ترك الموريتانيون، مؤخرًا، الحديث عن وباء كورونا جانبًا وركزوا كل اهتماماتهم وجلساتهم للحديث عن حادثة اختلاس الأموال من البنك المركزي التي شملت عمليات تبديل عملات والعثور على أوراق مزورة تحاكي اليورو والدولار. قضية شغلت الرأي العام الموريتاني، خاصة أن كشفها ترافق مع رفض الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز المثول أمام لجنة تحقيق برلمانية، ما جعل البعض يؤكد أن كشف قضية الأموال مجرد محاولة للتغطية على جرائم ولد عبد العزيز.
تفاصيل القصة
بداية القصة كانت يوم الأحد، حين أقر البنك المركزي الموريتاني باختلاس مبالغ مالية من أحد صناديق العملة الصعبة وصلت قيمتها إلى 935 ألف يورو، بالإضافة إلى 558 ألف دولار، وقال في بيان: “إثر تفتيش مفاجئ لأحد الصناديق الفرعية للعملة الصعبة الخميس الماضي، سجلنا نقصًا في موجوداته”.
وأضاف أنه تبين وجود عملية اختلاس من هذا الصندوق ارتكبتها المسؤولة المباشرة عنه، مؤكدًا أنها اعترفت بذلك، وتم فتح تحقيق ورفع دعوى قضائية ضدها بتهمة الاختلاس وخيانة الأمانة والتزوير واستخدام المزور، إثر ذلك قالت النيابة العامة، إنها تلقت شكوى من البنك المركزي، يوم الجمعة الماضي، عن اكتشاف عجز في صندوق عمليات تبديل العملة، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الرسمية.
وأوضحت النيابة العامة، أن الشكوى ضد أمينة صندوق عمليات تبديل العملة وكل من يكشفه التحقيق، كما كشفت أنها استمعت لعدد من موظفي البنك وأشخاص من خارجه وأوقفت عددًا من المشتبه بهم، من بينهم أمينة الصندوق، موضوع الشكاية.
وأكدت النيابة أنها تعمل “على اتخاذ جميع إجراءات الحجز والتجميد الضرورية لاسترداد تلك المبالغ، وفقًا لقانوني مكافحة الفساد وغسل الأموال”، كما “سيحال كل من يثبت التحقيق ارتكابه أو مساهمته أو مشاركته في هذه الجرائم أمام القضاء المختص لينال ما يستحقه من عقاب”.
تعتبر هذه اللجنة البرلمانية، سابقة في تاريخ موريتانيا الحديث، حيث لم يسبق للبرلمان القيام بمهمة التفتيش والرقابة التي يخولها له الدستور والنصوص الداخلية له
عملية السرقة، تمت وفق العديد من الموريتانيين من الجزء المخصص لتلبية الطلب اليومي على العملة الأجنبية على مستوى سوق الصرف المحلية، ما من شأنه أن يؤثر على عمل البنوك الموريتانية، ويبلغ الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية في موريتانيا مليارًا و82 مليون دولار، حسب آخر تقرير للمصرف المركزي، ويغطي هذا الاحتياطي 6 أشهر من الواردات.
ووفقًا للإعلام المحلي، فإن مصلحة التدقيق بالبنك المركزي كانت تكتفي في تفتيشاتها الروتينية السابقة لصندوق العملات الأجنبية باحتساب رزم الأوراق النقدية دون حساب الأوراق، وعندما قامت وكيلة التفتيش، الأربعاء الماضي، بفك الرزم وعد الأوراق النقدية في كل رزمة، اكتشفت وجود تلاعب متعمد، ففي حالة رزمة من أوراق 100 دولار مثلًا تكون الورقة الأولى من الرزمة 100 دولار بينما تكون الأوراق التي تحتها من فئات أقل (50 دولارًا و20 و10 ودولار واحد) وبعضها مزور، وتنطبق نفس الطريقة على باقي الرزم من فئات نقدية مختلفة.
قادت التحقيقات إلى توقيف 6 أشخاص، من ضمنهم 5 أشخاص من خارج البنك المركزي، بتهمة “اختلاس الأموال العامة” و”تزوير العملة الصعبة”، وتقود التحقيقات إلى أن شبهات تحوم حول متورطين آخرين في الملف من خارج موظفي البنك ولكن تربطهم صلة به.
إلى جانب عملية الاختلاس، عُثر على نصف مليون دولار أمريكي مزور في خزنة العملة الصعبة داخل البنك المركزي الموريتاني، في أكبر عملية احتيال في تاريخ البنك الذي تأسس عام 1973، ولم يعرف إلى الآن مستوى التزوير الذي خضعت له الأوراق النقدية التي عثر عليها إن كانت تعتبر تزويرًا متطورًا أم تقليديًا.
عمليات سطو متزامنة
القصة لم تنته هنا، فقد تم السطو على مكاتب الميزانية العامة بنواكشوط، وفق صحف محلية موريتانية، وتم الاستيلاء على وثائق، فالغاية لم تكن البحث عن المال، فمباني الميزانية لا تحفظ فيها أي مبالغ مالية، وقد فتحت السلطات الموريتانية تحقيقًا في الحادثة لمعرفة إن كان ما تعرضت له مكاتب الميزانية عملية تلصص، أم أنها بهدف الوصول إلى وثائق أو إخفاء معلومات.
عقب ذلك تمت عملية سطوة أخرى، هذه المرة تم استهداف مبنى المحكمة العليا، وتحطيم 5 أبواب للوصول إلى غرفة الوثائق الخاصة رغم وجود أفراد من شركة التأمين الخاصة، بالقرب من النوافذ، وتمكن المقتحمون، وفق الإعلام المحلي من الوصول إلى وثائق الغرفة المدنية الأولى ومكتب السكرتاريا، حيث استولوا على بعض الوثائق وبعدها لاذوا بالفرار.
لم يتأكد إلى الآن، ما إذا كانت لهذه العمليات علاقة بحادثة الاختلاس والتزوير الكبرى التي تعرض لها البنك المركزي الموريتاني، وأفقدته نحو 2.4 مليون دولار من احتياطاته بالعملة الصعبة، لكن العديد من الموريتانيين تساءلوا عن الجرأة التي يملكها منفذو هذه العمليات خاصة أنها تمت ليلًا في ظل حظر التجوال ووجود حراس الإدارة بالمكان.
رغم عدم وجود نية واضحة لمحاسبة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز ومحاكمته، فإن حاشيته يخشون مجرد توجيه تهم تتعلق بالفساد له
إثر هذه العمليات قررت السلطات الموريتانية ترك مسؤولية بعض المنشآت الحساسة في الدولة للحرس الوطني الموريتاني من بينها البنك المركزي الموريتاني، وقال موقع صحراء ميديا الذي أورد الخبر إن وحدات من الأمن الخاص رقم 3 استلمت عدة منشآت من بينها أيضًا مكاتب في مباني الميزانية العامة.
التغطية على فساد ولد عبد العزيز
الواضح أن عملية اختلاس الأموال لم تتم مؤخرًا، بل تمت خلال فترة طويلة سابقة، ما جعل العديد من الموريتانيين يؤكدون أن الهدف من كشفها في هذا الوقت بالذات، التغطية على استدعاء الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز للمثول أمام لجنة تحقيق برلمانية لسماع وجهة نظره في بعض ملفات الفساد المتعلقة به.
يذكر أن لجنة التحقيق البرلمانية حددت غدًا الخميس، موعدًا للاستماع للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز لتقديم شهادته بشأن الملفات التي تحقق فيها، واستدعت اللجنة في رسالة لها ولد عبد العزيز، للحضور أمامها الخميس المقبل بمباني الجمعية الوطنية، وقالت اللجنة في رسالتها، إن جلسات الاستماع خلصت إلى أنه يُحتمل أن يكون الرئيس السابق، محمد ولد عبدالعزيز، ارتكب أفعالًا تشكل “مساسًا خطيرًا بالدستور والقانون”.
ونهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، شكل البرلمان الموريتاني بضغوط من المعارضة وبالإجماع، لجنة كلفت بالتحقيق في السنوات العشرة التي حكمها الرئيس السابق الجنرال محمد ولد عبد العزيز، ووقع طلب تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، 24 نائبًا جميعهم من المعارضة، باستثناء النائبين الدان ولد عثمان ومحمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل المنتميين للموالاة.
وتحقق هذه اللجنة في سبعة ملفات حصلت خلال حكم ولد عبد العزيز، هي: اختفاء أموال من صندوق العائدات النفطية وإفلاس الشركة الوطنية للإيراد والتصدير “سونمكس” وتسيير الهيئة الخيرية للشركة الموريتانية للصناعة والمناجم “أسنيم” وعقارات الدولة التي بيعت في نواكشوط وصفقة الإنارة العامة بالطاقة الشمسية وصفقة تشغيل رصيف حاويات ميناء نواكشوط المستقل وملف الشركة الصينية “بولي هوندونغ” العاملة في مجال الصيد البحري.
تعتبر هذه اللجنة البرلمانية، سابقة في تاريخ موريتانيا الحديث، حيث لم يسبق للبرلمان القيام بمهمة التفتيش والرقابة التي يخولها له الدستور والنصوص الداخلية له، كما لم يسبق أن شهدت البلاد فتح تحقيق في مرحلة من مراحل حكم أحد الرؤساء سواء المباشرين أم المنتهية ولايتهم أم المُنقلب عليهم.
من جهته، يعتقد الباحث الموريتاني في العلوم السياسية الشيخ يب ولد أعليات أن كشف عملية اختلاس الأموال من البنك المركزي وما رافقها من عمليات سطو استهدفت بعض مؤسسات الدولة الحساسة، في هذه الفترة بالذات، يهدف إلى توجيه الرأي العام إلى قضايا أخرى بعيدا عن لجنة التحقيق البرلمانية التي رفض ولد عبد العزيز المثول أمامها.
يؤكد رفض ولد عبد العزيز المثول أمام اللجنة تورطها في قضايا الفساد موضوع التحقيق، وأكدت وسائل إعلام محلية رفض الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز استلام الاستدعاء الذي وجه له من طرف لجنة التحقيق البرلمانية للاستماع لشهادته في ملفات تتعلق بفترة حكمه.
ويرى الشيخ يب ولد أعليات أن بقايا نظام ولد عبد العزيز حركوا أعوانهم وجماعتهم في الدولة لإلهاء الشعب عن متابعة حيثيات اللجنة التي تحقق في فساد ولي نعمتهم، فهؤلاء ما زالوا يتحكمون في بعض مفاصل الدولة ولهم القدرة على تحريك أي ملف متى شاؤوا وبالطريقة التي يريدونها، وما يؤكد ذلك أن الحكومة الموريتانية الحاليّة تضم وزراءً كانوا في التشكيلة الوزارية لنظام ولد عبد العزيز، وبالتالي فإن أي فساد يثبت لا شك سيشمل الجميع، وفق ولد أعليات.
رغم عدم جدية السلطات في مساعي محاسبة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز ومحاكمته، فإن حاشيته يخشون مجرد توجيه تهم تتعلق بالفساد له، ما من شأنه أن يضعف كلمتهم في الدولة، ويقلل مكانتهم فيها بعد عقود من سيطرتهم عليها وعلى ثرواتها، وهو ما يفسر دفاعهم المستميت عن ولد عبد العزيز.