سيبقى يوم 9/9/2014 أحد أكثر الأيام فجائعية بالنسبة للثوار السوريين والحركات الجهادية عامة، وعلامة فارقة في التاريخ السوري الحديث.
في حدث أشبه بالأساطير المؤسسة للتاريخ القديم، استشهد قرابة خمسين قياديّاً هم الصف الأول ومعظم الصف الثاني من قيادات حركة أحرار الشام الإسلامية، وفي مقدمتهم: أبو عبدالله الحموي (الأمير العام للحركة ورئيس المكتب السياسي للجبهة الإسلامية)، أبو طلحة الغاب (القائد العسكري للحركة)، أبو أيمن رام، أبو أيمن الحموي، أبو يزن الشامي، أبو عبدالملك الشرعي، أبو سارية الشامي، أبو حمزة الرقة، أبو الزبير الحموي, طلال الأحمد, أبو الخير طعوم..
كان هذا ضمن اجتماع هو الأول بهذا الحجم في العمق السوري والأهم في تاريخ الحركة لبحث التحالفات القادمة (مع مبادرة واعتصموا خاصة، والموقف من الخطة الأمريكية لضرب تنظيم داعش)، وكعادة الأساطير فلم يكتشف حتى الآن الأسباب الدقيقة للانفجار الذي تسببت “الغازات” المتسربة منه باختناق معظم إن لم يكن جميع من كان في مقر الاجتماع.
يقع (المقر صفر)، السري جدّاً قبل الحادثة، في بلدة (رام حمدان) بريف إدلب، وتحت الأرض المغطاة بالرمال بحيث لا يمكن حتى لطائرات الاستطلاع اكتشافه، وبين شبكة متداخلة ومراقبة تماماً من الحواجز الأمنية المحصنة، في منطقة سيطرة (أبو أيمن رام)، القيادي في حركة أحرار الشام وقائد لواء بدر، والذي كان أحد ضحايا الحادثة. ويعرف عن (أبو أيمن) جهده الأمني العالي والاحترافي ضد الاختراق أو الاغتيال المهدد به من قبل نظام الأسد أو تنظيم داعش، وهذا معروف عنه بالنسبة لاختيار المحيطين به أو لطبيعة مقراته وعمله، والذي تركز –عدا عن المعارك- في التصنيع العسكري، وكان أبو أيمن هو من أدخل العبوات الناسفة وصناعة الألغام إلى الثورة السورية المسلحة.
ورغم كثرة التكهنات التي ألبست بهذه الحادثة؛ فإن احتمال قصف المكان مستبعد تماماً، وكذلك السيارة المفخخة فضلاً عن الانتحاري، ويبقى البحث منصبّاً حول السبب وراء انفجار الذخائر التي كانت مخزنة في مستودع مجاور لمكان الاجتماع (مفتاح المستودع مع ثلاثة فقط كانوا ضمن الاجتماع)، أكان محض صدفة أو خطأ تقنياً أم بفعل فاعل (عبر أجهزة تتبع وتفجير عن بعد)؟، مع احتمال ضعيف بوجود قنبلة كيماوية أو فراغية صغيرة في مقر الاجتماع ترافق انفجارها –بمحض الصدفة- مع انفجار الذخائر في المستودعات، والتي لم تقتل قيادات الأحرار إلا عبر الغاز المتسرب منها (الجثث سليمة وتظهر عليها آثار اختناق وانتفاخ فقط).
ولعله من الهامشي الآن الغرق في هذه التفاصيل الجنائية أمام حادثة فجائعية ومؤسسة لمرحلة متابينة بعدها، على مستوى الثورة السورية، إن لم يكن بانعكاساتها على المشرق العربي المترابط الآن كما لم يكن من قبل، وإن كان لا بد من الاعتراف أن الاتجاه بهدوء نحو الكتابة التحليلية والموضوعية تحدٍّ صعب خاصة بالنسبة لمن كان على صلة عميقة بهذه التجربة الشهيدة.
أحرار الشام: من صيدنايا إلى الجبهة الإسلامية
كُتب كلام كثير في تأثير سجن “صيدنايا” والإفراج عن السجناء الجهاديين على مسار الثورة السورية، وعلى الخلافات الدموية الآن ما بين تنظيم داعش وجبهة النصرة والفصائل السورية، ولعل حركة أحرار الشام كانت الأغنى بالقيادات الذين تعارفوا ضمن (مدرسة النبي يوسف) – الكناية المستخدمة عن السجن في أدبيات الجهاد -، والذين عملوا معاً فيما بعد على تأسيس حركة أحرار الشام الإسلامية.
ينتمي معظم الصف الأول والثاني من القيادات إلى تجربة سجن صيدنايا، ونسبة كبيرة منهم إلى التجربة الجهادية العراقية، سواء بالمشاركة المباشرة بالقتال هناك أو بالعمل على إسنادها أو الترويج لها في سوريا، وقصة تطور هذه العلاقة من السجن إلى العمل المسلح إلى المشروع السياسي العسكري الأضخم في سوريا إلى الموت الجماعي؛ ليست على مستوى البحث الحركي والاجتماعي والفكري أقلّ أهمية أبداً من رمزيتها الشاعرية الواضحة.
أُعلن عن “كتائب أحرار الشام” في 11 تشرين الثاني 2011م، كتحالف لعدد من الكتائب في ريف حماة وإدلب خاصة؛ ذات انتماء – أو بالأحرى ميل – سلفي جهادي قبل أن ينضج تمايز الأيديولوجيات وتطورها في الساحة السورية، وكانت الكتائب العماد الأساس لـ الجبهة الإسلامية” التي أعلنت في 22 تشرين الثاني 2013، ولم تلبث أن اتحدت (كتائب أحرار الشام، حركة فجر الشام الإسلامية، كتائب الإيمان، الطليعة الإسلامية) ضمن “حركة أحرار الشام الإسلامية” بتاريخ 31 كانون الثاني 2013م.
وتنامى بالتدريج توسع الأحرار على مستوى “قُطري” لتمتد الحركة على كافة الجبهات بقوة وتأثير متفاوت، وكان المشروع النهائي هو “الجبهة الإسلامية” التي أعلنت في 22 تشرين الأول 2013م، قبل مبادرة واعتصموا التي أعلنت الحركة انضمامها إلى لجانها التحضيرية نهاية آب 2014م.
ولا يمثل توسع التحالفات مراحل تطور الحركة بمعزل عن تجديد الخطاب وتنقل موقعها الأيديولوجي ضمن الخارطة الجهادية، التطور الذي تسارع في الشهور الأخيرة.
بين الثوري والجهادي
يمكن النظر إلى موقع الحركة ومراحل تطورها من منظورين، كان أهم ما قدمته الحركة قدرتها على المزج بينهما والتموضع في مكان وسط بينهما:
أولاً: الثورة السورية
ابتدأ العمل المسلح في الثورة السورية كرد فعل للمجتمعات المحلية على عنف السلطة، مع حضور التدين كدافع هوياتي وروحاني للقتال والصمود، لا كأيديولوجيا جهادية سياسية، مثّل صعود حركة أحرار الشام مع تجارب مشابهة – لواء الإسلام خاصة بالنسبة للخطاب السلفي – توسع هذا القتال المحلي فكريا وجغرافيا، أولاً باستدخال الخطاب السلفي والجهادي ضمن المجموعات المحلية ليصبح الانتماء ذا طابع عقدي رسالي لا محض تضامني محدود، هذه البنية المزودوجة (المحلية، الرسالية) ما سمح بالتفكير على أساس “قُطْري” والتوسع ضمن “مجتمعات محلية” مختلفة وممتزجة، وهذا ما سمح بطرح الحركة كمشروع سياسي لا كمحض قتال دفاعي ضد النظام.
كانت الحركة المثال الأهم لمرحلة تحول المحلي نحو الايديوجي ضمن المجموعات المقاتلة في الثورة السورية، واستدخال الأيديولوجيا ضمن بنية الحركة ودوافع الانتماء إليها، وكانت أول من فكّر على أساس “قٌطْري” يتجاوز الأفق المحلي المحدود لبلدات ومدن قادة الكتائب، وأول من طرح المشروع العسكري كمشروع سياسي “وطني”، وحاول الإجابة عن سؤال الدولة عبر التركيز على العمل المؤسسي في القطاع العسكري أو قطاع الخدمات المدنية والمجالس القضائية، بغض النظر عن مدى نجاح أو إخفاق ذلك.
والكلام هنا بوضوح عن التطور “الداخلي” للمجموعات المقاتلة، والذي غذاه فشل الهيئات الرسمية المعترف بها في “الخارج” في فرض نفسها كمرجعية عسكرية سياسية وطنية للحراك الثوري.
ثانياً: التيار السلفي الجهادي
رغم الجذور السلفية الجهادية الواضحة لقيادات الحركة (أبو خالد السوري أحد مؤسسي الحركة كان ضمن مجلس شورى خراسان، ومبعوث الظواهري)، إلا أنه كان واضحاً منذ البداية تمايزها عن الجهاد المعولم، ومحلية تفكيرها ضمن الأفق السوري، عدا عن الجذور الحركية (السرورية) والإخوانية الحاضرة فيها (تجربة الطليعة المقاتلة خاصة)، وانتماؤها أكثر إلى الاتجاه النقدي تجاه تشدد فروع السلفية الجهادية (أبو مصعب السوري، عبدالله عزام)، ومحاولتها الاستفادة من تجربة حماس.
وكانت الأكثر تعبيراً عن مشروع (السلفية الوطنية) حتى مع الجبهة الإسلامية، قبل أن تتجاوز هذا مع المراجعات الفكرية والتحديات الميدانية، لتتبنى المشروع الإسلامي الحاضن للاختلاف والتنوع.
يمكن التعامل مع خارطة الانتماءات هذه كمجموعة من التيارات داخل الحركة وهذا صحيح، ويمكن التعامل معها أيضاً كإشكالية منهجية يفرضها أساساً التعامل مع ظواهر اجتماعية وسياسية وفكرية واسعة وتتشكل وتتفاعل ضمن الواقع، بناء على إجابات جاهزة ونماذج سابقة لا تقدم الكثير عن الخيارات التي ستتبعها هذه الظواهر، ولا عن بنيتها المركبة المتجددة.
وفرت الحركة مساراً سلفيا وجهاديا بديلاً “غير قاعدي” ولا معولم، وأكثر تجذّراً ضمن المجتمع المحلي، ويحدد أفقه بالبعد المحلي ومسار الثورة السورية، دون أن تخلو هذه العلاقة من قلق وصراع داخلي خفّت حدته شيئاً فشيئاً، يمكن القول هنا إن استدخال الأيديولوجيا السلفية الجهادية وتصنيف المقاتلين إلى إسلاميين وجيش حر، قد فرض نوعاً من المزايدة والتقسيم المشتت على الثورة السورية، ما سهل من مهمة داعش التي وجدت أرضية موضوعية لأطروحاتها، وما انعكس حتى على الخلاف في “الراية”، حيث من الملاحظ أن الحركة لم ترفع راية الثورة السورية الخضراء حتى اللحظة بسبب القناعة الراسخة لدى فئة واسعة من العناصر أن رفضها ضمن شروط تمايزهم كإسلاميين وجهاديين، ولكن من ناحية مقابلة يمكن القول إن وجود هذا المسار الجهادي المحلي والمعتدل كان حاضناً بديلاً لفئة واسعة من الشباب المتحمسين للأيديولوجيا الجهادية ألا ينضموا للقاعدة أو تنظيم داعش، وأن يكونوا مع المراجعات الأخيرة تياراً جهاديّاً ثورياً يجدد نفسه باستمرار وقادراً على المرونة وتشكيل حاضن للاختلاف، وجسر عبور ما بين الثورة المسلحة والتيارات الجهادية.
أكد خطاب الحركة وسياستها منذ البداية على تمايزه عن القاعدة، سواء بمحلية المشروع أو برفض التشدد الفقهي أو شعاراتية طرح الخلافة، أو بمرونة التحالفات مع التيارات الإسلامية الأخرى، وتقديم خطاب سياسي منذ وقت مبكر لعلاج “إشكاليات سورية” وطنية، مثل مشكلة الأقليات والمسألة الكردية وشكل نظام الحكم.
وتسارعت هذه المراجعات أكثر مع السنة الأخيرة، والتي فجرها انفلات الصدام مع تنظيم داعش الذي تركزت انتهاكاته قبل ذلك ضد حركة أحرار الشام الإسلامية نفسها (أبو عبيدة البنشي، محمد فارس المروش، الطبيب حسين السليمان)، والتي وجدت نفسها في موقف محرج بسبب رفض كثير من العناصر قتال التنظيم المعتدي عليهم بسبب تشربهم غير الناضج للخطاب الجهادي و”أخوة المنهج”، وحسْم داعش بالمقابل لموقفها منهم بكونهم مرتدين يُقتلون فوراً، هذه المفارقة الدموية التي ظهرت بأقصى ما يمكن حين انسحبت كتيبة تابعة لأحرار الشام من الرقة (كانون الثاني 2014) معتزلة قتال تنظيم داعش وبناء على اتفاق بينهما، فكان أن قتل التنظيم قرابة 120 مقاتلاً بعد أن اعتزلوا قتاله وأخذوا منه عهد الأمان.
ولم تكن هذه المراجعات والانتماء بوضوح إلى الثورة السورية على حساب التيار الجهادي المعولم، موقفاً مجمعاً عليه في الحركة التي ضمت تيارات متباينة في خطابها ومدى قربها أو بعدها من الطرفين (كان هناك طرح يدعو لتوحد أحرار الشام مع جبهة النصرة وليس مع الجبهة الإسلامية)، ولكنها أضحت الموقف العام والرسمي للحركة، وبعد حسان عبود (أبو عبدالله الحموي) الذي ظهر كثيراً على وسائل الإعلام العربية والعالمية وكتب ردوداً أخذت صدى واسعاً في الفضاء الافتراضي الجهادي على اتهامات التيار السلفي الجهادي المعولم للحركة ورهانهم المستمر لكسبها نحو صفّهم، فقد كان يقوم هذا التجديد خاصة على منتجي الخطاب الفكري والشرعي للحركة: (أبو أيمن الحموي، أبو يزن الشامي، أبو عبدالملك الشرعي، أبو سارية الشرعي)، الخطاب الذي وصل حد الاعتذار من الانتماء يوماً ما إلى السلفية الجهادية، حسب النص المهم والموحي والذي أثار ضجة واسعة، والذي كتبه أبو يزن الشامي قبل استشهاده بأيام:
“نعم أنا كنت سلفيا جهاديا، وحبست على هذه التهمة في سجون النظام، واليوم استغفر الله وأتوب إليه واعتذر لشعبنا أننا أدخلناكم في معارك دونكيشوتية كنتم في غنى عنها، أعتذر أننا تمايزنا عنكم يوما، لأنني عندما خرجت من السجن الفكري الذي كنت فيه واختلطت بكم وبقلوبكم، قلت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق عندما قال (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، أعتذر منكم أعتذر، وإن شاء الله قابل الأيام خير من ماضيها لثورتنا ولإسلامنا.“
كانت الحركة تتجه لتكون المشروع الأقرب إلى نموذج حركة حماس الفلسطينية في سوريا، باعتبارها مشروعاً جهاديا سياسياً متجذّراً محليّاً، أو بالأحرى حاضناً ودافعاً نحو هذا المشروع.
أرهق هذا التموضع في الوسط قيادات الحركة، التي كانت وحدها بين فصائل الثورة السورية المشغولة بالرد على اتهامات أو مزايدات التيار السلفي الجهادي (إياد القنيبي مثالاً)، سواء بما يخص الجبهة الإسلامية أو ميثاق الشرف الثوري أو حتى مبادرة “واعتصموا”، ولكنه وفر صلة وصل بين الفصائل الثورية والتيار السلفي الجهادي، ومن الملاحظ أن الحركة كانت الأقدر على لعب دور الوسيط لدى أي خلاف بين الجانبين، وكانت الأقدر على ترشيد وعقلنة الخطاب الجهادي لدى آلاف من الشباب ضمن الحركة نفسها أو خارجها واكتسابهم كإحدى أكبر القوى الإسلامية الحاملة للثورة السورية، بينما سهل غياب الخطاب الجهادي الناضج والثوري من انتماء آلاف من الشباب السوريين إلى تجارب معادية للثورة السورية فكرياً وحتى ميدانيا.
ما بعد الفاجعة
أولاً: تحدي الحركة
رغم هول الحادثة، والغياب الجماعي لمعظم الصف الأول والصف الثاني من قيادات ورموز الحركة، إلا أن بنية الحركة العقدية والمؤسساتية واللامركزية (لتفصيل أكثر مراجعة دراسة الكاتب: ثورة المتروكين)، وغناها بالكوادر الشبابية الجامعية، عدا عن هذا “الحدث المؤسس” الذي يزيد من تماسك الانتماء والهوية، تمنع من انهيار أو تفكك الحركة، بينما كان هذا التفكك أسهل بالنسبة لفصائل اعتمد الانتماء إليها على مركزية القائد الكاريزمي (مثل لواء التوحيد)، أو تفتقد لهوية فكرية واضحة ورسالة عقدية جامعة.
في اليوم التالي للحادثة تم تسمية (أبو جابر الخفاجي) أميراً عاما للحركة، و(أبو صالح طحان) قائداً عسكرياً. كان أبو جابر أول من قرر قتال تنظيم داعش ضمن قيادات الأحرار، في الاشتباكات التي حصلت في بلدته مسكنة بريف حلب الشرقي نهاية 2013م، وهو مهندس عمل سابقاً في البحوث العلمية وسجن في صيدنايا، وينتمي للخط التجديدي في الحركة.
أما أبو صالح طحان فقد كانت أهم إنجازاته قيادة عملية تحرير مطار تفتناز بداية 2013م، وهو كذلك ضمن التيار المعتدل المقرب من المقاتلين.هذا بالنظر إلى أن الموت الملحمي لحملة خطاب المراجعات والتجديد سيرسّخ أكثر هذا الخط كمنهج عام في الحركة وفي غيرها.
ومع الارتباك المفهوم الذي عم الحركة وضرورة إعادة الهيكلة وترتيب الصفوف، فيبدو أن سلطة القرار غير المستقرة بعد ستكون في موقف مرتبك أمام التطورات المفصلية التي تمر بها الثورة السورية، خارجيا بالضربة الدولية لتنظيم داعش، وداخليا برهان الجميع على مبادرة “واعتصموا” لتكون الممثل الموحد للثورة السورية.
ثانياً: تحدي الثورة
ليس سهلاً على أي معركة أن تفقد فجأة قرابة خمسين من قياداتها وأعمدتها، لكن معركة الثورة السورية التي اعتادت أن تمشي على جراحها الغائرة، ورغم تأجيل ووقف معارك مهمة فور انتشار الخبر، فإن تعافيها الميداني ليس هو تحدّيها الأكبر مما فرضته الحادثة، خاصة أن الضعف العسكري قد طال أحرار الشام في المدّة الأخيرة الأخيرة بشكل ملاحظ في الشمال.
قدّمنا أن تمايز حركة أحرار الشام في كونها تقدم “الخطاب الثالث” والذي يمزج ما بين التيار السلفي والجهادي من جهة والثورة السورية من الجهة الأخرى، ويشكل جسر عبور بينهما مع انزياح مستمر تجاه الثورة السورية باعتبارها المشروع الجهادي الأهمّ، وبفقدان “منتجي” هذا الخطاب يصبح التمايز أوضح وأكثر ثنائية ما بين التيار الجهادي المعولم وفصائل الثورة السورية، هذا لا يؤسس لصدام بالضرورة، بقدر ما يعيد رسم العلاقة، لتصبح أكثر عسكرية وميدانية، وأبعد عن محاولة “الكسب الفكري” لأيّ منهما تجاه الآخر، التمايز الذي ستنفجر تناقضاته أشد ما يمكن فيما لو دخلت الضربة الدولية ضدّ “الإرهاب” حيز التنفيذ ضمن سوريا.
وظهور “العسكري” هذا لا يقتصر على العلاقة ما بين التيار السلفي الجهادي والثوار السوريين، بقدر ما يمتدّ إلى فصائل الثورة السورية نفسها والتي ما زال “العامل الفكري” ضعيف التأثير ضمن بنيتها وحركيّتها، باعتبار أن منظّري وقيادات أحرار الشام كانوا الأكثر مزجاً ما بين الميداني والفكري، والأكثر محاولة لإنتاج إجابات عن سؤال الدولة والسياسة والتحالف مع الآخر من منظورهم الشرعي، ووصلوا إلى مراحل متقدمة في ذلك مع المراجعات الأخيرة، وهذا يضع الرهان مفتوحاً أمام نضوج وترسيخ خطاب إسلامي ثوري وطني يكون الأساس الجامع للثوار السوريين ومشروعهم.
خلاصة
مثلت حركة أحرار الشام بمراحل تطورها وتجديد رؤيتها ومراجعاتها تجربة جهادية محلية ومتجذرة ضمن المجتمع السوري، وبأهداف سياسية واضحة، وقناعة بالمشروع الإسلامي الحاضن للاختلاف والتنوع، وتجديداً حقيقيا -نظريا وحركيا- لمفهوم الجهاد بمعناه السلفي خاصة، وكانت حجةَ الثوار السوريين أمام اتهامات التيار السلفي الجهادي المعولم لتحالفاتهم وأهدافهم، كما إنها تضمنت تيارات متباينة الموقف من نقد التيار السلفي الجهادي وقتال داعش، ولم تخلُ بعض فروعها ورموزها من تشدد وإقصائية نظرية أو تجاوزات وأخطاء عملية، إلا أن الموقف الرسمي والعام في النهاية كان المسار التجديدي والثوري وتفضيل الانتماء إلى “الأمة” على التقوقع ضمن “المنهج”.
ورغم الفجائعية والرمزية الروحانية العالية لهذه الشهادة الجماعية، فإن الحركة ليست معرضة للتفكك، وإنما لتعزيز هويتها كحركة، وتقع الآن أمام اختبار صعب لقدرتها على تجاوز المحنة واختيار موقف موحد من التحالف مع مبادرة “واعتصموا” من جهة؛ ومن الضربة الدولية تجاه تنظيم داعش من جهة مقابلة.
كما إن خارطة التصنيف والجدل الأيديولوجي في الثورة السورية تصبح أكثر ثنائية ما بين الثوار السوريين والتيار السلفي الجهادي المعولم، ما يجعل “الميداني” أكثر وضوحاً في هذه العلاقة التي تقع أيضاً على رهان صعب إن امتدت الضربة الدولية إلى جبهة النصرة أو فصائل أخرى.
وما بين الفقدان الجماعي لقيادات أحرار الشام والخطة الدولية لإعادة رسم الخرائط في المشرق العربي، يبدو أن التاريخ وضع “ثورة المتروكين” هذه أمام تحوّلات كبرى لا تكفي فيها الدماء –حسب درس التاريخ نفسه- لانتصار القضايا العادلة.
نُشر هذا المقال لأول مرة في منتدى العلاقات العربية والدولية