شكلت ظاهرة الجريمة السياسية إحدى أبرز التمثلات الجديدة في العراق بعد عام 2003، إذ مثلت الوجه الحقيقي لظاهرة غياب الدولة وسلطانها القانوني وضبطها الدستوري، حيث شهد التاريخ السياسي العراقي بعد ثبوت ظاهرة الاحتلال الأمريكي في العراق، العديد من الجرائم السياسية التي ارتكبت بدوافع سياسية عدة، منها الاختلاف في رؤية العراق الجديد ما بعد الاحتلال والموقف من الاحتلال الأمريكي أو الموقف من الدور الإيراني أو الموقف من العملية السياسية، أسباب متعددة دفعت العديد من القوى العسكرية وحتى السياسية في بعض الأحيان، إلى الخروج عن تقاليد العمل السياسي المعمول بها في أغلب الديمقراطيات العالمية، لتمارس جريمة القسر السياسي بالضد من المعارضين أو المختلفين معها بالرأي والموقف.
إن الضعف الكبير الذي مرت به الحكومات العراقية ما بعد 2003، فضلًا عن عملية التهجين الكبيرة التي شابت المؤسسات الأمنية العراقية، من خلال إدخال العديد من العناصر المسلحة التابعة لأحزاب وفصائل معينة، إلى جانب سياسات الإقصاء والتهميش السياسي، ساهمت جميعها في خلق بيئة مواتية لتفعيل مبدأ الجريمة السياسية كإحدى ممارسات العمل السياسي في العراق، والهدف من ذلك كله خلق رادع سياسي عند الخصم المستهدف، ولنا في عمليات القتل التي تعرض لها العديد من الناشطين السياسيين والإعلاميين خلال فترة انتفاضة تشرين 2019 وما بعدها، خير مثال على ممارسات الجريمة السياسية في العراق.
المنعرجات الخطيرة التي تمر بها العملية السياسية اليوم، توحي وبما لا يقبل الشك، أن هناك سلسلة من الجرائم السياسية التي سترتكب في العراق، طالما أن مسارات الصدام بين الكاظمي والفصائل المسلحة لم تحسم بعد
سلطت عملية اغتيال الباحث السياسي العراقي هشام الهاشمي، الضوء على الهشاشة الأمنية التي تعاني منها المنظومة الأمنية العراقية، وذلك بحكم ثقل الباحث أمنيًا وسياسيًا، وألقت الضوء مرة أخرى على ضرورة تفعيل سلطة القسر الحكومي للحد من هذه الاختراقات الأمنية الخطيرة، والأكثر من ذلك أثبتت صحة الفكرة القائلة بضرورة حصر السلاح بيد الدولة، خصوصًا أنه أصبح اليوم أقوى من الدولة وأشد فتكًا منها.
وعلى هذا الأساس أنتجت هذه الحالة ضعفًا أمنيًا واضحًا، قد ينعكس سلبًا على مستقبل حكومة مصطفى الكاظمي التي لم يمض من عمرها إلا شهرين، فيما يبدو من الجهة المقابلة تصعيدًا حقيقيًا من الفصائل المسلحة المقربة من إيران (باعتبارها المتهم الأول بالوقوف خلف عملية الاغتيال هذه) لمسارات المواجهة مع الكاظمي، باعتبار أن الهاشمي كان من المقربين له.
إن المنعرجات الخطيرة التي تمر بها العملية السياسية اليوم، توحي وبما لا يقبل الشك، أن هناك سلسلة من الجرائم السياسية التي سترتكب في العراق، طالما أن مسارات الصدام بين الكاظمي والفصائل المسلحة لم تحسم بعد، فضلًا عن أن العديد من المصادر الاستخبارية تحدثت عن قوائم تضم أسماء العديد من الناشطين والإعلاميين التي تسعى هذه الفصائل المسلحة لتصفيتها، بسبب موقفها المعادي من ممارساتها السياسية والأمنية الأخيرة في العراق.
إلى جانب ما تقدم، يبدو أن مبدأ التسوية السياسية التي اعتمدها الكاظمي منذ الأيام الأولى لتسلمه رئاسة الحكومة العراقية، لم تعد مقنعة لهذه الفصائل، التي ما زالت تنظر إليه على أنه مرشح مفروض عليها، بفعل صفقة تسوية غير مباشرة جرت بين واشنطن وطهران في الأيام التي سبقت تشكيل الحكومة، وهو ما عبر عنه صراحةً العديد من قيادات الفصائل المسلحة بعد حادثة الدورة التي قام بها جهاز مكافحة الإرهاب العراقي في 26 من يونيو الماضي، عندما داهم مقرًا تابعًا لكتائب “حزب الله” العراقي واعتقل 13 عنصرًا من الكتائب، بسبب التحضير لهجمات صاروخية على مطار بغداد الدولي.
وعلى الرغم من البيان الصريح الذي تحدث به الكاظمي عقب عملية الاغتيال هذه، من خلال تأكيده بعدم السماح بعودة الكواتم وسياسة المافيا للعراق مجددًا، فإن الفصائل المسلحة يبدو أنها غير آبهة بالموقف الحكومي الأخير، ولعل السبب الرئيس في ذلك، هو نجاحها في تعريف أي مواجهة تجري بينها وبين الحكومة تحت عنوان المقدس والمؤامرة الأمريكية، في إطار يسمح لها باستخدام كل وسائل القسر للدفاع عن وجودها (الشرعي) الذي اكتسبته من الحرب على تنظيم داعش، وهو ما يدفعنا هنا للحديث عن الشرعية التي ستتنتصر بالنهاية، شرعية الدولة أم شرعية اللادولة!
يبدو أن الواقع السياسي العراقي مهيأ لمزيد من الأزمات مستقبلًا، خصوصًا أن الخشية الأبرز تتمثل في إمكانية تصاعد معدل الجرائم السياسية في العراق
إن النظرة الفاحصة لطبيعة المستقبل الذي ينتظر العملية السياسية يبدو صعبًا للغاية، وتكمن هذه الصعوبة في غياب الحدود الفاصلة لخطوط الصراع بين الطرفين، فلكل منهما أسباب تدفعه للمواجهة، ففي الوقت الذي ينظر فيه الكاظمي بأن الضرورة الحكومية تدفعه لضبط سلاح هذه الفصائل وإدماجها ضمن المؤسسة الأمنية العراقية، حسب ما نصت عليه العديد من الأوامر الديوانية الصادرة في هذا المجال، التي يأتي في مقدمتها القانون رقم 40 لسنة 2016، الذي تحدث عنه صراحة أفي ثناء زيارته لمقر هيئة الحشد الشعبي في 16 من يوليو الماضي، تنظر الفصائل المسلحة إلى أن الضرورة المتمثلة بالحفاظ على ديمومة محور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة، يدفعها للمواجهة وعدم تسليم سلاحها، باعتبارها تابعة بالولاء للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي الذي يعد ولي الأمر والقائد الأعلى لها، وتسمو طاعته على طاعة الكاظمي.
وفي ظل هذا المشهد السياسي والأمني المعقد، يبدو أن الواقع السياسي العراقي مهيأ لمزيد من الأزمات مستقبلًا، خصوصًا أن الخشية الأبرز تتمثل في إمكانية تصاعد معدل الجرائم السياسية في العراق، وهو توجه إن حصل، سيدخل الدولة العراقية في دوامة خطيرة، قد تشكل بدورها مدخلًا رئيسًا لإدخال حلقة جديدة من حلقات الصراع الدامي في العراق.