لا حدود لأشكال العنف الذي يمكن أن تمارسه السلطات الشمولية التي تعميها الكراهية والتعصب والطائفية، فتجدها تمارس أشكالًا مروعة من الانتهاكات لسحق فئات من المجتمع غير مرضيّ عنها أو يراد محوها أو إذابة هويتها.
ومن هذا، “سياسة التعقيم القسري” التي واظبت بعض حكومات العالم على تطبيقها على نساء ينتمين إلى أعراق أو طوائف معينة مغضوب عليها كجزء من منهجيتها في السيطرة على النمو السكاني أو ممارسة التطهير العرقي ضدها، وغالبًا ما يجري تنفيذها من خلال إجراء عملية جراحية للمرأة دون موافقتها أو علمها، وأحيانًا بممارسة الضغوط النفسية عليها، كما يحدث الآن مع نساء أقلية الإيغور المسلمة، إذ يفرض الحزب الشيوعي الصيني عليهن سياسات قهرية تشمل التعقيم القسري والتنظيم الأسري وتحديد النسل والإجهاض لمئات آلاف النساء، مع تهديد غيرهن بالاعتقال والغرامات الباهظة بتهمة إنجاب أكثر من طفلين.
تقارير دولية كشفت هذه الانتهاكات، ما دفع وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو إلى دعوة السلطات الصينية بالتوقف فورًا عن “هذه الممارسات الرهيبة التي تنم عن استخفاف بقدسية النفس البشرية وازدراء الكرامة الإنسانية”.
تفاصيل الجريمة في شينجيانغ
استند بومبيو في بيانه إلى تقرير أجراه الباحث الألماني أدريان تسنتس عن الوضع في منطقة شينجيانغ، وقال فيه إن وثائق الحكومة الصينية تظهر أن النمو السكاني الطبيعي في شينجيانغ تراجع بشدة، كما انخفضت معدلات النمو في أكبر مقاطعتين للإيغور المسلمين بنسبة 84% بين عامي 2015 و2018، وبنسبة أكبر في 2019.
وبحسب الباحث تسنتس، فإن وثائق تعود لعام 2019 أفشت عن خطط لحملة تعقيم جماعي للإناث تستهدف ما بين 14% و34% من جميع النساء المتزوجات في سن الإنجاب (بين 18 و49 عامًا) في مقاطعتين للإيغور، وذكر أن شينجيانغ خططت لإخضاع ما لا يقل عن 80% من النساء في سن الإنجاب في مقاطعاتها الأربعة الجنوبية لجراحات منع الحمل سواء بتركيب لولب في الرحم أم عمليات تعقيم وذلك بحلول عام 2019.
تقول امرأة إنها كانت تُحقن في أثناء احتجازها بمادة مجهولة، في حين تذكر أخرى من اللواتي حرمن من حقهن بالإنجاب أن النساء أجبرن على تناول عقاقير غير معروفة، تسببت في انقطاع الدورة الشهرية
كما قال إن 80% من عمليات تركيب لولب في الصين عام 2018 أجريت في شينجيانغ في حين لا يعيش في الإقليم إلا 1.8% من تعداد السكان، حيث يصف تقرير تسنتس الحملة المزعومة لمنع الحمل القسرية في شينجيانغ بأنها جزء من “حملة سكانية للإبادة الجماعية” ضد الإيغور، إذ تُعرّف هذه السياسة في القانون الدولي بـ”جميع الأفعال التي تسعى إلى التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية”، ومنها فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال.
ومع تعدي الصين بهذا الشكل على قرارات الأقلية المسلمة الشخصية المتعلقة بتنظيم الأسرة والحرية الدينية، فهي تستخدم التعقيم القسري وما شابهه كجزء من سياسة التطهير العرقي المنظم، فبحسب جوان سميث فينلي، الخبيرة الصينية في جامعة نيوكاسل ببريطانيا، فإنها “ليست إبادة جماعية فورية صادمة وسريعة فحسب، بل إبادة جماعية بطيئة ومؤلمة، إنها وسائل مباشرة للحد من سكان الإيغور وراثيًا”.
تشهد النساء الناجيات على الأهوال التي عانين منها، فتقول امرأة إنها كانت تُحقن في أثناء احتجازها بمادة مجهولة، في حين تذكر أخرى من اللواتي حرمن من حقهن بالإنجاب أن النساء أجبرن على تناول عقاقير غير معروفة، تسببت في فقدان وعيهن وانقطاع الدورة الشهرية، وأحيانًا في وفاتهن نتيجة النزيف الشديد والمضاعفات الخطيرة.
وبطبيعة الحال، تنفي الصين هذه الانتهاكات الجسيمة بحق أقلية الإيغور المسلمة، وتؤكد بإصرار أنها تحتجز نحو مليون شخص منهم وغيرهم من الأقليات المسلمة داخل كيانات تطلق عليها اسم معسكرات “إعادة تأهيل” و”مراكز التدريب المهني” بحجة مكافحة “التطرف الديني والحفاظ على استقرار المجتمع” في إقليم تركستان الشرقية.
يُذكر أيضًا أنه يتم إرسال الأطفال الذين يتم احتجاز والديهم في المخيمات إلى دور الأيتام التي تديرها الدولة ويتم غسل أدمغتهم لنسيان جذورهم العرقية، وذلك جزء من سياسة الإبادة الجماعية، لكونها تنقل أطفالًا من جماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
استهداف الفئات المهمشة
غالبًا ما تستخدم أجسام النساء في النزاعات العرقية كوسيلة لإدامة السيطرة الاجتماعية وإعادة رسم الحدود العرقية، وبما أنهن المنتجات والمربيات في المجتمع، فيتم استهدافن باستمرار وبإصرار بأساليب منهجية مختلفة مثل الاغتصاب والاستعباد الجنسي والتعقيم القسري، في مسعى واضح لتغيير التكوين العرقي للجيل القادم، وكوجه من أوجه “الانتقام البيولوجي” من أي أقلية غير مرغوبة.
كما تُنفذ هذه السياسة بعيدًا عن النزاعات العرقية، حيث تستهدف أيضًا النساء اللاتي يعشن في فقر وذوات الاحتياجات الخاصة والمصابات بفيروس نقص المناعة البشرية.
ادعت أخريات أنهن بعد وصولهن إلى “إسرائيل” طلب منهن مرة أخرى تلقي الحقنة، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الولادة بنسبة 50% في أوساط المهاجرات الإثيوبيات
تطبق هذه السياسة العديد من الدول، فقد اعترفت “إسرائيل” قبل سنوات معدودة بأنها تمنح حقن منع الحمل للمهاجرات الإثيوبيات، دون علمهم أو موافقتهم، وذلك بعد أن أثار الصحافي الاستقصائي غال غاباي الذي أجرى مقابلات مع أكثر من 30 امرأةً من إثيوبيا، الشكوك في محاولة لاكتشاف سبب انخفاض معدلات المواليد في المجتمع بشكل كبير.
وحسب رواية إحدى النساء: “حينما كنّا في أديس أبابا دعوا النساء لاجتماع وقالوا لهن إنهن سيتلقين تطعيمًا ضد الأمراض. وقالوا لنا إن المرأة التي تلد الكثير من الأبناء ستعاني طوال حياتها، وقالوا لن تهاجرن إلى “إسرائيل”. وحينها لم يكن أمامنا خيار وتلقينا الحقن”، وادعت أخريات أنهن بعد وصولهن إلى “إسرائيل” طلب منهن مرة أخرى تلقي الحقنة، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الولادة بنسبة 50% في أوساط المهاجرات الأثيوبيات.
تتعرض النساء الفقيرات في جنوب إفريقيا للأمر ذاته، فتقول رئيسة اللجنة تمارا ماثيبولا إن العاملين في مجال الصحة شرحوا للمريضات أن العمليات كانت ضرورية “لأنكن مصابات بفيروس نقص المناعة البشرية والسل، ولأننا كنا نعتقد أن لديكن الكثير من الأطفال، انظرن إلى أنفسكن، أنتن فقيرات ولم يكن بإمكاننا السماح لكن بالاستمرار في الانجاب”، كما يُعتقد أن نحو 7600 سيدة من السود الفقيرات تعرضن للعقم القسري بولاية كارولينا الشمالية بالولايات المتحدة الفترة من 1929 إلى عام 1974.
بحسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، فكثيرًا ما يتم ارتكاب هذه الممارسة في أثناء العمليات الجراحية القيصرية، وفي بعض الحالات تعطى النساء استمارات موافقة في أثناء المخاض والولادة، وهن يشعرن بألم مبرح أو ضغط شديد، وذلك يتعارض مع القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي ينص على أن التعقيم من دون الموافقة الكاملة والحرة والواعية يعتبر تمييزيًا وانتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في الصحة والخصوصية وتكوين أسرة والحصول على معلومات كاملة عن الأمور التي تتعلق به.