن نايف.
وضع عبد الله ثقة استثنائية في بن نايف، وتعززت هذه الثقة بعد محاولة اغتيال كادت أن تودي بحياة بن نايف في 27 آب/ أغسطس 2009. ويُذكر أن أحد عناصر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يدعى عبد الله العسيري زار قصر بن نايف في جدة بحجة الاستسلام شخصيا لبرنامج إعادة تأهيل الإرهابيين التابع للوزارة، غير أنه فجر عبوة ناسفة كان قد خبأها في فتحة شرجه، وتسبب في إصابة بن نايف.
يبدو أن دعم عبد الله لرئيس مكافحة الإرهاب لم يتزعزع. خلف بن نايف والده وزيرا للداخلية في سنة 2012، وحتى بعد وفاة عبد الله، عُيّن بن نايف وليا للعهد في نيسان/ أبريل 2015، الأمر الذي يشير إلى أنه سيصبح ملكا في نهاية المطاف. غير أن محمد بن سلمان عُين نائب ولي العهد في نفس الوقت، مما أحبط آمال بن نايف.
قال شركاؤه السعوديون والأمريكيون إن بن نايف أدرك أن منصبه المميز في عهد عبد الله قد انتهى، وفي منتصف سنة 2015، بدأ في تصفية شبكته السرية من الشركات عن طريق نقل الملكية إلى صندوق الاستثمار العام السعودي، صندوق الثروة السيادية للمملكة.
أشار خطاب مكتوب بخط اليد من بن نايف بتاريخ الأول من آب/ أغسطس 2015 إلى التقييمات الحالية لصندوق الاستثمار وزيادة القيمة منذ أن بدأ بن نايف في إنفاق الأموال، ومثال ذلك شركة ألفا ستار، التي أصبح صافي الربح الخاص بها بعد خصم جميع القروض ومكافآت مجلس الإدارة والمصاريف 4.5 مليار ريال. في المقابل، اكتسبت الرقابة على التكنولوجيا 462 مليون ريال ونالت المراقبة الأمنية مليار ريال. وقال المقرب من بن نايف إن إجمالي مكاسب رأس المال للشركات الثلاث بلغ 5.9 مليار ريال، أي 1.6 مليار دولار.
مع ذلك، فإن مكانة محمد بن سلمان كانت تعلو أكثر فأكثر. ووقع طرد الجبري، كبير مساعدي بن نايف، في العاشر من أيلول/ سبتمبر 2015، بعد أن التقى في الخارج مع برينان، مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك. وفي رسالة بتاريخ 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، وجّه بن نايف الجبري، الذي أصبح الآن مستشارا خاصا، للمضي قدما في “إعادة هيكلة الشركات القائمة… وتصفية الفائدة”.
على الرغم من أن بن نايف وعد الجبري والحماد بالحصول على 5 بالمائة من أي أرباح تعويضا عن دورهما الإداري، فقد عدّل بن نايف هذا الوعد ليصبح 5 بالمائة من نصف الأرباح؛ وقد دُفعت هذه المبالغ في أواخر سنة 2015. من جانبه، رفض الجبري، الذي يعيش في المنفى في تورونتو، التعليق على هذا الأمر. أما الحماد، فقد تعذر الاتصال به للتعليق، حيث قال المقرب من بن نايف إنه في السجن في المملكة العربية السعودية.
لم يهدر بن نايف المال بشكل مفرط، مقارنة ببعض الأمراء الكبار، وفقا للأمريكيين الذين عرفوه جيدا. لكن زادت ثروته الخاصة بشكل ملحوظ خلال خدمته الحكومية كرئيس لمكافحة الإرهاب. وربما فعل كل شيء بفضل الملك. لكن مشكلة الفساد الأكبر هي قضية رئيسية للمملكة. على الرغم من أن بن سلمان يعد منفقا كبيرا للمال، إلا أن حملته على الأمراء الأثرياء ورجال الأعمال هي أحد الأسباب التي تجعله يحظى بشعبية في البلاد، على الرغم من حكمه الاستبدادي القاسي.
إن الفصول الأخيرة من قصة بن نايف لها نهاية محزنة؛ ببساطة، لم يكن مناسبا لبن سلمان في قدرته على حماية أصدقائه ومعاقبة أعدائه. في المقابل، يقول الأصدقاء الأمريكيون والسعوديون لبن نايف إنه ربما وقع تقييده بسبب مشاكل تعاطي المخدرات التي بدأت مع تناوله مسكنات الألم إثر إصابته في محاولة اغتيال 2009.
عندما أصبح دونالد ترامب رئيسا في سنة 2017، وجد بن سلمان الطموح والمجازف حليفا جديدا قويا. أما الجبري، فقد فر من المملكة في أيار/ مايو 2017. وبعد شهر، استُدعي بن نايف من قبل نائبه الإسمي، بن سلمان، وطلب منه الاستقالة. وقال المقرب من بن نايف، إن محمد بن نايف طلب الاتصال بأميرين بارزين، محمد بن فهد وخالد بن سلطان، ولكن وقع إعلامه بأن اللعبة قد انتهت، فقد عقدوا صفقاتهم مع منافسه ولم يكن أمام بن نايف أي خيار سوى الاستقالة كولي عهد.
الرئيس ترامب يتحدث مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في قمة قادة مجموعة العشرين في أوساكا، اليابان، في سنة 2019.
أقسم بن نايف بالولاء لبن سلمان، لكن مرسوما ملكيا صدر في 21 حزيران/ يونيو 2017، أعلن أنه عُزل من منصب ولي العهد واستُبدل بنائبه. وأصبح بعض أصدقائه وحلفائه السابقين، بما في ذلك كبار الضباط في المباحث العامة، من أنصار بن سلمان. وأُلقي القبض على آخرين وتعرضوا للتعذيب. في الواقع، أثارت اعتقالات ريتز كارلتون لرجال أعمال وأمراء سعوديين بارزين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 مخاوف بقية المعارضين.
ضُيّق الخناق على بن نايف ومُنعت زوجة وبنات ولي العهد السابق من السفر إلى الخارج. واستولت السلطات على 21 مليار ريال، ما يساوي 5.6 مليار دولار، من الأصول العائلية السائلة لبن نايف، بما في ذلك 17.8 مليار ريال، أي 4.7 مليار دولار، من الحيازات الشخصية و3.1 مليار ريال، ما يعادل 826 مليون دولار، مرتبطة بشركة سكاب.
في السادس من آذار/ مارس 2020، اعتُقل بن نايف مع عمه الأمير أحمد. وقال مسؤول في البلاط الملكي لكبار الأمراء إنهما كانا يخططان لانقلاب وسيُحاكمان بتهمة الخيانة.
كتب ويليام شكسبير في “هنري الرابع، الجزء الثاني“: “يكمن القلق في الرأس الذي يرتدي تاجًا”. في الواقع، ينطبق هذا المبدأ على ولي العهد، في الماضي والحاضر.
إن الصعود المبهر والسقوط المأساوي لمحمد بن نايف مأساة حديثة لشكسبير، تقع في مملكة صحراوية. مهما كانت الإخفاقات التي ارتكبها بن نايف، فإن ضباط المخابرات الأمريكية الذين عملوا معه يعتبرونه بطلا ساعد في إنقاذ بلاده عندما كانت مهددة بشكل خطير. يتذكرون شعار المباحث العامة، جهاز الأمن الحديث الذي ساهم بن نايف في تأسيسه: “الوطن الذي لا نحميه، لا نستحق العيش فيه”.
المصدر: واشنطن بوست