ترجمة وتحرير نون بوست
قبل ثلاثة أشهر، بدا أن الجائحة العالمية والأزمة الاقتصادية المفاجئة أطلقتا الشرارة لما يُمكن تسميته بالثورة، أو بداية عصر ثوري. منذ ذلك الحين، اكتسبت الاحتجاجات على الوضع القائم قبل انتشار فيروس كورونا زخما كبيرا. هتفت حشود كبيرة بشعار “حياة السود مهمة” و”الكيل قد طفح” وجابت المظاهرات جميع أنحاء البلاد. أُسقطت التماثيل، وأعيدت تسمية المباني، وأشارت الاستطلاعات إلى أن الرأي العام قد تغير بسرعة لم يسبق لها مثيل.
في فيرغسون وميزوري وسان خوان وبورتوريكو حمل المتظاهرون المقاصل. بصفتي مؤرخًا للثورة الفرنسية، لا يسعني إلا أن أهتم بالمقصلة (التي تم اعتمادها في تسعينيات القرن الثامن عشر كأداة لتنفيذ عقوبة الإعدام بدلا من الشنق). إذا لم تكن الولايات المتحدة تعيش الآن الأشهر الأولى للثورة، فمن المؤكد أن الأحداث التي يشهدها الأمريكيون هي نفسها التي عرفتها البشرية عبر الثورات المتعاقبة.
عادة ما تلبس الثورات ثوب الماضي وتردد الشعارات السابقة للأسباب ذاتها، وهو ما عبّر عنه كارل ماركس ذات مرة عندما قال إن أولئك الذين يتعلمون لغة جديدة، يبدأون دائما بترجمة الكلمات بشكل حرفي إلى اللغة التي يعرفونها.
شهدت الولايات المتحدة تخريب تمثال الملك الفرنسي لويس السادس عشر الذي أُعدم بالمقصلة في عام 1793 أثناء الثورة الفرنسية، وهذا دليل واضح على أن من يقودون الاحتجاجات المطالبة بالتغيير، يريدون أن يقولوا أن ما يحدث حاليا هو ثورة حقيقية.
تحدث الثورات عندما تلتقي مصالح مجموعات مختلفة خلال وقت واحد، وهذا الأمر لا يُمكن التخطيط له مسبقا
أما المعارضون فإنهم يسعون إلى ربط الثورة بالعنف ليثيروا المخاوف من حدوث أي تغيير. عندما أظهرت نتائج الانتخابات التمهيدية في نيويورك وكنتاكي تفوق التقدميين على حساب مرشحي السلطة، نشر السناتور الجمهوري ليندسي غراهام تغريدة قال فيها إن الثورة الفرنسية جاءت لتدعم الحزب الديمقراطي.
أما الكاتب الليبرالي صامويل غريغ، فقد نشر مقالا ربط فيه بين اليسار الأمريكي المناوئ لليبرالية والمحامي الفرنسي روبسبير (أحد أبرز شخصيات الثورة الفرنسية)، واعتبر غريغ بأن الولايات المتحدة على وشك الوقوع في براثن الإرهاب الفكري. وفي صور انتشرت يوم الأحد، أشهر محام من سانت لويس سلاحه بينما كان المتظاهرون يمرّون أمام منزله الفخم. وقد صرح لاحقا لأحد الصحفيين، “ربما كانوا يعتقدون أنهم يقتحمون سجن الباستيل”.
على أية حال، يبدو أن الثوريين وأعداء التغيير ينسون أن الثورات الحقيقية تأتي فجأة. تحدث الثورات عندما تلتقي مصالح مجموعات مختلفة خلال وقت واحد، وهذا الأمر لا يُمكن التخطيط له مسبقا، بل يأتي غالبا عن طريق الصدفة. هذا ما يسميه المؤرخون “توافق الاحتمالات”: حدث يجر آخر بطريقة لا يمكن تفاديها ولا إيقافها بسهولة.
لننظر مثلا إلى الثورة الروسية، تمرد في الجيش، وإضرابات في المصانع، وهيئة برلمانية تستعد لعزل القيصر والإعلان عن حكومة مؤقتة. كل هذه الأحداث استمرت لأشهر قبل أن يتولى البلاشفة السلطة في نهاية المطاف. بالمثل، ظهرت حركة “حياة السود مهمة” منذ سنوات، لكن ساعدتها أزمة كوفيد-19 والمعارك المستمرة بين مؤسسات الدولة العميقة والرئيس دونالد ترامب، على أن تتصدر المشهد السياسي الأمريكي في الوقت الراهن.
لا يُمكن أن نصف الحدث بأنه تاريخي إلا بعد أن نرصد تأثيراته اللاحقة
في الواقع، هناك العديد من الخيوط المتشابكة حاليا: العنف الذي تمارسه الدولة على السود، وفشل منظومة الرعاية الصحية، وتفاقم معدلات البطالة، وفشل تدابير الإنعاش الاقتصادي، وأزمة المناخ، وتراجع مكانة الولايات المتحدة عالميا على امتداد السنوات الأربع الماضية. ومن السابق لأوانه تحديد شكل النسيج الذي ستفرزه كل هذه الخيوط.
يقول المؤرخ ويليام سيويل جونيور إن “الأحداث التاريخية” تختلف عن “الأحداث العادية” باعتبار أنها تعيد تشكيل الواقع من خلال تغيير أسس الحياة اليومية للناس.
ومن وجهة نظره، فإننا لا يُمكن أن نصف الحدث بأنه تاريخي إلا بعد أن نرصد تأثيراته اللاحقة.
لنتخيل مثلا أن البحرية الأمريكية ردّت على قصف بيرل هاربور بالتكتم على عدد الضحايا، والادعاء أنها كانت تخطط منذ فترة طويلة لإغراق المدمرة أريزونا. في تلك الحالة، ما كان قصف بيرل هاربور ليصبح حدثا تاريخيا.
دعنا نأخذ مثالا آخر، عن الثورة الفرنسية. خلال صيف سنة 1789، قام الملك لويس السادس عشر بدعوة ما يقرب من 1100 شخص من النخبة الفرنسية (كبار ضباط الجيش من الطبقة الأرستقراطية، وكبار ملاك الأراضي، وعدد من المحامين ورجال الدين) إلى أول اجتماع لمجلس طبقات الأمة منذ 175 عاما.
رفض عدد من أعضاء المجلس التقيد بالقواعد التي لطالما أدت إلى إسكات أصوات الناخبين (وهي القواعد ذاتها التي يتم عبرها التلاعب بإرادة الناخبين اليوم)، وأعلنوا تأسيس الجمعية الوطنية، وهي هيئة جديدة مهمتها كتابة دستور للبلاد. لقد أدت تلك الحادثة إلى حالة من الانسداد السياسي، وليس إلى ثورة.
يمكن أن نُخضع المفهوم الحديث للثورة، كتغيير سياسي واجتماعي دائم حدث من خلال فعل جماهيري، إلى إعادة التقييم
بعد بضعة أسابيع، استدعى الملك قوات الجيش إلى باريس وعزل أحد أكثر مستشاريه شعبية. خرج سكان باريس إلى الشوارع. وفي الرابع عشر من شهر تموز/ يوليو، اقتحم حوالي 800 منهم سجن الباستيل، وهي قلعة تقع على أطراف المدينة، أملا في العثور على الأسلحة والذخيرة. رحب بهم حراس القلعة أول الأمر، ثم أطلقوا عليهم النار، ولكن المهاجمين أجبروا الحراس في نهاية المطاف على فتح الجسر المؤدي للسجن والاستسلام. سار الثوار بعدها إلى وسط باريس ومعهم الجنود المستسلمون، وقد قاموا بقتل قائدهم وعرضوا رأسه على سن رمح. أضحت تلك الاحتجاجات الشعبية عصيانا، لكنها لم تكن ثورة.
عندما وصلت أخبار العنف والفوضى في باريس لأول مرة إلى الجمعية الوطنية الواقعة على بعد 20 ميلا في فرساي، شعر أعضاؤها بالهلع. لم تبد النخبة المتعلمة والثرية سوى القليل من التعاطف مع حشود العمال ومثيري الشغب.
خشي الكثيرون من أن يصبحوا ضحايا لتلك الاحتجاجات. لكن في غضون أيام، تحول قلقهم إلى أمل، حيث أكد أعضاء الجمعية الوطنية الذين شاركوا في بعثة لتقصي الحقائق في باريس بأنهم تلقوا ترحيبا من قبل حشد سلمي بدا متلهفا لمصافحتهم. تحدث الرجال الذين يُمكن أن نصنفهم اليوم ضمن تيار “وسط اليمين”، بشكل إيجابي عن الهجوم على السجن، واصفين اقتحامه بأنه مقاومة شرعية للاستبداد، مثل قرارهم الخاص بكتابة دستور.
يمكن أن نُخضع المفهوم الحديث للثورة، كتغيير سياسي واجتماعي دائم حدث من خلال فعل جماهيري، إلى إعادة التقييم. لم يكن إنشاء الجمعية الوطنية ولا الهجوم على سجن الباستيل ثورة في حد ذاته، حيث يمكن أن يُعتبر كلاهما مجرد حادثين عاديين طالما لم يحقق أي منهما أي شيء من أهدافه المعلنة. لكن الأحداث الثورية، أي تلك الأحداث التي تؤدي إلى تحولات دائمة في المجتمع، لا تحدث وفق خطة مسبقة. لا تمتلك هذه الأحداث أهدافا دقيقة قابلة للتحقيق ومقاييس واضحة للنجاح. ولكن إذا امتلكتها، ستكون هذه الأحداث بمثابة صفقات سياسية، وليس ثورة.
إذا كانت إحدى الدروس الرئيسية للثورة الفرنسية تتمثل في أن الناس يصنعون التاريخ، فإن هناك درسا آخر يتمثل في أن التاريخ نادرا ما يتحول لما هو مخطط له
وبالمثل، جمع المتظاهرون الذين يسعون إلى تحقيق العدالة من أجل جورج فلويد بين الإبداع الجماعي، والتمسك بالطقوس والقدرة على حشد التأييد الجماهيري. عملت حركة “حياة السود مهمة” لسنوات على التشهير بالقمع الذي تمارسه الشرطة وإظهار تحامل القضاء الأمريكي على السود وافتراض أن الفتيان والشباب السود دائما مذنبون.
جعلت الآثار الصحية والاقتصادية الضخمة لجائحة كوفيد-19 أوجه اللامساواة أكثر وضوحا. لكن تشجيع دونالد ترامب لحكام الولايات على “التصرف بصرامة” مع المتظاهرين وتهديده باستدعاء الجيش، تمثل العوامل هي التي جعلت شخصيات بارزة وعددا من السياسيين من صلب النظام، بما في ذلك الرئيس السابق جورج دبليو بوش وعضو مجلس الشيوخ ميت رومني وغيرهم، يتعاطفون مع القضية.
يوجد تعاطف كبير ومتعاظم مع القضية في الوقت الراهن. من ناحية مبدئية، كان من الصعب تفهم مثل هذه الاحتجاجات المطالبة للديمقراطية في بلد يُعتبر على نطاق واسع من أهم الديمقراطيات الليبرالية في العالم. انتبه النقاد سريعا إلى أن تصريحات رومني وبوش ليست مجرد آراء، ولكنها مؤشر على تغيير حاسم في اتجاهات الرأي العام. قد تبدو سياسات القادة الجمهوريون غير متقدمة في نظر العديد من النشطاء، لكن يرغب هؤلاء القادة في اتباع المسار الصحيح في المستقبل.
ومع ذلك، إذا كانت إحدى الدروس الرئيسية للثورة الفرنسية تتمثل في أن الناس يصنعون التاريخ، فإن هناك درسا آخر يتمثل في أن التاريخ نادرا ما يتحول لما هو مخطط له. لم يكن أعضاء الجمعية الوطنية الأولى في فرنسا من الرجال الذين يمتلكون مصلحة واضحة في الإخلال بالوضع القائم.
من أجل إحداث تغيير هيكلي حقيقي، لا يحتاج الأميركيون للنظر إلى الماضي وإلى المسلمات التي عفا عليه الزمن، ولكنهم يحتاجون للنظر إلى المستقبل وإلى الاحتمالات المختلفة
كانت توجهاتهم في الأشهر الأولى للثورة تميل إلى الحفاظ على النظام، حيث أنهم أرادوا حماية أنفسهم وضمان الاستمرارية وإنهاء الأمور بأسرع وقت ممكن. اختار العديد منهم سياسات اقتصادية أربكت المشهد بل أن تسهم في استقرار الوضع، مثل تأميم ممتلكات الكنيسة وإصدار عملة جديدة. قد تكون الثورة في بعدها الراديكالي أشبه ما يكون بـ”شريط موبيوس”، أي أنها تتحرك في ما يبدو أنه مسار ذو اتجاه واحد، لكنها تصل في الأخير الجانب الآخر من الشريط.
إذا كانت الولايات المتحدة تمر بثورة جديدة، فستمر أشهر وربما سنوات قبل أن نتعرف على آثارها أو أسبابها بشكل كامل. حتى إذا كانت الهياكل غير مستقرة وكانت المؤسسات القائمة تفتقر إلى الشرعية، فإن “الأنظمة القديمة” لا تتفكك أبدا بسهولة وبشكل كامل، بل يجب تفكيكها جزءا بجزء. استغرق هدم سجن الباستيل قرابة سنة، ومرت سنوات أكثر قبل أن تُدفع أجور العمال الذين أنجزوا العمل. في وقت متأخر من ليلة الرابع من آب / أغسطس سنة 1789، صوت أعضاء الجمعية الوطنية للتخلي عن الامتيازات الطبقية وإلغاء الإقطاع.
أصبحت القوانين والأعراف التي ظهرت في أعقاب ثورات القرن الثامن عشر، مثل قداسة الملكية الخاصة، وفكرة الحقوق الفردية بمعناها المطلق، والدولة القومية القائمة على التمويل العسكري، محل نقد اليوم باعتبارها نوعا من الامتيازات.
من أجل إحداث تغيير هيكلي حقيقي، لا يحتاج الأميركيون للنظر إلى الماضي وإلى المسلمات التي عفا عليه الزمن، ولكنهم يحتاجون للنظر إلى المستقبل وإلى الاحتمالات المختلفة. ما الفرق بين الثورة وفشل الدولة أو انهيار الإمبراطورية؟ في الثورة وحدها، يستطيع الناس أن يتخيلوا مستقبلا أفضل، ويسعوا بكل طاقاتهم إلى جعله واقعا ملموسًا.
المصدر: ذا أتلانتيك