تضيق الإمارات بجغرافيتها المحدودة، وبما أنها لا تستطيع ضم أراضٍ جديدة إلى رقعتها الصغيرة على الطراز القديم، تحاول تسخير قوتها الناعمة لابتلاع دول حتى ولو كانت بعيدة عنها، حيث لم تسلم المنطقة المغاربية هي الأخرى من برغماتية الإماراتيين، على الرغم من الثقل الحضاري والديمغرافي والجيوسياسي والعسكري الذي تمثله هذه الدول مقارنة بأبو ظبي، تتمادى هذه الأخيرة بكل اطمئنان وغرور في إقحام نفسها في شؤون المنطقة، وسعيها إلى نقل الحرب التي مزقت المشرق نحو بلدان المغرب الكبير.
من دولة مغاربية إلى أخرى تقود الإمارات مؤامراتها، فهي تارة تبتز المغرب وتارة أخرى تتدخل في الشؤون الداخلية للجزائر وتدعم مليشيات حفتر لإشعال الفوضى في ليبيا، ثم تواصل مساعيها لإحباط التجربة الديمقراطية في تونس، فيما تلتقط نقطة الضعف في موريتانيا التي تشتد حاجتها إلى مساعدات خارجية.
إما تحكم قبضتها على ليبيا وإما تدمرها
أموال طائلة أنفقتها الإمارات من أجل الحرب في ليبيا، بدعمها للجنرال الانقلابي خليفة حفتر الذي حقق فشلًا ذريعًا في تحقيق مساعيه الرامية إلى الإطاحة بحكومة الوفاق المعترف بها دوليًا والمنبثقة عن الاتفاق السياسي الليبي الموقع في مدينة الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر 2015 الذي أشرفت عليه بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وهو الاتفاق الذي تدخلت الإمارات عبثًا من أجل عرقلته.
يقود حفتر مليشيا غير شرعية تدعى “الجيش الوطني الليبي” منذ 2014، وهو الذي خدم في الجيش الليبي تحت قيادة معمر القذافي وشارك في انقلاب عام 1969 الذي أوصل القذافي إلى السلطة، وها هو الآن يحاول أن يبسط يده على السلطة متكئًا على دعم الإمارات التي تمد مرتزقته بأسلحة ثقيلة وإستراتيجية تملك بعضها وتحصل على البعض من دول أخرى، كما توفر مقاتلين أجانب وتدفع رواتبهم للقتال في صفوف مليشيا هذا الجنرال المتقاعد الذي تحرك في الأراضي الليبية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.
بذلك تخرق أبو ظبي حظرًا أقره مجلس الأمن الدولي عام 2014 على تصدير السلاح إلى هذا البلد المغاربي، كما اخترقت القرار الأممي بتجميد الأموال الليبية في دول العالم بعد ثورة عام 2011 بصرف الأموال الليبية المجمدة في بنوكها لصالح العمليات العسكرية لقوات حفتر.
وجدت الإمارات أنه من السهل التلاعب بالقادة الاستبداديين من أجل إبقاء نفوذها، وتصر على التغلغل في ليبيا ودعم الفوضى من واقع أن البلد هو المرشح الأقوى ليكون مركزًا اقتصاديًا في شمال إفريقيا، وبالتالي فإما أن تحكم قبضتها على المفاصل في ليبيا وإما أن تدمرها.
تسعى أبو ظبي للسيطرة على النفط الليبي، إذ كان وصولها إليه مبكرًا من خلال تعاقدات رسمية أبرمتها مع نظام معمر القذافي في رأس لانوف منذ عام 2009 من خلال شركة “تراسا” الإماراتية، ليتم تأسيس شركة ليبية إماراتية تحت اسم “ليركو” ما زالت تحتفظ بحقوقها في رأس لانوف، ولم تتوقف “تراسا” المملوكة لعيسى الغرير عن السعي لابتلاع “ليركو” كاملة، غير أنها فشلت في آخر محاولة لها، إذ رفعت دعوى قضائية على مؤسسة النفط الليبية أمام محكمة غرفة التجارة الدولية في باريس مطالبة بتعويض قدره 812 مليون دولار، لكنها خسرت القضية.
استنساخ “انقلاب السيسي” في الجزائر
منذ أكثر من عام اندلع الحراك الشعبي في الجزائر، تحركت هذه الدولة الخليجية لتحجيم الحراك ووضع حد له، حيث سعت بشكل مكثف خلف الكواليس للتشجيع على إرساء نظام في الجزائر على غرار النظام المصري الحاليّ، لكن المتظاهرين الجزائريين تنبهوا لهذا التدخل، خاصة أن الروابط المالية بين سلالة ابن زايد والرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة وحاشيته لم تعد سرًا، فكان من بين الشعارات الأساسية التي صدحت بها حناجرهم في الشوارع هي: “إذا سقط الإماراتيون، سقط معم آل بوتفليقة”.
أصبحت البنوك الإماراتية ملاذًا لمئات ملايين الدولارات التي أودعها عدد من أثرياء الجزائر مثل علي حداد الكثير التردد على دبي وأبو ظبي ويوصف بـ”حصالة حاشية بوتفليقة”، فضلًا عن الأخواة كونيناف، وهم شركاء سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق، كما أنهم مقربون من الجنرال قايد صالح الذي يوصف برجل الجزائر الأقوى.
إستراتيجية الإماراتيين تتجه نحو الاستيلاء على الموانئ الكبرى في العالم، ولقد نجحوا بوقت قياسي في حيازة حقوق إدارة ميناء الجزائر ذي الأهمية الإستراتيجية، زيادة على إسناد جزء واسع من سوق التبغ في الجزائر إلى رجل الأعمال الإماراتي محمد الشيباني المقرب من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، والكثير التردد على الجزائر.
تسعى الإمارات في حربها على الديمقراطية والحرية في تونس إلى العودة بها لمربع ما قبل الثورة
يعتقد الجزائريون أن الإمارات ليست مؤهلة لتكون طرفًا في الحل بالجزائر، من واقع تورطها في حرب اليمن وما ترتب عليها من أزمة إنسانية، علاوة على أن الإعلام الإماراتي حاول مغالطة الرأي العام بعدما تحدث عن صدامات عنيفة بين الشعب وقوات حفظ الأمن، وهو ما فندته السلطات الأمنية في الجزائر، ولا ننسى التغطية الإعلامية للقنوات الإماراتية التي رافقت زيارة الجنرال قايد صالح إلى أبو ظبي، حيث ظهرت منحازة للنظام، ما جعل الجزائريين يرفضون أي تدخل لحكام ابن زايد فيما يحدث في بلادهم وقضيتهم الداخلية.
محاولة فاشلة لمحاكاة انقلاب 87 في تونس
في تونس تشن الإمارات هجمات تستهدف إفشال تجربة الانتقال الديمقراطي التي تشهدها البلاد بعد انتقال السلطة من النظام الديكتاتوري للرئيس زين العابدين بن علي الذي أسقطته رياح ثورة الياسمين، إلى نظام يضمنه الدستور ويعلوه القانون، وينظر حكام ابن زايد بعين الخشية لهذا التحول الذي قد يكون محط أنظار المتطلعين للديمقراطية من الدول العربية.
وكما هو واضح عداء حكام الإمارات للإسلاميين، لم تنج حركة النهضة في تونس من مخالب هذه الدولة الخليجية التي تسعى لاستئصال الحركات الإسلامية، حيث تتزعم حملة تشويه ضد رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، فمثلًا زعمت قناة “العربية” التي تعمل بتمويل سعودي ومقرها الإمارات، أن الرجل الذي عاد من المنفى عام 2011، تمكن من امتلاك ثروة مالية بوسائل غير مشروعة، وربطت القناة بعض هذه الوسائل بالإرهاب وبعضها الآخر بالتمويل الخارجي وعمليات فساد داخل الدولة، على الرغم من أن الرجل أظهر كشفًا ببياناته البنكية بما يفند مزاعمها التي لم تقدم عليها دليلًا.
تسعى الإمارات في حربها على الديمقراطية والحرية في تونس إلى العودة بها لمربع ما قبل الثورة، إذ خططت قبل سنتين للانقلاب على الرئيس الراحل القائد السبسي في سيناريو مشابه لانقلاب 1987 الذي أزاح الرئيس السابق الحبيب بورقيبة عن سدة الحكم ليتولاها زين العابدين بن علي وكان قبل ذلك جنرالًا في الجيش.
كان وزير الداخلية التونسي المقال لطفي براهم يحلم بلعب دور رئيسي في المشهد السياسي لبلاده مستفيدًا من دعم أصدقائه الإماراتيين، لأجل ذلك التقى سرًا بمدير المخابرات الإماراتية في جزيرة جربة التونسية، واتفق الرجلان على خريطة طريق كان يفترض أن تدخل تغييرات جذرية على رأس السلطة منها عزل الرئيس الراحل القائد السبسي لاعتبارات مرضية وإقالة رئيس الوزراء يوسف الشاهد وتعيين وزير دفاع بن علي السابق كمال مرجان رئيسًا للحكومة، كما كانت تهدف هذه الخطة إلى إبعاد إسلاميي حركة النهضة بشكل نهائي من المشهد السياسي التونسي.
أزمة مزمنة.. وتحريض غير مسؤول ضد المغرب
منذ منتصف عام 2017 دخلت العلاقات الثنائية بين أبو ظبي والرباط في فتور وجفاء كادت تتحول إلى صدام ومواجهة، إثر الخلاف على الحصار الإماراتي السعودي لقطر، وإعلان الرباط التزام الحياد الإيجابي تجاه الأزمة الخليجية، بل وتحرك العاهل المغربي محمد السادس للقيام بدور الوساطة من أجل إخماد فتيل الأزمة بين الأشقاء الخليجيين، وعزز موقفه بإرسال طائرة مساعدة غذائية إلى قطر، اتبعها بزيارة غير مبرمجة سلفًا إلى الدوحة، وعلى طرف النقيض لم تستسغ الإمارات هذه التحركات التي جاءت عكس توقعاتها.
أثارت العلاقات الجيدة بين الرباط والدوحة غضب أبو ظبي التي لم تعين سفيرًا لها بالمغرب منذ نحو عام، فتمخضت أزمة دبلوماسية غير مسبوقة، حيث نهجت الرباط أسلوب المعاملة بالمثل بعدما سحبت سفيرها في أبو ظبي منذ مارس/آذار 2020، كما تم استدعاء القنصلين المغربيين في دبي وأبو ظبي، وقلص المغرب تمثيله الدبلوماسي بشكل كبير بعدما أفرغ سفارته من جميع المستشارين والقائم بالأعمال.
تتمادى الإمارات وتتطوع لإجلاء سياح إسرائيليين إلى جانب رعاياها العالقين بالمغرب بسبب انتشار جائحة “كوفيد 19” بعدما رفض البلد استقبال رحلات شركة “العال” الإسرائيلية ، وفي أبريل/نيسان الماضي اتفقت أبو ظبي مع تل أبيب على عملية إجلاء مشتركة بطائرة إماراتية من دون استشارة البلد المضيف، الذي كان يسعى جاهدًا لتأمين إجلاء جميع السياح إلى بلدانهم الأصلية، فتثور ثائرة المغرب ويغلق النقاش عن إجلاء السياح الإسرائيليين، وهو ما ترافق مع حملة من “الذباب الإلكتروني” الإماراتي على شبكات التواصل الاجتماعي الذي وجّه النقد الجارح للمغرب والملك محمد السادس والحكومة واتهمهم بالفشل، ليصبّ كل هذا في طاحونة التحريض غير المسؤولة.
حصار قطر كان بداية الأزمة التي أخذت تتسع بين البلدين بعدما كانت مواقفها على طرفي النقيض تجاه صفقة القرن والقضية الفلسطينية، وقرر المغرب ألا ينحاز للموقف الداعم لهذه الصفقة رغم الضغوط الممارسة عليه.
كما تنظر الرباط بعين الريبة إلى دعم الإمارات للجنرال الليبي حفتر، من واقع أن النخبة العسكرية التي تواليه هي نفسها النخبة التي كانت تؤيد فكرة معمر القذافي، الداعمة لأطروحة جبهة البوليساريو الراغبة في انفصال الصحراء.
على الرغم من حساسيته تجاه الإسلاميين لم يسلك القصر المغربي طريق الاستئصال والإقصاء تجاه حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية الذي يقود الحكومات المتعاقبة منذ 2011، ولعل هذا هو ما دفع أبو ظبي إلى تقليص عدد المغاربة العاملين في سلك الشرطة الإماراتية من 916 إلى 600 واستبدالهم ببنغاليين، في إطار الحرب التي يتزعمها ابن زايد ضد الإسلاميين في المنطقة.
زيارات طي الكتمان.. وسيولة سخية لبنوك موريتانيا
مثلما دعمت الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز ضد أحزاب المعارضة ودفعته لإغلاق مقرات هذه الأحزاب ومصادرة ممتلكاتها، خاصة الأحزاب الإسلامية منها، تعود الإمارات مجددًا لتتدخل في الشؤون الداخلية لهذا البلد كأحد أوجه مؤامراتها الرامية لكسب النفوذ والتوسع.
خلال مطلع العام الحاليّ، تحدثت وسائل إعلام موريتانية عن قرار إماراتي بإنشاء قاعدة عسكرية من خلال تمويل مشروع تطوير مطار عسكري شمالي موريتانيا، حينها زار وفد عسكري إماراتي لدراسة المشروع الواقع في منطقة إستراتيجية قريبة من الحدود بين موريتانيا والجزائر ومالي، لكن حكومة البلاد نفت وجود قاعدة عسكرية واعتبرت ذلك مجرد إشاعات.
فضلًا عن تبادل الاجتماعات والزيارات بين البلدان التي تتصف بالكتمان، منحت الإمارات الجيش الموريتاني خلال العام الماضي طائرة عسكرية تعمل في مجال الاستطلاع الجوي والإنزال المظلي ونقل الجنود والمؤن، وافتتحت كلية للدفاع في نواكشوط تحت اسم كلية محمد بن زايد، وفي نهاية 2018، صادقت الحكومة الموريتانية على اتفاق بتنازلها عن مطارها الدولي الوحيد “أم تونس” لصالح شركة “أفرو بورت” التي أنشأتها مؤسسة “مطارات دبي” بهدف تسيير المطار الموريتاني.
كما تبادل البلدان الإعفاء من التأشيرات، وتنفق الإمارات بسخاء لدعم اقتصاد موريتانيا، أبرزها ضخ مبلغ ملياري دولار في البنوك الموريتانية من أجل إقامة مشاريع استثمارية وتنموية، وهو مبلغ ضخم من منظور بلد منخفض الدخل لم يتجاوز ناتجه المحلي الإجمالي 5.65 مليار دولار عام 2019، ويعتمد على صادرات السلع الأولية التي تشهد انحدارًا في أسعارها، وبما أنها لا تمتلك ثورة نفطية مثل الجزائر وليبيا، ولا نشاط سياحي مدر للدخل مثل تونس والمغرب، فإن حاجتها للمساعدات الخارجية تشتد، بالتالي تكون الإمارات قد وضعت يدها على الحلقة الأضعف في المغرب الكبير.