الوحدة قد لا تكون أفضل الموضوعات التي تتناولها الأفلام، فالناس تلجأ عادة إلى مشاهدة الأفلام أو دخول دور العرض السينمائية كفعالية اجتماعية ولكي تتخلص من عزلتها، لكن رغم ذلك يوجد عدد من الأفلام التي تحدثت عن الوحدة والتباعد.
في هذا التقرير سنستعرض خمسة من أفضل الأفلام التي عالجت قضية الانعزال الاجتماعي والتباعد والوحدة، ونجحت في تقديم مفهوم مختلف لها.
1- الشقة – The Apartment
ماذا يعني أن تكون أحد العاملين في مجال التأمين في الستينيات؟ الشقة أو The Apartment هو فيلم درامي كوميدي رومانسي أمريكي صدر عام 1960، أنتجه وأخرجه بيلي وايلدر Billy Wilder، ومن بطولة جاك ليمون Jack Lemmon وشيرلي ماكلين Shirley MacLaine.
تتبع قصة الفيلم موظف التأمين باكستر أو كما يسمونه في الشركة الفتى “باد”، ينجح ذلك الشاب في تسلق السلم الوظيفي بشكل سريع، ليس لشيء إلا بسبب أنه يترك شقته لرؤساء أقسام الشركة الكبيرة طوال أيام الأسبوع تقريبًا.
بدأ الأمر بأن ترك لأحد زملائه شقته ليبدل فيها ملابسه، ومنذ ذلك الوقت انتشر الأمر في الشركة كالنار في الهشيم، جميع الرجال المتزوجين يرغبون في ساعة أو ساعتين في شقة فارغة رفقة عشيقاتهم، لذلك كان مفتاح الشقة يتنقل صعودًا وهبوطًا طوال الوقت، الأمر الذي شُكِّل في إطار كوميدي يبين معاناة ذلك الشاب الذي يرغب في الصعود للنوم في منزله ولكنه لا يستطيع لأن كل يوم هناك شخص مختلف يطلب منه مفتاح الشقة ولا يستطيع قول لا، لأنهم جميعًا يعدونه بترقية.
حتى يصل الأمر إلى صاحب الشركة نفسه، الذي يطلب منه نسخة من المفتاح، ليعود “باد” ذات ليلة إلى منزله ويجد زميلة من عمله يكن لها الإعجاب والتقدير مُنتحرة في شقته!
باكستر موظف مثالي، مطيع، ويطيل العمل دون المطالبة بأي أموال إضافية، كل ما يرغب فيه أن يعود إلى شقته الفارغة في نهاية اليوم وينام بهدوء، لكن لا هدوء يأتيه أبدًا، وقد كان قانعًا بكل ذلك حتى تطورت علاقته بتلك المرأة، فهو لم يشعر بالوحدة إلا حينما حظى برفقتها!
وهكذا نحن، قد ننشغل في دوامة الحياة، نُركز طوال الوقت على عملنا، لكننا في النهاية لا ندرك حجم وحدتنا إلا عندما نحظى برفقة حتى ولو ليوم واحد.
2- أجنحة الرغبة – Wings of desire
تفاصيل صغيرة تفصل الموت عن الحياة، الفناء عن الخلود، أشياء ربما لا يدركها البشر وإن كانوا يعرفونها. كيف ستكون حياتك إذا خُلقت كأحد الملائكة، كُتب عليك أن تطوف الأرض، تستمع إلى مخاوف وهواجس البشر؟
يحكي فيلم “أجنحة الرغبة” الذي صدر عام 1987عن ملاكين يستمعان إلى مخاوف وهواجس البشر، أحدهما يستمتع باستماعه إلى تلك الهواجس، والآخر يتفاعل معها، يحاول إيجاد الجمال في كل شيء، حتى الحزن والوحدة.
يقرر أحد الملائكة التخلي عن خلوده، ليس لمجرد وقوعه في حب بشرية، بل لأنه قابل أحد الملائكة السابقين الذي أخبره عن متعة شرب القهوة والشعور بالدفء والبرد.
إن فيلمًا كأجنحة الرغبة يمنحنا منظورًا فريدًا عن معنى الحب والوحدة، ففي هذا العالم الذي يحمل الملائكة فيه هموم البشر وأفكارهم يندمج لديهم مفهوم الحب والوحدة، ليخلق حالة غريبة، فالملائكة ترغب في التخلي عن خلودها فقط لتصبح أقل وحدة، كي تملك حياة حتى إن كان هدفها الذهاب في نهاية اليوم إلى المنزل وإطعام حيوانك الأليف.
3- الممر The Terminal
ماذا سيحدث لو تركت بلدك مسافرًا إلى بلد آخر، ثم حدث انقلاب في بلدك الأم ومُنعت من دخول البلد الآخر الذي ذهبت إليه؟
هذا ما حدث لتوم هانكس في فيلم The Terminal، يأخذ الفيلم إطارًا كوميديًّا مليئًا بالمواقف المضحكة المبكية في الوقت ذاته.
فالبطل ذهب في رحلة إلى نيويورك، ثم فوجئ بحدوث انقلاب في بلاده، ليبدأ فترة صعبة من حياته مقيمًا في المطار، متعرفًا على الموظفين، متعلمًا الإنجليزية، كاسبًا ود كل من حوله وكذلك بعض الأموال!
رغم تلك الوحدة والغربة اللتين فرضتا على البطل، فإنه لم يستسلم قط وظل متفائلًا طوال الوقت، مصممًا على هدفه حتى نهاية الفيلم.
تقبل البطل الورطة التي وقع بها وإن كان لم يفهمها، فمدير المطار يتحدث إليه بالإنجليزية محاولًا شرح سبب عدم دخوله للبلاد لكنه لا يفهم ما الذي ينبغي له فعله.
إن الأمر أشبه بالمصائب القدرية، تلك التي لا تعرف ماذا تفعل حيالها، في الوقت نفسه أنت تُكمل بإيمانك، تستمر في الابتسام وعدم فقدان الأمل حتى النهاية مهما أكلتك الوحدة، لكنك تُركز على النجاة.
4- إيميلي Amélie
بسبب تشخيص خاطئ في طفولتك تُحرم منها، تظل في المنزل ولا تغادره. هذا ما حدث في الفيلم الفرنسي “إيميلي” Amélie.
عندما كانت إيميلي في السادسة، أجرى لها والدها – الذي يعمل طبيبًا في الجيش – فحصًا طبيًّا وشخصها بمرض في القلب!
تموت والدتها، وتبدأ إيميلي في العمل بأحد المقاهي القريبة وما زالت في حالتها المنطوية، لكن تتغير حياتها تمامًا عندما تكتشف صندوقًا معدنيًا يعود إلى طفل ما، فتحاول إرجاع هذا الصندوق إلى صاحبه الأصلي لتتطور وقتها حياتها، وتنكسر تلك الوحدة التي عاشت بها طوال حياتها بسبب إسقاطها لغطاء عطر ليصطدم بإحدى البلاطات كاشفًا ذلك الصندوق الصغير.
وتلك هي الفرص التي تعطيها لنا الحياة، لنستكشف أنفسنا ونتخلى عن وحدتنا التي لم نخترها، بل فرضها علينا الواقع أو من حولنا.
5- تشونجكينج إكسبرس Chungking Express
“تشونجكينج إكسبرس” أحد الأفلام التي ستحتار عند مشاهدتها، فبطلا الفيلم شرطيان، يتعرض أحدهما للهجر في بداية الفيلم، ثم يقع في حب امرأة غريبة تتاجر في المخدرات ترتدي شعرًا مستعارًا، في الوقت الذي يحاول الشرطي الآخر التقرب من فتاة تعمل في أحد المطاعم الصغيرة عن طريق شراء وجبة أو وجبتين كل يوم.
محاولات التواصل هي ما يدور حوله الفيلم، وما تدور حوله الحياة في المطلق، لذلك يرافق الأبطال ويرافقنا شعور شبه ثابت من انكسار القلب، فنحن نبحث ونسعى كل يوم، نتواصل ونحاول أن نشعر، ننتقل من مكان لآخر، وهذا ما تجسده افتتاحيه الفيلم: كل يوم نمر بجوار الكثير من الناس، بعضهم قد لا نلتقي بهم أبدًا، والبعض الآخر قد يصبحوا أصدقاءنا المقربين.
يتردد المفهوم العميق للوحدة طوال الفيلم، فهي ليس لها بداية أو نهاية، وليست مشكلة يمكن حلها، إنها شعور، ليست شعورًا بالهزيمة، إنما بالقبول.
حالة من البطء تغلب على الشخصيات، يتحركون في حياتهم ببطء، رغم الخلفية المتحركة باستمرار التي تشتت حياتهم الوحيدة، وهذا هو أسلوب المخرج ونج كار واي Wong Kar Wai لإظهار ما يحدث داخل المرء، إن لحظات العزلة والانفصال تجارب شخصية قوية، مع ذلك لا تزال الحياة تتحرك من حولنا، وكل شيء يتكرر حولنا من أغانٍ وأشياء تزيد من ذلك الشعور العميق بالوحدة.
يمتلئ الفيلم بلحظات حقيقية، إرهاق مشترك، بين رئيسة عصابة تتاجر في المخدرات والشرطي الذي أراد الوقوع في حبها لمجرد انفصال حبيبته عنه، رغم تضاد الشخصيتين وكونهما لا يعرفان طبيعة بعضمها البعض، يذهبان إلى فندق، وتنام المرأة بمجرد الصعود، ولا يبدو على الشرطي أنه حزن لعدم حدوث علاقة بينهما، بل ظل يشاهد التلفاز ويأكل، ثم نظف لها حذائها.
إن أشياء كتلك، لحظات بسيطة نرعى فيها بعضنا البعض، تجعلنا نرى الحياة بشكل مختلف، ونصبح أقل وحدة.