“هؤلاء مندسون يأخذون رواتب من الخليج وإسرائيل لإيذاء العراق، المواطنون الصالحون انسحبوا، ولم يبق إلا الشراذم الذين يعملون لصالح أمريكا حتى تسرق النفط”!
كان هذا كلام قائد شرطة البصرة الفريق رشيد فليح لمجموعة من قوات الشرطة وهو يتحدث عن مظاهرات تشرين السلمية التي خرجت ضد الفساد، لم يكن الرجل يوجه خطابًا إنشائيًا وإنما كان الأمر امتدادًا لما فعلته حكومة عادل عبد المهدي بتشويه صورة المتظاهرين وقمعهم واعتقالهم باسم القانون كما جرت العادة.
ليس من المعروف مجموع المعتقلين في الاحتجاجات الأخيرة، لكن القضاء العراقي أطلق سراح 2700 فرد منهم أواخر عام 2019 قبل أن يقرر رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي إطلاق سراح البقية، وفي كلتا الحالتين كان القضاء أداةً في يد الحكومة لا العكس، والمفارقة أن القضاء الذي أمر بإطلاق سراحهم هو القضاء الذي اعتقلهم وهو نفسه المتستر على ملفات الفساد العملاقة في البلد، وفيما أدرك مجموعة من العراقيين الآن الظلم المُرتكب باسم القضاء بعدما مسهم عيانًا، كان الكثيرون منهم قد خبروه جيدًا منذ عام 2003!
فتش عن نيغروبونتي
خلال عامي 2003 و2004، وفي أثناء تأسيس الدولة العراقية الجديدة على يد الولايات المتحدة، كان العدو الأول الذي يواجهه مشروع بقاء القوات الأمريكية والدولة العراقية ما عُرف حينها بـ“التمرد السني”، ومع وصول العمليات العسكرية ضد القوات الأمريكية إلى حد غير مقبول من الخسائر، لجأت الولايات المتحدة لإستراتيجية جربتها من قبل “خيار السلفادور”.
كانت هذه الإستراتيجية كما يصفها الكاتب راسل كاندل في كتابه “خيار السلفادور: أمريكا في السلفادور 1977- 1991″، تشتمل على قمع التمرد المناهض لوجودها – ووجود الحكومة العميلة لها – هناك الذي حصل عامي 1984-1986، لكنه كان يتم بواسطة تكتيكات، حيث تقوم قوات الحكومة المدربة على يد وكالة الاستخبارات الأمريكية “فرق الموت”، باقتياد المعارضين لجهات مجهولة ثم قتلهم وإلقاء جثثهم في الطرقات أو أنابيب المجاري والأنهر، وتعذيب غيرهم والإبقاء عليهم في السجون بتهم وهمية!
في العراق، تم استنساخ الإستراتيجية نفسها، وللمفارقة مع نفس القادة الذين نفذوها في السلفادور: جون نيغروبونتي الذي عُين سفيرًا في العراق عام 2005، والكولونيل جيمس ستيل المسؤول عن تحويل عمليات القتل والاختطاف إلى قمع باسم القانون.
يقول تحقيق أعدته صحيفة الغارديان وهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، إن قوات مغاوير الداخلية التي يشرف على تدريبها جيمس ستيل كانت تشن حملات اعتقال ضد الشباب في المناطق التي تنطلق منها العمليات ضد القوات الأمريكية، وكانت عمليات التعذيب تمارس بحقهم لانتزاع اعترافات بالقوة منهم لارتكابهم تلك الجرائم.
كما تقول الكاتبة الكندية ناومي كلين في كتابها عقيدة الصدمة: “لترهيب الناس أكثر، كان هناك برنامج يُعرض على قناة العراقية يسمى “الإرهاب في قبضة العدالة”، حيث يُعتقل الناس من الشوارع عشوائيًا ويتم تعذيبهم وتهديد عائلاتهم إذا لم يعترفوا بأنهم إرهابيون ومثليون وكذبة”، وكل هذا يتم باسم القانون وتتم محاكمتهم قضائيًا!
ينتظر المعتقلون سنوات في تحقيقات لا تأخذ أيامًا في الحالات الاعتيادية وفي الجرائم الجنائية التي يتم التحقيق فيها داخل مراكز الشرطة
في ذلك الوقت، فيما كانت أجهزة الدولة العراقية تبنى من جديد، أصبح هدف القضاء العراقي المعاد تشكيله تنفيذ تلك السياسات بالتزامن مع بناء أذرع تنفيذ القانون الأخرى من الجيش والشرطة، بمرور السنين ومع الأزمات المتتابعة التي شهدها العراق حتى يومنا هذا، كان القضاء العراقي مشغولًا بحل – أو بمعنى أدق تأخير – قضايا آلاف الموقوفين الذي قضوا سنوات في السجن دون محاكمة أو توجيه تهم واضحة إليهم إلا تهمة الإرهاب، كجزء من إستراتيجية خيار السلفادور!
قانون مكافحة الإرهاب.. العدالة لا تقبل القسمة
في العام 2010، نشرت شبكة سي إن إن تقريرًا مطولًا بالتعاون مع منظمة العفو الدولية قالت فيه: “هناك تعمد واضح لإبقاء المعتقلين المتهمين “بالإرهاب” في السجن، يقبع نحو 30 ألف موقوف دون محاكمة منذ سنين طويلة في ظروف سيئة تخالف القوانين الدولية وحقوق الإنسان، كما أن أغلبهم يواجه تهمًا ملفقة”.
فما قانون الإرهاب؟ قانون فضفاض لا ينص على جرائم محددة على غرار قانون العقوبات العراقي، وأغلب أحكامه تستند في النهاية إلى المادة 406 – القتل العمد – في القانون العراقي، حيث ينص القانون رقم 13 – إرهاب على: “كل فعل إجرامي يقوم به فرد أو جماعة منظمة استهدف فردًا أو مجموعة أفراد أو جماعات أو مؤسسات رسمية أو غير رسمية أوقع الأضرار بالممتلكات العامة أو الخاصة بغية الإخلال بالوضع الأمني والاستقرار والوحدة الوطنية أو إدخال الرعب أو الخوف والفزع بين الناس أو إثارة الفوضى تحقيقًا لغايات إرهابية”.
ما الغرض من إقراره إذن؟ خلق حالة قانونية استثنائية وإجراءات مطولة لاحتجاز المعتقلين لأطول فترة ممكنة، وهو ذات الأمر الذي يتكرر بالمناسبة الآن في مصر و”إسرائيل” تحت اسم الاحتجاز الإداري.
ينتظر المعتقلون سنوات في تحقيقات لا تأخذ أيامًا في الحالات الاعتيادية وفي الجرائم الجنائية التي يتم التحقيق فيها داخل مراكز الشرطة، فالإجراءات القانونية تبدأ ضد المعتقل منذ اليوم الأول. يكفي أن يتقدم أي مشتكٍ بدعوى ضد شخص ما بتهمة الإرهاب ليتم اعتقاله، ومنذ تلك اللحظة يدخل في دوامة هذه الدائرة المفرغة من الإجراءات: تبدأ بالتحقيق وتعذيب المعتقل لإجباره على الاعتراف حتى لو كان الحادث غير موجود أصلًا، ولا تتوقف عند طلب الكثير من الأوراق منها أصل أخبار الحادث من مركز الشرطة وهي عملية تأخذ شهورًا لأن التحقيق يتم في مراكز أخرى مستقلة، بالتالي فحتى لو كنت بريئًا أو خارج البلد وقت حدوث الجريمة، وحتى لو ثبت بعد أشهر من المخاطبات الرسمية أن الحادث غير موجود أصلًا، تكفل الإجراءات الطويلة وضعك في الاعتقال لمدة عام أو عامين!
يخول قانون الإرهاب أيضًا الاعتقال الاحترازي – بمجرد الشك – ضمن قانون الطوارئ الذي تم تطبيقه بصورة غير قانونية خلال خطة فرض القانون عام 2007، وخلال السياسات الطائفية سيئة الصيت من حكم رئيسي الوزراء إبراهيم الجعفري ونوري المالكي (2005 – 2014)، كان شغل القضاء الأول تصفية الخصوم وتوجيه تهم الإرهاب لكل من يُشك بمعارضته النظام القائم حتى من السياسيين ذوي المناصب الحساسة في الدولة.
أدت تلك السياسات باستخدام القضاء كوسيلة للتصفية إلى أمرين: الأول احتجاجات شعبية في المناطق الغربية والشمالية، عالجها رئيس الوزراء وقتها نوري المالكي بمزيد من الاعتقالات وبالتالي تفاقم الوضع وصولًا لاحتلال داعش لـ3 محافظات عراقية، والثاني غياب شبه تام لملفات الفساد من أجندة القضاء، وهو أمر طبيعي حين يكون القضاء أداةً بيد الفاسدين!
أدركت الأغلبية من الشعب أن المعركة لم تكن يومًا طائفية بين أطياف الشعب الواحد وإنما كانت ستارًا يغطي به الفاسدون على سرقاتهم
هنا يبرز السؤال الأهم: أين كان الشعب؟
كان مغيبًا خلف صراع طائفي وخلف عدو وهمي يتم تخويفه به: الإرهاب تارة والبعث تارة أخرى، وحين كان لا بد من إعلان النصر الساحق على كلا الاثنين بعد تحرير الموصل، لم يعد هناك فزاعة تبرر كل هذا الفساد والتخلف الذي يعيشه بلد تبلغ موازنته 100 مليار دولار.
بدأت المظاهرات بالانطلاق من نفس الحاضنة السابقة للحكومة في وسط وجنوب العراق، لكن تلك الجموع وجدت نفسها تواجه نفس الوسائل، القمع باسم القانون! أعطى المتظاهرون 600 شهيد وآلاف الجرحى معظمهم أصيب بإعاقات دائمة، سقطوا إما بنيران القوات الحكومية أو بتواطؤ منها كما يقول تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش!
الآن، بعد 17 عامًا من السكوت على الفساد وقمع المعارضين، أدركت الأغلبية من الشعب أن المعركة لم تكن يومًا طائفية بين أطياف الشعب الواحد وإنما كانت ستارًا يغطي به الفاسدون على سرقاتهم، ولم يكن الأغلبية الساحقة من أولئك المعتقلين إرهابيين، وإنما كانوا مواطنين عاديين طالبوا بحقوقهم لا أكثر.
حق طالبت به مدينة الناصرية – رمز الثورة في الجنوب -، فتعرضت لمثل ما تعرضت له الرمادي – رمز احتجاجات عام 2013 في الغرب – من قتل واعتقال واختطاف بنفس سياسات الدولة منذ العام 2003، حقًا.. لقد أُكلت يوم أٌكل الثور الأبيض!